الإنتفاضة الفلسطينية المفقودة والمُفتَقَدة

على أثر الهجوم الإسرائيلي على غزة في صيف 2014، توقع الكثيرون أن تهب إنتفاضة ثالثة في الضفة الغربية، ومع هجوم لإرهابيين يهود على حرق منزل فلسطيني في قرية دوما في آخر تموز (يوليو) راح ضحيته طفل لم يتجاوز عمره ال18 شهراً ووالده، إنتشر الكلام مجدداً عن هذه الإنتفاضة… ولكن لا شيء حدث. هل هناك سر وراء ذلك؟

بنيامين نتنياهو: حوار مع "حماس"؟
بنيامين نتنياهو: حوار مع “حماس”؟

رام الله – سمير حنضل

في 31 تموز (يوليو) الفائت ألقى مشاغبون إسرائيليون قنابل حارقة على منزل صغير في قرية دوما في الضفة الغربية. وقد أودى هذا الهجوم، الذي يُشتبه بأنه من عمل إرهابيين يهود، بحياة طفل فلسطيني لم يتجاوز ال18 شهراً ووالده، ونقل الأخوة الآخرون مع والدة الطفل إلى قسم العناية الفائقة في أحد المستشفيات. ومنذ ذلك الحين تم إعتقال عدد من المتطرفين اليهود، لكن الجناة ما زالوا طليقين. كانت المأساة المروّعة دعوة إيقاظ عاجلة، قال العديد من السياسيين الإسرائيليين، لإجراء بعض البحث الجدي عن الذات في المجتمع الإسرائيلي. ويمكن أن تكون أيضاً شيئاً أكثر: الشرارة التي تُشعل حريقاً على نطاق أوسع في الضفة الغربية. ومع ذلك فإن التوقعات التي تكاثرت حول “إنتفاضة ثالثة” لم تتحقق مرة أخرى.
لسنوات عدة حتى الآن، كان المعنيون في مجال الأمن الإسرائيلي قلقين من أن هجوماً مميتاً من قبل المستوطنين اليهود على المدنيين الفلسطينيين قد يؤدي إلى إضطرابات شاملة في الضفة الغربية. في الواقع، إن التسبّب في هذه الإضطرابات كان هدفاً مُعلَناً للمتطرفين المستوطنين منذ بعض الوقت. كما أشار كتيب عُمّم في العام 2012 إلى، أن إستهداف السكان الفلسطينيين هو إستراتيجية ل”بلبلة توازن النظام،” من خلال تقييد موارد الجيش والشرطة الإسرائيلية و”إرسال رسالة” ردع إلى السلطات. إذا لم يُسمَح للمستوطنين الحفاظ على منازلهم، فإن الحكومة الإسرائيلية عندها لن يُسمَح لها المحافظة على الهدوء في الضفة الغربية.
في أعقاب هجوم دوما، حرّك الجيش الإسرائيلي أربع كتائب إضافية إلى الضفة الغربية، متوقعاً الأسوأ. لقد حدثت إحتجاجات صغيرة النطاق في عدد قليل من المدن، ولكنها تلاشت بسرعة. وبالمثل، كانت هناك زيادة في الهجمات على الجنود والمدنيين الإسرائيليين من قبل مقاتلين فلسطينيين مستقلين، ولكن لم يجتح العنف الشديد والفوضى الضفة الغربية. إن غياب الإضطراب المستمر لا يزال لغزاً محيراً بالنسبة إلى كثيرين.

أمر من فوق

إن أهم عامل في تحويل التوتر إلى صراع مفتوح كان يكمن دائماً في التنظيم والتشجيع اللذين تقدّمهما إلى حدّ ما القيادة الفلسطينية. حتى الإنتفاضة الأولى، التي إندلعت إسمياً بسبب مقتل شخص في حادث مرور معزول في قطاع غزة في كانون الأول (ديسمبر) 1987، إستمرت لسنوات، وتحديداً بسبب بنية تحتية مُنظِّمة أَدارتها لجان مدنية وعمالية وطلابية محلية والتي جاءت في نهاية المطاف لتشمل منظمة التحرير الفلسطينية.
كما أن القيادة الفلسطينية أيضاً أشعلت لهيب الإنتفاضة الثانية التي إندلعت في أيلول (سبتمبر) 2000 بعد زيارة زعيم المعارضة آنذاك أرييل شارون الإستفزازية إلى الحرم الشريف. ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية يومها، نظّم مظاهرات حاشدة وعنيفة. ودعا أبو عمار يومها إلى مسيرة “المليون شهيد” للوصول إلى القدس، وأطلقت حركة “فتح” التي يتزعمها (والتي تهيمن على السلطة الفلسطينية) جناحها العسكري الخاص، “كتائب شهداء الأقصى”. وكان العديد من هؤلاء المسلحين، قبل إندلاع القتال، من الموظفين الرسميين، وأفراد يرتدون الزي الرسمي لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
وقد لعبت القيادة الفلسطينية أيضاً دوراً أساسياً في إدارة التوترات خلال الآونة الأخيرة. على سبيل المثال، جاءت البرهة لحدوث إضطرابات كبيرة في الضفة الغربية منذ إندلاع الإنتفاضة الثانية في الصيف الماضي، في ذروة حرب غزة بين إسرائيل و”حماس”. في ليلة 24 تموز (يوليو) 2014، سار بين 10،000 و25،000 فلسطيني إلى حاجز قلنديا بين رام الله والقدس. علماً بأن أكثرية المظاهرات في الضفة الغربية حشدت عشرات المتظاهرين، ونادراً ما تجاوزت بعض الآلاف.
وكما قال مسؤول كبير في المخابرات الفلسطينية لي بعد ذلك، إن المسيرة إلى حاجز قلنديا لم تكن تدفقاً عفوياً عاطفياً. كما أنه لم يكن حدثاً برعاية “حماس”. كانت حركة “فتح” هي التي نظّمت المظاهرة، من أجل السماح للجمهور ب”التنفيس” فيما “توجّه غضب الناس ضد اسرائيل، وليس ضد السلطة [الفلسطينية]”، كما أوضح المسؤول. إن قيادة “فتح”، يتابع، أرادت أن تظهر كداعمة للشعب الفلسطيني، مع “الحفاظ على نوع من السيطرة” في الوقت عينه.
لقد تحوّلت المظاهرة في تلك الليلة بسرعة إلى أعمال شغب، مع إستهداف المتظاهرين لقوات الأمن الإسرائيلية بالألعاب النارية، والحجارة، وحتى إطلاق النار من مسلحين يُعتقَد أنهم ينتمون إلى قوات “كتائب شهداء الأقصى”، والتي بقيت نائمة لسنوات. مع ذلك، كانت أحداث تلك الليلة لمرة واحدة. بالنسبة إلى الجزء الاكبر، فقد سعت السلطة الفلسطينية إلى إحتواء الإحتجاجات، بدلاً من التغاضي عنها، ناهيك عن عدم القيام بأي نشاط في تنظيمها.
وغالباً ما أساء السياسيون الإسرائيليون فهم هذا الأمر. على سبيل المثال، رداً على حرق المراهق الفلسطيني محمد أبو خضير حياً من قبل متطرفين يهود في الصيف الماضي، إندلعت أعمال شغب في بلدات عربية عدة داخل إسرائيل والقدس الشرقية، ولكن ليس في الضفة الغربية. وسط إرتفاع حدة التوتر وموجة الهجمات الإرهابية التي وقعت في القدس، فإن العديدين من السياسيين الإسرائيليين اليمينيين حمّلوا الرئيس الفلسطيني محمود عباس تهمة التحريض على الإضطرابات، واصفينه بأنه “إرهابي”. ورفض رئيس المخابرات المحلية في إسرائيل، يورام كوهين، هذا التقييم، قائلاً للنواب أن عباس “ليس مهتماً في الإرهاب وهو لا يقود [قومه] إلى الإرهاب. ولا يقوم بذلك بالخفاء من تحت الطاولة”.
الواقع أن رفض السلطة الفلسطينية تشجيع العنف يفسّر لماذا ظلت الضفة الغربية هادئة حتى بعد هجوم دوما الأخير. “لو كانت هناك خطة ل… دفع الشارع الفلسطيني نحو إشتباكات”، قال أحد مسؤولي “فتح” جبريل رجوب، أخيراً لصحيفة اسرائيلية، “فإن الوضع الحالي كان سيكون مختلفاً جداً. ولكن كان القرار واضحاً، وقادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية كانوا موجودين، وفهموا اللهجة، وتعليماتهم”.
لا تزال شرطة مكافحة الشغب التابعة للسلطة الفلسطينية تقوم بمثابة عازل أولي لإحتواء المظاهرات في المدن الفلسطينية، قبل أن تتمكن من الوصول إلى الحواجز العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات. وقد أجرت قوات الأمن والمخابرات الفلسطينية حملة غير مسبوقة على الأفراد التابعين ل”حماس” في الضفة الغربية، وإعتقلت ما يزيد على ألف من ناشطي الحركة في العام الماضي. كما أن الشبكة الواسعة المحسوبة على “فتح”، التي تصل إلى جميع جوانب الحياة المؤسسية الفلسطينية – المكاتب الحكومية، المدارس، والمساجد — لم يتم حشدها للنزول الى الشوارع.

شريك للسلام؟

على الرغم مما إختار كثير من الإسرائيليين الإعتقاد، فإن لديهم شريكاً في الجانب الفلسطيني مهما كانت عيوبه. لقد حافظت السلطة الفلسطينية على الإستقرار نسبياً في الضفة الغربية، في جزء منه للحفاظ على الذات، وبالتعاون مع إسرائيل، ولكن أيضاً كموقف مبدئي ضد إستخدام العنف. “شعاري منذ إندلاع الإنتفاضة الثانية أنه يجب أن تتوقف،” قال عباس في العام 2010، “لأن النشاط المسلح يدمّرنا، وإنه في الواقع دمرنا فعلاً”. مثل هذه المصالح الإستراتيجية المتبادلة مع كيان عربي مجاور من شأنه، في سياق سياسي مختلف، يمكن البناء عليها وتوسيعها. ولكن في حالة السلطة الفلسطينية أو الحكومة الإسرائيلية، فقد تم تجاهل هذه المصالح المتبادلة.
وعلى الرغم من النفي الرسمي الذي صدر أخيراً عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لا تزال الشائعات تفيد بأن إسرائيل تتفاوض بشكل غير مباشر مع “حماس” على هدنة طويلة الأمد. فقط بعد عام واحد على خوض الطرفين حرب وحشية على مدى 50 يوماً، فإن “حماس” صارت تُعتبَر الآن من قبل البعض في الدولة العبرية عازلاً ضد الفوضى وصعود تنظيم “داعش” في قطاع غزة. ليست هناك مفاوضات مماثلة جارية حالياً مع السلطة الفلسطينية، شريك إسرائيل الأمني في الضفة الغربية. وكما قال زعيم المعارضة الإسرائيلية إسحق هرتسوغ : إن سياسة الحكومة الإسرائيلية على ما يبدو تقوم على “التحدث مع حماس وعزل أبو مازن [رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس]”.
بالنسبة إلى إسرائيل، على ما يلاحظ المراقبون، تأخذ السياسة الواقعية أسبقية، إلّا عندما يتعلّق الأمر بالإيديولوجية والسياسة المحلية وأراضي الضفة الغربية. لا يبدو أن هناك إنتفاضة ثالثة بعد – وهذا ليس بفضل نعمة الله ولكن بسبب قرارات مدروسة يجري إتخاذها في رام الله. ونظراً إلى إستمرار الغموض الذي يلف خلافة الرئيس عباس، فإن المسألة مفتوحة حول إلى متى ستستمر السلطة الفلسطينية في إتخاذ القرارات عينها. سيأتي يومٌ حيث ستتأسف الحكومة الإسرائيلية وتندم لعدم تحدّثها إلى عباس عندما سنحت لها الفرصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى