الأسد الإبن يفقد رؤية والده الكبرى

دمشق – محمد الحلبي

فيما تتفتت سوريا إلى دويلات أمر واقع صغيرة، فإنه من الصعب التذكر في هذا الواقع الأليم أن قادتها كانوا يصوّرونها دائماً على كونها الدولة القومية العربية الرئيسية. بعبارة أخرى، كان مصير سوريا النهائي بأن تكون الطليعة في تشكيل الأمة العربية الأوسع.
مع ذلك، في خطاب ألقاه في الشهر الفائت، قال الرئيس بشار الأسد شيئاً مختلفاً تماماً. إعترف بأن جيشه يعاني من نقص في العديد ونتيجة لذلك فإنه قد يضطر الى تعزيز قبضته على مناطق معيَّنة على حساب أخرى.
في قوله هذا الكلام، فقد شارك الأسد في خيانة مزدوجة. من ناحية، فقد تخلّى عن طموحاته القومية العربية من خلال الإعتراف بأن النظام السوري، بعيداً من العمل من أجل الأمة العربية الكبرى، يقبل بتجزئة البلاد. وشارك الرئيس في خيانة ثانية – واحدة أقل وضوحا وأكثر تناقضاً – لإيديولوجية كان آل الأسد دائماً يلتزمونها ضمناً، ولكن لم يعترفوا بها أبداً.
هذه الإيديولوجية هي القومية السورية، التي كان أبرز المدافعين عنها أنطون سعادة الذي أسس الحزب السوري القومي الإجتماعي في ثلاثينات القرن الفائت. لقد سعى هذا الحزب إلى إقامة سوريا الكبرى في الهلال الخصيب، وهي الأراضي التي تضم في العصر الحديث سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين.
كانت هناك فترة عندما كان البعثيون والحزب السوري القومي الاجتماعي من ألدّ الخصوم. لقد إعتبر القوميون العرب بأن الرغبة في إنشاء سوريا الكبرى تتعارض مع حراكهم الخاص لجعل سوريا جزءاً من الأمة العربية الكبيرة. في الواقع، في خمسينات القرن الفائت، إتُّهِم الحزب السوري القومي الاجتماعي بالوقوف وراء إغتيال عدنان المالكي، وهو ضابط عسكري رفيع المستوى مقرَّب من حزب البعث، الأمر الذي أدّى إلى حملة شديدة ضد الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى أن أصبح حافظ الأسد رئيساً بعد إنقلاب في العام 1970، حيث أخذ النظام يتسامح مع الحزب على نحو متزايد، وفي العام 2005، في عهد بشار الأسد، تم تشريعه وقوننته. ولكن في كثير من النواحي تصرّف حافظ ونجله بشار على أنهما قوميان سوريان أكثر من أنهما قوميان عربيان.
في حين أنهما لم يكن في مقدورهما خلق سوريا الكبرى، فإن سياساتهما في الدول المحيطة ركّزت كثيراً على فرض أولويات سورية عليها. وقد ساعد هذا على تعزيز صدقية آل الأسد بالنسبة إلى القومية السورية، على الرغم من حقيقة أن الأقلية العلوية كانت تدير البلاد.
نشرت سوريا قواتها المسلحة في لبنان لمدة 29 عاماً، حيث حكمته بشكل فعّال على مدى أربعة عقود. في حين لم يكن هناك تكامل رسمي بين لبنان وسوريا، فإن هدف حافظ الأسد كان دائماً واضحاً في وصفه للبنانيين والسوريين بأنهم “شعب واحد في بلدين”. وبعبارة أخرى فإن العلاقات التي تربط بين البلدين هي أعمق من توحيد رسمي.
إن نظام الأسد، بل ونظام صلاح جديد الذي سبقه الذي كان فيه حافظ الأسد وزيراً للدفاع، قد سعى أيضاً إلى السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية بدءاً من منتصف ستينات القرن الفائت. بعد إغتيال يوسف عرابي في العام 1966، وهو ضابط فلسطيني في الجيش السوري حاول الأسد فرضه على القيادة الفلسطينية، سُجِن ياسر عرفات مع مسؤولين فلسطينيين آخرين لفترة وجيزة.
وقد إستمرّت جهود سوريا للسيطرة على القضية الفلسطينية طوال سبعينات وثمانينات القرن الفائت. وعندما جاء بشار الأسد إلى الحكم في العام 2000، إتّبع هذه الإستراتيجية من خلال دعمه حركة “حماس” ضد حركة فتح والسلطة الفلسطينية. مع إندلاع الإنتفاضة في سوريا، مع ذلك، تدهورت علاقاته مع “حماس”.
في العراق أيضاً، هدف الأسد دائماً إلى الإحتفاظ بنفوذ، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن حزب البعث العراقي كان منافساً لحزب البعث السوري.
على الرغم من أن البلدين قد قاما بعمليات إرهابية بين الحين والآخر ضد بعضهما البعض في عهد حافظ الأسد، فإن التدخل السوري في العراق إرتفع إلى مستويات جديدة في عهد بشار بعد العام 2003.
بعد إزالة صدام حسين، خشي الأسد من أن يستخدم الأميركيون العراق كمنصة إنطلاق لإسقاط نظامه. لذا أمر وكالات مخابراته بإقامة علاقات مع أعدائه السابقين في حزب البعث العراقي لدعمهم ضد الأميركيين، فيما كان يسهّل أيضاً تحويل وتسريب الجهاديين السنّة إلى العراق.
حاول السوريون مراراً وتكراراً تشكيل السياسة في العراق في وقت لاحق، والذي كان يعني هجمات مشجّعة ضد حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي. عندها تصرفت سوريا بشكل مستقل عن إيران، التي كانت تدعم المالكي.
مع ذلك، منذ العام 2011، إرتفع النفوذ الإيراني في سوريا بشكل كبير، الأمر الذي قرّب المصالح السورية والعراقية مع بعضها. بغداد من جهتها، خوفاً من إنتصار الجهاديين السنّة ضد الأسد، أيّدته ضد خصومه.
الإبتكار العظيم لحافظ الأسد، للحفاظ على نظامه والدفاع عن مصالح سوريا على حد سواء، كان يقوم دائماً على تصدير عدم الإستقرار إلى الدول المجاورة لبلاده، مما يجعل دمشق مرجعاً لا غنى عنه لحل الأزمات التي تلي ذلك. ولهذا السبب كان يرى الأسد أنه من الضروري الحفاظ على إصبع لنظامه في كعكة الدول العربية المحيطة.
قد يبدو هذا الأمر بعيداً من حلم الحزب السوري القومي الإجتماعي، لكنه مستمَدّ من وجود دافع مماثل: تحويل سوريا إلى نقطة مركزية للمنطقة، بطريقة يمكن لدمشق من خلالها فرض أجندتها السياسية. الآن، يمكن لبشار الأسد أن يرثي فقط ما فَقَد. وكما إعترف أخيراً، إنه يكافح الآن ويسعى جاهداً للحفاظ على سوريا الصغرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى