الموت غير الرحيم

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لم يعد الموت في بلادنا رحيماً … كما الحياة. ولم يعد الواقفون في طوابير الموت بالآلاف يعنون شيئاً لمن يمارسون غواية الحياة فوق فراشهم الدافئة. فموتى الأرصفة كموتى الزلازل والبنايات والقنابل المُفخّخة والبراميل المتفجّرة.
الموت في بلادنا عنيد … يمارس القنص هوايةً، ويترك الأشلاء موزّعة فوق خرائطنا المهشَّمة عارية من دون حياء. وفوق فراش سوداء وزَّعها السياسيون والمُتأسلمون وأجهزة المخابرات فوق ضواحي وطن كان عربياً ذات تاريخ، تطوف آلاف الأكفان حول كعبة الجهل والتخلّف والغواية كل صباح.
والقتل في بلادنا مُشرعَن ومحمود ومستباح … فالناس تقتل بإسم الله وبإسم الوطن وبإسم الأمة من دون خجل. والفتاوى أرخص في بلادنا من أعواد الثقاب وعلب التبغ والسهرات الصاخبة الحمراء. ومن ليس معنا فمُهدَر دمه وماله وعرضه … وعليه دوماً من التاريخ وزبانيته ما يستحق.
من بلاد تفوح منها رائحة الموت كما فاحت ذات عزة رائحة الياسمين، فرّ عبد الله الكردي، حاملاً أثقاله وأثقالاً مع أثقاله إلى خيام الجوار. وعند الحدود التركية، خفتت أصوات البراميل المتفجرة، ونسي غالب (5 سنوات) أطفال الجوار، وهدأت تشنّجات إيلان (3 سنوات)، لكن ريحان الأم (36 عاماً) لم تخلع ذكرياتها عند أعتاب الأسلاك الشائكة، ولم تبع ذكرياتها مقابل شربة ماء وقطعة خبز يابسة. وظلت تحن إلى ديار لم يسكنها من بعدهم إلا الغربان والعسكر والمُتأسلمون.
كان عبد الله يُحدِّثها عن حياة ما وراء المحيط، وعن بلاد لا يسكنها الخوف والنفط والعسس، فيكاد قلبها يطير شوقاً، فلا يوقظها من أحلامها غير المشروعة إلا رفسة من قدم غالب أو وقع أقدام تقترب من خيمتهم البالية. وحين أسرَّ إليها عبد الله بخطة الهرب عبر المحيط، تسارعت دقات قلبها بعنف، وكأنها لم تنتظر تلك اللحظة منذ شهور.
في عتمة الليل، إكتظ المركب بالفارين، ولما حانت ساعة الصفر، تحرك متثاقلاً فوق أمواج غاربة، كأنه يعلم ما لا يعلم الفارون والنخاسان فوق ظهره. وما إن ابتعد المركب خمسمئة متر في عرض الظلام، حتى امتلأ بالماء والصراخ. وفي ظلمة الليل وعتمة المياه، تبعثرت أسرة الكردي، فحاول أن يشبك أصابعه حول من يستطيع منهم. ومرت عشر دقائق طويلة … أطول على قلب الرجل من سني حكم بشار وأبيه، لكن الأصابع المتشابكة تراخت شيئاً فشيئاً، ليسقط في حلق الموت من إستحق أن يحيا عبد الله من أجلهم. ولما خفتت الأصوات حول الرجل، ولم يعد يسمع لأحد ركزاً، جمع في ساعديه ما تبقى من حول، وعاد أدراجه يائساً ذليلاً بعدما فقد كل شيء حتى خفي حنين.
وهناك، عند الشاطئ، إجتمع عبد الله بطفله إيلان، لكن أحدهما لم يتحرك لإستقبال الآخر، ويعلم الله وحده أيهما وصل أولاً إلى الشاطئ التركي. لم يستطع إيلان أن يحرّك ساعديه ليعانق أباه، ولم يستطع أن يزيل حبات الرمل التي تجمّعت حول أنفه وعينيه، ولم يستطع أن يعود إلى خيمة الإيواء مع أبيه.
في صمت، تحلَّق الجمهور حول جثة إيلان، ليحملوه إلى مرقد لم يكن يريده في مدينة كوباني (عين العرب) على الحدود السورية. وأمام جثمانه الصغير تحلّقت كاميرات العالم لتفضح سيِّئاتنا وهواننا على أنفسنا، وتُعلن بعد نزار قباني وفاة العروبة وموت العرب. وأمام مرقد صغير، وقف عبد الله مذهولاً يبحث في عيون الواقفين عن معنى للبقاء عند الحدود أو في قلب الوطن، بعدما إنتزع منه الموت بؤبؤاه وقلبه.
يقول ستالين: “إن موت مليون شخص مجرد إحصائية … أما موت شخص واحد، فهو مأساة”. لكن تلك المأساة يبدو أنها لن تغير شيئاً في خريطة العرب الذهنية، ولا في خطط المتقاتلين بإسم الله وبإسم الوطن. ويبدو أن نجاة إيلان اليوم لن تكون لنا آية، ولن تضع لحروبنا الكرامازوفية العبثية حداً. ويبدو أن الموت غير الرحيم سيظل مقيماً في أراضينا من دون تأشيرة وبلا نهاية.

• كاتب وصحافي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى