معركة المحاسبة والمصالحة في تونس

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

تحتدم في تونس معركة كبرى لا تبدو معالمها واضحة لدى العدد الأكبر من المواطنين التونسيين. وهي تجري بين رئاسة الجمهورية، وكل من يدور في فلكها، من أحزاب مؤتلفة تمتلك في البرلمان لا أقل من 80 في المئة من الأصوات، وبين معارضة تجمع حولها قسماً مهماً من الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني.
ولعل الجانب الأكبر من هذه المعركة يتلخّص في لَيّ ذراعٍ بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي “والحقوقية” سهام بن سدرين، رئيسة “هيئة الحقيقة والكرامة” التي تشكّلت في 2013 من قبل المجلس التأسيسي إعتماداً على قانون العدالة الإنتقالية.
في الواقع، لم يكن هناك احتكاك بين الشخصين قبل ربيع 2011، أي أسابيع قليلة بعد نجاح الثورة التونسية على طرد الرئيس السابق زين العابدين بن علي من منصبه الرئاسي، ودفعه إلى منفى ذهبي في المملكة العربية السعودية.
فعندما دُعي الباجي قائد السبسي لتولي الوزارة الأولى ( كما كانت تسمى أيامها) على إثر إستقالة الوزير الأول محمد الغنوشي الباقي من عهد الرئيس بن علي، ورث، في ما ورث، وزيراً للداخلية هو فرحات الراجحي. غير أن رئيس الحكومة الجديد آنذاك، وهو رئيس الدولة حالياً، لم يقنعه أداء وزيره فما كان منه إلا أن أقاله بعد شهر من تعيينه، فيما تؤكد جهات عديدة أن الوزير كان واقعاً تحت التأثير السياسي لسهام بن سدرين، وأنه إرتكب أخطاء كبيرة، كحل البوليس السياسي أي العين الساهرة للسلطة، وطرد أكبر الكفاءات التي تحتوي عليها وزارة الداخلية، مما عرّى البلاد من كل قدرة على متابعة الخفايا، وهو ما يصل بالبعض إلى إعتبار ذلك أحد أسباب إستشراء الإرهاب.
وقد أثار الأمر بن سدرين وأغضبها مما أدّى إلى مناصبتها قائد السبسي العداء، إذ أنها إعتبرت بأنه أقال رجلاً مقرّباً منها.
غير أن تأثير بن سدرين لم يتوقف عند الوزير الراجحي، بل كان ممتداً إلى زعامات كثيرة من حزب النهضة الإسلامي، على إعتبارها أنها كانت من أشد المدافعين عن الإسلاميين في عهد الرئيس السابق بن علي، وفي فترة محاكماتهم وملء السجون بمن ينتمون إليهم. لذلك كان تأثيرها، حسب بعض المحللين الجديين، كبيراً عندما تولّوا الحكم بدءاً من أواخر 2011 حتى ما بين بداية إلى أواخر 2014 وفقاً لإختلاف التقييمات.
ومن هنا فإن قانون العدالة الإنتقالية الذي صدر عن المجلس التأسيسي الذي كان الإسلاميون فيه يحتلون غالبية نسبية، جاء موافقاً لهواها، حيث تم من خلال هذا المجلس إنتخابها (رئيسة) مع مجموعة ذات وزن من المقربين إليها في عضوية “هيئة الحقيقة والكرامة” المكلفة بمحاسبة رجال الأنظمة السابقة بداية من الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، الذي يقدّسه الكثيرون من التونسيين، قبل تحقيق المصالحة على شاكلة ما جرى في المغرب أو في جنوب إفريقيا أو في دول شرق أوروبا.
من هنا رأى البعض عن حق أو باطل، أن بن سدرين جاءت بهدف الإنتقام من رجال عهود إضطهدوها هي وغيرها من المعارضين، لعل من بينهم رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي الذي شغل منصب مدير أمن ثم منصب وزير الداخلية في فترة طويلة من ستينات القرن الفائت، كان فيها التعذيب وسوء معاملة المعارضين سائدة على نطاق واسع.
لذا فإن فعل التراكم المتمثل في إقالة قائد السبسي، أيام كان رئيساً للحكومة إبان الثورة، للوزير المقرَّب منها، وأيضا الرغبة منها حسب القانون في محاسبة رجال النظام البورقيبي ثم نظام بن علي لفترة تتجاوز 55 سنة، قد فتح الباب لضغائن كبيرة، زادتها رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة حدّة، بمحاولة الإستحواذ على أرشيف رئاسة الجمهورية، في حركة إعتبرت في حينه غير قانونية رفضتها المحكمة الإدارية، والتخوفات من أن تقدم الهيئة على إذلال مسؤولين سابقين أحياء وأموات، من بينهم اليوم وزراء ومدراء كبار، كل ذلك خلق أجواء موبوءة، وفتح الباب أمام رئيس الجمهورية لتقديم مبادرة تشريعية، للتصديق برلمانياً على قانون للمصالحة في مجال “الجرائم الإقتصادية والمالية”، مما يسحب من هيئة “الحقيقة والكرامة” الكثير من صلاحياتها بل ويصيبها في الصميم، وفي الوقت عينه سعت جهات، متنفذة عادة، لزعزعة الهيئة من الداخل، فإستقال عدد من أعضائها وطُرد واحد منهم بحيث بات النصاب فيها مهتزاً الأمر الذي قد يؤدي إلى حلّها، وتشكيل هيئة جديدة يكون رئيس الجمهورية راضياً عنها.
وإذا مرّ مشروع قانون رئيس الجمهورية بسلام أمام المجلس التشريعي وتمّ التصديق عليه، ولو كما يطالب البعض بإدخال تغييرات غير جوهرية عليه، وكل المؤشرات تشير إلى إحتمال حصول ذلك بإعتبار أن أحزاب الإئتلاف الحكومي ستصوّت له بغالبيتها الواسعة، وإذا إنتهت المناورات الجارية لسحب الثقة من سهام بن سدرين، وقد تم تقديم مشروع لائحة للبرلمان وقّعها 70 نائباً لإخضاعها لتحقيق برلماني بتهمة تجاوزات مالية وسلوكية، فإن قائد السبسي يكون قد حقّق إنتصاراً آخر، رغم أن المجتمع المدني يقف بقوة ضده وضد مشروع قانونه، مع أحزاب المعارضة التي لها حضور شعبي رغم ضعفها في البرلمان.
وإذا تم لرئيس الدولة ما يريد وما يسعى إليه من إزاحة سهام بن سدرين حتى لا تكون شوكة في حلقه، فإن ذلك لن يثير في الغالب رد فعل شعبياً كبيراً، وسيتناساه الناس المهمومون أساساً بلقمة العيش في بلد يتقهقر إقتصاديا، ووصل إلى مرحلة الإنكماش والركود الإقتصادي بكل ما تعنيه من تردي الأحوال المعيشية وتفاقم البطالة.

• كاتب وصحافي تونسي، ورئيس التحرير السابق لصحيفة “الصباح” التونسية.
fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى