كيف تُشكِّل آسيا مستقبل الطاقة العالمية

يتفق معظم المراقبين على أن الولايات المتحدة، مدفوعة بطفرة إنتاج النفط والغاز، أصبحت على نحو متزايد دولة مركزية بالنسبة إلى الطاقة العالمية، خصوصاً بعدما أُعيد إلى منتجيها الفضل في غرق أسعار النفط في العامين الفائتين. وفيما تراجعت وارداتها من المواد الهيدروكربونية، فقد رأى مفكرو السياسة الخارجية بأن إعتماد واشنطن سيكون أقل بكثير على منطقة الشرق الأوسط؛ وفي الوقت الذي إستعدت الشركات الأميركية لتصدير الغاز الطبيعي المسال، فإن مراقبي السوق تحضّروا لتحوّل أسواق الغاز الطبيعي العالمية، ونتيجة لذلك، الجغرافيا السياسية؛ وفيما بدأت شركات الطاقة الأميركية الإستفادة من الغاز الصخري والطاقة المتجددة لترويض إعتمادها على الفحم، فقد أمل العلماء بأن تتخذ واشنطن في النهاية زمام المبادرة في مكافحة تغيّر المناخ. ولكن عندما يعكس المؤرخون في المستقبل التحوّل المستمر في المشهد العالمي للطاقة، فإنهم لن يركزوا بشكل ضيِّق على الولايات المتحدة: سوف تتميز آسيا على الأقل بشكل بارز، والتفاعلات بين جانبي المحيط الهادئ ستثبت أنها الأهم من كل شيء.

مؤتمر التغيّر المناخي للأمم المتحدة في كوبنهاغن في 2009: الجهود الأميركية والدولية كانت في حالة فوضى
مؤتمر التغيّر المناخي للأمم المتحدة في كوبنهاغن في 2009: الجهود الأميركية والدولية كانت في حالة فوضى

واشنطن – هاني مكارم

في العقد الأول من هذا القرن، كانت مركزية آسيا -لا سيما الصين – واضحة. لقد ساعدت شهية الصين المتنامية للنفط على دفع أسعار الخام إلى فوق ال100 دولار للبرميل في شباط (فبراير) 2008. وغذّى إرتفاع إستهلاك الفحم في الصين بشكل كبير إرتفاع معدلات إنبعاثات غازات الدفيئة. كما أثارت الإستثمارات الصينية في البنية التحتية للطاقة في الخارج مخاوف من أن تقوّض النزعة التجارية الأسواق وبالتالي تؤدي إلى حروب الموارد. في الوقت عينه، واصلت إقتصادات الهند وكوريا الجنوبية وجنوب شرق آسيا التحرك والإنتعاش من خلال الوقود الأحفوري. لقد بدت آسيا أنها ستحدّد مستقبل الطاقة.
ثم جاءت الطفرة في قطاع النفط والغاز في الولايات المتحدة لتحوّل إنتباه العالم. وكان للتركيز الجديد معنى يبرره، اليوم، صارت أميركا في الواقع قوة أكثر أهمية بكثير في مجال الطاقة مما كانت عليه قبل خمس سنوات. ولكنه كان أيضاً تركيزاً مضلِّلاً. الواقع أن التوازن بين إستهلاك آسيا وإنتاج الولايات المتحدة – ليس واحداً أو الآخر- سيكون حاسماً لتحديد أسعار الطاقة لعقود مقبلة. سواء كان إرتفاع الصادرات الأميركية الذي سيحوّل أسواق الغاز الطبيعي سيعتمد على القرارات التي يتخذها القادة الآسيويون، أو كما سيكون الأمر بالنسبة إلى التقدم بشأن تغيّر المناخ الذي سيتطلب فرض قيود كبيرة على إنبعاثات غازات الدفيئة في آسيا، يجب على واشنطن أن تبدأ التعامل مع هذا الواقع إذا كانت تريد وضع إستراتيجية فعّالة للطاقة؛ وإذا فشلت في ذلك، فإن الوعد الكامل لثورة الطاقة الأميركية سوف يفشل وسيبقى حبراً على ورق، وسيظل العديد من أكبر تحديات الطاقة في العالم من دون حل.

الصورة الأكبر

إعتماد الحكمة التقليدية حول الأسباب التي أدّت إلى إنخفاض أسعار النفط في العام 2014، من أكثر من 110 دولارات للبرميل في حزيران (يونيو) إلى أقل من 50 دولاراً بحلول كانون الثاني (يناير) من هذا العام. لقد أعاد معظم المحللين السبب إلى الإرتفاع غير المتوقع في إنتاج النفط في أميركا، الذي زاد من متوسط قدره خمسة ملايين برميل يومياً في العام 2008 إلى أكثر من تسعة ملايين بعد ست سنوات لاحقة، الأمر الذي أدّى إلى إغراق السوق العالمية وخلق فائض في المعروض. ولاحظ هؤلاء أيضاً أن دول الشرق الأوسط، بقيادة المملكة العربية السعودية، كان يمكنها خفض إنتاجها لتحقيق التوازن في السوق. وعندما أصبح واضحاً بأنها لن تقوم بذلك، إنهارت الأسعار.
هذا التفسير دقيق لكنه غير مكتمل. كان تباطؤ الطلب في آسيا على النفط لا غنى عنه لإنهيار الاسعار. في الأعوام 2010، 2011، و 2012، إرتفع إستهلاك النفط في آسيا بمعدل مليون برميل أو أكثر يومياً. ولكن في العام 2013، زاد بنسبة أقل من نصف مليون برميل يومياً للمرة الأولى منذ 25 عاماً خلال فترة تميزت بالإستقرار المالي والإقتصادي النسبي. ثم، في العام 2014، إرتفع الإستهلاك نصف مليون برميل يومياً فقط مرة أخرى. ولو بقي الطلب الآسيوي على إتجاهه التاريخي، فإن السوق لم تكن لتعرف هذا الفائض الهائل في المعروض، وربما أيضاً هذا الإنهيار الهائل في الأسعار.
المفاجآت الأخيرة في إستهلاك النفط في آسيا قد تكون مجرد طَعم وتذوّق للأمور التي ستحدث في المستقبل. للتأكيد، إن إنخفاضاً أقل من ذلك بكثير في الطلب كافٍ لإرسال أسعار النفط هبوطاً على مدى بضعة أشهر أو حتى سنة، أكثر من دفعها إلى أسعار منخفضة بشكل دائم. ولكن الحقيقة الأساسية هي أن الإستهلاك الآسيوي العالي يمكنه تحييد تأثير إرتفاع الإنتاج الأميركي، كما أن خفض إستهلاك النفط في آسيا قد يفاقم التأثير بشكل خطير.
يمكن أن يتحرك المسار في أي إتجاه مع نتائج مذهلة. تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية أنه إذا نمت الإقتصادات النامية في آسيا بنحو ستة في المئة سنوياً، وإرتفع إستخدام النفط فيها نصفاً، فإن النتيجة النهائية ستكون زيادة في الطلب لأكثر من سبعة ملايين برميل يومياً بحلول العام 2025، ما مجموعه أكبر تقريباً من أي زيادة في إمدادات النفط الاميركي المتوقعة. وقد يكون هذا الرقم منخفضاً جداً: من السهل التصور بأن الإقتصادات الآسيوية سوف تشهد نمواً أسرع أو مكثفاً أكثر للنفط وبالتالي إضافة أكثر من عشرة ملايين برميل يومياً لإستهلاك النفط في آسيا على مدى العقد المقبل.
لكن إذا أدّت الجهود المبذولة لخفض الدعم وتحسين كفاءة الوقود إلى قطع كثافة النفط للنمو الآسيوي إلى نصف توقعات إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن البلدان النامية في المنطقة سوف تضيف أقل من أربعة ملايين برميل يومياً من إستهلاك النفط على مدى العقد المقبل. وفي الوقت عينه، يمكن أن يهبط النمو الإقتصادي بشكل حاد، مترابطاً مع إرتفاع الكفاءة للحد من الطلب على النفط الجديد في آسيا إلى أقل من مليوني برميل يومياً على مدى السنين العشر المقبلة في أصعب الحالات.
الفرق بين هذين النقيضين الإثنين الممكنين يمكنه أن يجعل التقلبات في إمدادات النفط في الولايات المتحدة تبدو صغيرة بالمقارنة. إذا نما إنتاج النفط الأميركي أسرع من الطلب الآسيوي، فقد تكون دول الشرق الأوسط غير قادرة أو غير راغبة للحد من إنتاجها الخاص لتحقيق التوازن في السوق، كما كان الوضع في العام 2014، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى إنخفاض الأسعار، وإقتصاد عالمي أكثر صحة، ودول نفطية أضعف حالاً. من ناحية أخرى، يمكن للطلب على النفط في آسيا أن يتفوَّق بسهولة على طفرة الإنتاج في أميركا، حتى لو كانت مكاسبها كبيرة. البلدان الكبرى المصدّرة للنفط يمكنها أن تجلس وتنتظر، وربما زيادة إنتاجها، فيما أسعار النفط تتصاعد وتُملىء وتُسمن جيوبها.


تحوّل الممرات البحرية

إن إحتمال إنخفاض أسعار النفط لا يزال بعيداً من الفرصة الجيوسياسية المهمة الوحيدة التي تتيحها طفرة الصخري في الولايات المتحدة. فيما يرتفع الإنتاج الأميركي ويهبط الإستهلاك، فإن واردات النفط الأميركية من الشرق الأوسط ستنخفض. العديد من المحللين يجادل بأن هذا التحوّل في جغرافية النفط قد يساهم في تعزيز الأمن العالمي.
مع ذلك، على الصعيد الأمني أيضاً، فإن آسيا ستشكّل المستقبل. لأكثر من نصف قرن، تركّزت المخاوف العالمية بشأن التدفق الحر للنفط على الشرق الأوسط. ومع كميات هائلة من النفط تواصل مجيئها من تلك المنطقة، فإن المخاوف بشأن أمن الممرات الملاحية المهمة ما زالت موجودة. لن يتوقف المنتجون في الشرق الأوسط عن إنتاجهم ولن يذهبوا بعيداً في أي وقت قريب، كما أن الولايات المتحدة لا تزال لديها مصلحة إقتصادية كبيرة في الاستقرار في الشرق الأوسط. ولكن زيادة صادرات النفط إلى آسيا، جنباً إلى جنب مع تراكم بحري إقليمي، سوف يمنح منطقة أخرى أهمية إستراتيجية جديدة: بحار شرق آسيا.
وتشمل هذه المياه المزدحمة مضيق ملقا، الواقعة بين أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة؛ وبحر الصين الجنوبي على الحدود مع بروناي والصين وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام؛ وبحر الصين الشرقي الذي يلامس الصين واليابان وكوريا الجنوبية. وقد كانت هذه الممرات فعلياً القناة لكميات ضخمة من النفط والغاز. (على مدى عقود، شحن منتجو النفط في الشرق الأوسط كميات من النفط إلى اليابان أكثر مما شحنوا إلى الولايات المتحدة). ولكن الآن صارت الرهانات أعلى، مع قوى إقليمية، خصوصاً الصين، أكثر قدرة من أي وقت مضى على تعطيل شحنات النفط إلى خصومها. في الوقت الراهن، على الأقل، ستواصل أميركا توفير الأمن لشحنات النفط لحلفائها من خلال الحفاظ على وجودها البحري في المنطقة. ولكن في نهاية المطاف، من المحتمل أن تتحدّى الصين هذا الترتيب الذي تهيمن عليه أميركا. ونظراً إلى التوكيد الجديد لسياسة بكين الخارجية، فإن إستفزازاتها الأخيرة — بما في ذلك إستخدامها منصة نفطية في منطقة متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي في العام الماضي، الأمر الذي أدى إلى مواجهة متوترة مع فيتنام — ليست سوى نذير للأمور التي يمكن أن تحدث في المستقبل. إن كيفية توصل الولايات المتحدة والصين، جنباً إلى جنب مع القوى الإقليمية الأخرى، إلى حل مثل هذه النزاعات في المستقبل سيكون مهمّاً في تشكيل أسواق الطاقة العالمية، كما هي الإلتزامات الأمنية الأميركية بالنسبة إلى الشرق الأوسط اليوم.

التوجه إلى الغاز الطبيعي

بالإضافة إلى قيادة الطفرة النفطية المحلية، فإن شركات الطاقة في الولايات المتحدة تنتج كميات ضخمة من الغاز الطبيعي – في الواقع بشكل كبير حيث ستصبح بلاد العم سام قريباً دولة مصدّرة كبرى للغاز الطبيعي المسال. وسيكون ذلك تطوّراً كبيراً يمكن أن يُحدث ثورة في أسواق الطاقة العالمية، ولكن هنا مرة أخرى، فإن الأثر النهائي يعتمد في جزء كبير منه على ردّ آسيا.
كانت سوق الغاز الطبيعي العالمية دائماً جامدة. عادة ما يتم تحديد طرق التجارة عبر خطوط أنابيب الغاز الحالية، مع الغاز الطبيعي المسال المنقول بحراً يلعب دوراً ثانوياً. إن أكبر المنتجين في العالم يوقّعون عادة عقوداً طويلة الأجل مع عملائهم، حيث تُحدَّد الأسعار من خلال صيغ تفاوضية مدروسة بعناية والتي تتبع أسعار النفط. من جهتهم يواجه المشترون صعوبة في الحصول على المعلومات عن السوق الأوسع، وليس مسموح لهم إعادة بيع شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى أي مشترٍ آخر. إذا، على سبيل المثال، وافقت كوريا الجنوبية على شراء الغاز الطبيعي المسال من أندونيسيا فلا يمكن لكوريا الجنوبية إعادة بيع هذا الغاز إلى أي طرف آخر، حتى لو كان ذلك البلد الآخر في حاجة ماسة إليه وعلى إستعداد لدفع قسط إضافي. إن القيود عينها التي تجعل أسواق الغاز مبهمة تجعلها أيضاً سياسية. ولأن المفاوضات على الأسعار في كل الحالات تقريباً تشمل شركة مملوكة للدولة على الأقل، ولأنه ليست هناك عادة منح سعر واضح للأفرقاء لتستقر الصفقة عليه فإن السياسة تتدخل. ولأنه من الصعب بالنسبة إلى المشترين تبديل المورّدين خلال أزمة سياسية فإن الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول الكبرى المنتجة للغاز، بما في ذلك أمثال قطر وروسيا، أمر بالغ الأهمية.
ولكن الصادرات الأميركية للغاز الطبيعي المسال لديها القدرة على تغيير قواعد اللعبة، وخصوصاً في آسيا، حيث من المرجح أن يتدفق النصيب الأكبر من صادرات الولايات المتحدة. إن سوق الغاز الطبيعي في أميركا، وليس المفاوضات السرية بين الدول، سوف تحدّد سعر الغاز الطبيعي المصدَّر من أميركا. والصادرات الأميركية لن يكون لديها ما يسمى بنود الوجهة: مشترو الغاز من الولايات المتحدة سوف يكونوا قادرين على إعادة بيعه وتسليمه لطرف ثالث. ولأن آسيا حالياً هي الوجهة الأكثر جذباً للصادرات، فقد يصبح الغاز الأميركي جزءاً رئيسياً من مزيج الطاقة في تلك القارة. والأمل هو أن تحذو سوق الغاز في آسيا حذو الولايات المتحدة من خلال دمج تسعير شفاف وتجارة مرنة. ولكن هذا سيستغرق أكثر بكثير من طوفان الغاز الطبيعي المسال الأميركي. لقد خلقت الولايات المتحدة فرصة؛ وإستغلالها يتعلّق بالحكومات الآسيوية.
تواجه آسيا تحدّيين أساسيين عندما يتعلق الأمر بالغاز الطبيعي. الأول هو عدم وجود مرونة عندما يتعلق الأمر بالتجارة. اليوم، لدى العديد من البلدان الآسيوية عدد قليل نسبياً من سبل الحصول على الغاز الطبيعي المسال الإضافي لإستخدامه في حالات النقص، لأن أكثرية الإتفاقات بالنسبة إلى الغاز المُتاح على مستوى العالم معقودة بالفعل إلى وجهة محددة. مع وجود الغاز الطبيعي الأميركي المسال المُتاح من أجل سد ثغرات العرض المفاجئ، فإن هذه المشكلة لن تكون شديدة كما في السابق. سوف تصبح أسواق الغاز شبيهة بأسواق النفط: على الرغم من أن نسبة كبيرة من شحنات النفط محجوزة بموجب عقود طويلة الأجل، فإن السوق لديها إمدادات حرة كافية لجعل تلك الصفقات أقل أهمية بكثير مما كانت ستؤول إليه لو كانت السوق الفورية العميقة لم تكن موجودة.
التحدّي الثاني في آسيا هو أكثر قساوة: التحوّل من نظام تسعير مشحون سياسياً. قد يبدو الحل واضحاً. يبيع المنتجون الأميركيون الغاز لآسيا بالسعر نفسه على أساس السوق كما يفعلون محلياً. إذا كان كل بلد يبيع الغاز إلى آسيا يريد منافسة العروض الأميركية، فإن الجغرافيا السياسية ستُلغى وستتم إزالتها. ولكن ذلك لن يحدث. فإن أي مشتر آسيوي يصرّ على دفع أسعار أميركية منخفضة لن يحالفه الحظ: إن البائعين ببساطة يسوِّقون غازهم في بلدان أخرى التي هي على إستعداد لدفع سعر أعلى. سوف يكون لدى المشترين فرصة للنجاح إذا تجمّع جميع المستهلكين الآسيويين الكبار معاً، وأصروا على نظام تسعير جديد. ولكن إحتمال توحيد قوى الصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية على أي شيء هو أمر مستبعد.
إن أفضل فرصة لآسيا في تسوية الأرضية تكمن في محاكاة ميزة أساسية أخرى للأسواق الأميركية والأوروبية: إقامة مراكز تجارية محورية للغاز الطبيعي. إن المحور – وهو مركز تجاري مادي للسلعة – يجلب أعداداً كبيرة معاً من المشترين والبائعين للمساومة على المعاملات في مكان واحد؛ صفقاتهم تحدد الأسعار التي يمكن إستخدامها بعد ذلك في المعاملات في مكان آخر. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، “محور هنري” (Henry Hub) في لويزيانا يلعب دوراً بارزاً في تحديد الأسعار المحلية للغاز الطبيعي إلى أبعد من تلك الولاية؛ في القارة الأوروبية، هناك محاور عدة تفعل الشيء عينه.
لكي يظهر محور رئيسي في آسيا ويحدّد الأسعار على نطاق أوسع، فإن العديد من الأشياء يجب أن تحدث: ينبغي على حكومة وطنية واحدة دعم التنمية المادية: التأكد من أن المحور يتم تشغيله بطريقة شفافة وموثوق بها؛ وتسمح بظهور نظام مالي منظّم بشكل سليم الذي يسمح للمشترين والبائعين وغيرهم التحوّط لتعرضهم من تقلبات أسعار الغاز الطبيعي. على رأس كل ذلك، تحتاج الحكومة إلى جذب كتلة حرجة من التداول إلى محورها. إن ظهور الغاز الطبيعي المسال في أميركا، من دون قيود الوجهة أو الإرتباط بأسعار النفط التي ترهن إمدادات الغاز الأخرى، يمكن أن توفر جزءاً من تلك الكتلة الحرجة. ولكن دولة واحدة آسيوية على الأقل – المرشحة الأكثر إحتمالاً أن تكون الصين، واليابان، وسنغافورة، والتي تواجه كل منها عقبات كبيرة– سوف تحتاج إلى إغتنام الفرصة.

الحد من الفحم

في أعقاب مؤتمر التغيّر المناخي الذي دعت إليه الأمم المتحدة في كوبنهاغن في 2009، كانت الجهود الأميركية والدولية المبذولة لمعالجة ظاهرة الإحتباس الحراري في حالة من الفوضى. لكن في السنوات التي تلت، فاجأت الولايات المتحدة منتقديها وغيّرت الكثير من الأشياء، حيث حدّت من إجمالي إنبعاثات غازات الدفيئة الى 12 في المئة عن مستواها 2005 إعتباراً من العام 2012. وقد ساهم ضعف الإقتصاد، وتحسين كفاءة إستهلاك الوقود، وزيادة الإعتماد على الطاقة المتجددة في هذا التغيير. مع ذلك، كان الأمر حرجاً من زيادة إنتاج الغاز من تشكيلات الصخر الزيتي. إن الغاز الصخري الذي ينتج منه ما يقرب من نصف إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الذي ينتجه الفحم عند إستخدامه لإنتاج الكهرباء، تفوق على الفحم من حيث إنخفاض الأسعار وحده. كما أنه أتاح فرصة للمنظمين في وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة. الآن هناك بديل غير مكلف نسبياً من الفحم، وبالتالي يمكنهم المضي قدماً مع نُظُم جديدة عدوانية تكبح إستخدام الفحم في قطاع الكهرباء، والذي لم يكن متصوَّراً قبل بضع سنوات.
ولكن مع كل نجاحها حتى الآن، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع بمفردها محاربة تغيّر المناخ بنجاح من دون آسيا. تشكّل القارة ما يقرب من نصف جميع إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في العالم، وهي الحصة التي قد إرتفعت بشكل مطرد في السنوات الأخيرة. تحتل الصين والهند المرتبتين الأولى والثالثة على التوالي بالنسبة إلى أكبر بواعث غاز ثاني أوكسيد الكربون في العالم، (الولايات المتحدة هي الثانية). وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أنه من دون سياسات جديدة فإن دول آسيا النامية وحدها سوف تمثّل 46 في المئة من إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من إنتاج الطاقة بحلول العام 2030، وهو معدّل يشكل أكثر من ثلاثة أضعاف المساهمة المتوقَّعة من أميركا.
في قلب التحدّي هو الفحم، الوقود الأحفوري الذي يتمتع بأكبر الإنبعاثات. وفي هذا المجال فإن آسيا هي المسؤولة عن أكثر من ثلثي إستهلاك الفحم العالمي. وعلى الرغم من أن الطلب على الفحم خارج المنطقة إنخفض بين 2008 و2013، فإن المكاسب في آسيا أكثر من أن تعوِّض عن الفرق. خلال الفترة عينها، عوّض نمو إستهلاك الفحم الصيني وحده تخفيضات الولايات المتحدة خمس مرات. الإتجاه هو عينه في المنطقة بأسرها. الهند تستهلك ما يقرب من ثلاثة أرباع كمية الفحم التي تستهلكها الولايات المتحدة. وتستهلك اليابان من الفحم أكثر من روسيا. وكوريا الجنوبية تستهلك بقدر ما تستهلك ألمانيا.
بذلت كل الإقتصادات الآسيوية الكبرى جهوداً للحد من إنبعاثاتها، ولكن ظروفها تختلف جوهرياً عن تلك التي في أميركا، وبالتالي فإن الحلول لمشاكل إنبعاثاتها تحتاج إلى أن تكون متميزة وخاصة بها. وقد أمل صناع السياسة الأميركيون منذ وقت طويل أن تكون التقنيات لتخفيض الكربون التي إخترعت في الولايات المتحدة حافزاً إقتصادياً مُقنعاً لإعتمادها في الخارج لمزاياها الخاصة، من دون الحاجة إلى نُظم مناخية طموحة. ومع ذلك، على الأقل بالنسبة إلى الصخر الزيتي، من غير المرجح أن تعتمد الصين ودول آسيوية أخرى التكنولوجيا الأميركية على نطاق واسع في أي وقت قريب. المشكلة ليست واحدة من مشاكل المواد الخام: تقدّر شركة الإستشارات “أدفانسد ريسورسيز إنترناشيونال” (Advanced Resources International) أن لدى الصين غازاً صخرياً قابلاً للإستخراج من الناحية الفنية — نحو 1115 تريليون قدم مكعبة – أكبر مما في أي بلد آخر، بما في ذلك الولايات المتحدة. لكن هناك عوائق مرتفعة تحول دون إستغلال هذه الثروة. مشكلات الصين تبدأ مع صخورها. ليس كل صخر زيتي متشابهاً مع الآخر، لقد وجد الحفّارون أن لدى بلاد ماوتسي تونغ فقراً جيولوجياً كبيراً لإستغلال الغاز الصخري. وكما أشار تقرير مجلة “الطبيعة” أو (Nature )، لأن الكثير من الصخر الزيتي الصيني هو أعمق و”أقل عرضة للكسر”، فهو غير مناسب لتقنيات الحفر التي تتقنها شركات النفط الأميركية، وبالتالي أكثر تكلفة للتطوير. ثم هناك التحديات المؤسسية: الرقابة على الأسعار قد قلّصت الأرباح المحتملة وحدّت من السوق (على الرغم من أن الرقابة على الأسعار يجري إصلاحها ببطء)؛ والإستثمارات الحكومية المتواضعة في إمكانية تعيين الصخر الزيتي جعلت الحفّارين أقل قدرة على إتخاذ مخاطر محسوبة؛ وهيمنة الشركات القديمة، حفنة من التي تسيطر على معظم أنظمة الغاز في البلاد، ردعت الشركات الجديدة من دخول المنافسة.
تعكس الأهداف الصينية الرسمية هذه القيود. في العام 2011، سعت بكين إلى توسيع إنتاج الغاز الصخري في البلاد الى ما بين 60 مليار و 100 مليار متر مكعب سنوياً بحلول العام 2020، وهي كمية تعادل تقريباً ثلاثة في المئة من إجمالي إستهلاك الطاقة الصينية في العام 2013. في آب (أغسطس) 2014، خفضت الصين هدفها إلى 30 مليار متر مكعب، أي أقل من واحد على عشرة مما تنتجه الولايات المتحدة اليوم. العديد من المحللين المطلعين يتشكك حتى في أن هذا سيتحقق.
في الأمكنة الأخرى في آسيا، لا تبدو آفاق الصخري أكثر إشراقاً. لا يوجد أي بلد آسيوي آخر غير الصين التي تعتبر بين أفضل عشرة بلدان تملك موارد من الغاز الضخري قابلة للإسترداد من الناحية التقنية. إن تقديرات موارد الهند تتراوح بين 100 تريليون قدم مكعبة ومجرد ستة تريليونات، وهو ما يعادل في قيمته أقل من ستة أشهر من الإستهلاك الهندي من الفحم حالياً. وتملك أندونيسيا ما يقدر بنحو 50 تريليون قدم مكعبة من الغاز الصخري. وباكستان هي مالكة الموارد الكبيرة الوحيدة الأخرى للغاز الصخري في المنطقة، ولكن عدم الإستقرار السياسي هناك يجعل التنمية في هذا الحقل بعيدة المنال. المستهلكون الآسيويون الكبار الآخرون، أبرزهم اليابان وكوريا الجنوبية، ليس لديهم الغاز الصخري. وإذا حدّت آسيا بشدة إنبعاثات غازات الإحتباس الحراري، مستكملة التحوّل الأخير في الولايات المتحدة، فإنه لا يمكن الإعتماد على الغاز الصخري ليكون المنقذ في هذا المجال في المستقبل القريب.

محور لآسيا

يبدو الأمر محيراً في التصوّر أن الولايات المتحدة هي التي تقود حالياً مستقبل الطاقة العالمية. لكن المبالغة بإدعاء نفوذ البلاد سوف يعمي صناع السياسة الأميركيون ويبعدهم من العمل الحقيقي الذي يتعين القيام به. من أجل بناء إستراتيجية فعّالة التي تحسّن الأمن القومي وتكافح تغير المناخ في الوقت الذي تنعش النمو الإقتصادي — على وجه الخصوص، تحقق الإمكانات الكاملة لطفرة النفط والغاز الأميركية — تحتاج واشنطن إلى سياسة طاقة وغيرها من السياسات التي تأخذ في الإعتبار الكامل أهمية آسيا الحاسمة.
وينبغي أن تكون إحدى الأولويات القصوى العمل مع البلدان الآسيوية للحد من الطلب على النفط. وهذا يمكن أن ينطوي على تضمين أنظمة وقود إقتصادية وطنية في إتفاقات متعددة الجنسيات أو تمديد الإتفاقات التقنية القائمة، مثل الترتيب الأميركي – الصيني في 2009 الذي يضم معايير مشتركة لشحن بطاريات السيارات الكهربائية. مثل هذه المبادرات ستثبت أنها الأكثر فعالية إذا إتخذت أميركا خطوات قوية للحدّ من إستهلاك نفطها الخاص، والذي من شأنه أن يساعد على إبقاء أسعار النفط العالمية منخفضة.
عندما يتعلّق الأمر بتأمين حرية تدفق إمدادات الطاقة، فإن لدى واشنطن أدواراً عدة للعب. في الشرق الأوسط، يجب أن تظل ملتزمة بتوفير بعض الأساس للإستقرار؛ الصين ليست مستعدة لتحل محل الولايات المتحدة في المنطقة، وحتى لو كانت، فهذا من شأنه أن يمثّل تهديداً كبيراً لمصالح أميركا هناك. في آسيا، ينبغي على واشنطن أن تبقى ملتزمة بتوفير الأمن للخطوط البحرية لأطول فترة ممكنة، إذ أن حدوث فراغ في القوة من المرجح أن يؤدي إلى صراع إقليمي ومخاوف عالمية من موثوقية إمدادات الطاقة. في المدى الطويل، فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى الوصول إلى تفاهم أكبر مع الصين حيث يتفق كلا البلدين على المساهمة في الأمن البحري الإقليمي.
يمكن أن تساعد واشنطن أيضاً على تسهيل سوق آسيوية للغاز الطبيعي أقل سياسية من طريق ضمان من أن صادراتها من الغاز الطبيعي المسال ستبقى مرنة قدر الإمكان. وتحقيقاً لهذه الغاية، ينبغي على الكونغرس مقاومة القوانين التي من شأنها أن تقسّم قطاع الغاز الطبيعي للسوق — من خلال تفضيل حلفاء الناتو، على سبيل المثال، أو منح معاملة خاصة لليابان — وبدلاً من ذلك تسمح الولايات المتحدة للغاز الطبيعي المسال أن يتدفق بحرية. ويمكن أن تمدّ واشنطن أيضاً يدها الديبلوماسية المحايدة نسبياً للمساعدة في إنشاء مركز إقليمي لتجارة الغاز إذا رغب اللاعبون الإقليميون ذلك، على الرغم من أنه في هذا المجال، سيكون النفوذ الأميركي محدوداً.
من جهة أخرى، يمثّل تغيّر المناخ ربما التحدي الأكبر. لقد سعت أميركا إلى تعزيز إنتشار الغاز الصخري في آسيا، وهو جهد يجب أن يستمر. ولكن يجب أن تبقي آمالها متواضعة. إن الإحتمالات بأن الفحم سوف يهيمن على قطاع الطاقة في آسيا في العقود المقبلة لا تزال قوية. وفيما يحل الغاز والطاقة المتجددة محل الفحم في الولايات المتحدة، فقد كان هناك تراجع بالنسبة إلى الفائدة من تقنيات إحتجاز الكربون وعزله، والتي من شأنها أن تمنع معظم ثاني أوكسيد الكربون الذي تنتجه محطات الطاقة التي تعمل بالفحم من دخول الغلاف الجوي. على الرغم من أن هذه التكنولوجيا، المكلفة بالفعل في مراحلها الأولى، قد تصبح غير ضرورية في المدى القريب في بلاد العم سام مع تراجع إستخدام الفحم، فهذا أبعد ما يكون عن هذه القضية في آسيا. إذا كان أي شيء، فقد أكدت التطورات الأخيرة أهمية هذه التكنولوجيا. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، هذا يعني أن قسطاً محفزاً يجب أن يوضَع على مواصلة الإستثمار وذلك بالعمل على خفض تكلفة التكنولوجيا وعلى الشَراكات التي يمكن أن تثبت قدراتها في آسيا.
إن الطفرة في إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة لديها العديد من الأصوات التي تدعو بحكمة إلى إستراتيجية طاقة أميركية تستطيع إستغلال وضع أميركا الجديد القوي. ولكن نهجاً ضيّق الأفق الذي يبالغ الإدعاء بأهمية الطاقة في الولايات المتحدة ولا يقدّر كما يجب مركزية آسيا فمصيره سيكون الفشل. وفيما يرسم صنّاع السياسة الأميركيون مسار إستراتيجية للطاقة في عالم متغيّر، فإن مدى قدرتهم لمعرفة أهمية آسيا الحقيقية سوف يحدّد ما إذا كانت هذه الإستراتيجية ستنجح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى