محاولة المجتمع الدولي لإحلال السلام في ليبيا تعالج أعراضاً وتتجاهل الأسباب الجذرية للصراع

توصل أخيراً ممثل الأمم المتحدة في ليبيا إلى إتفاق سلام بين سياسيين ليبيين بعد أشهر من المباحثات في المغرب، ولكن يبدو أن هذا الإتفاق لم يوافق عليه العسكريون الذين لديهم السلطات. فما مآل هذا الإتفاق إذن؟

رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون: درس كيفية التدخل في ليبيا
رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون: درس كيفية التدخل في ليبيا

طرابلس (الغرب) – هادي الورفلي

بعد أكثر من نصف عام من المفاوضات بوساطة الأمم المتحدة، وقّع عدد من السياسيين الليبيين في الشهر الفائت على إتفاق سياسي يهدف ظاهرياً إلى “إنهاء الصراع”. في الواقع، هناك العديد من الصراعات المسلحة الجارية في ليبيا، ولكن هذا الإتفاق يركّز على واحد كبير منها بدأ في الصيف الماضي، والذي أفضى إلى إقامة حكومتين متنافستين – مجلس النواب المعترف به دولياً في طبرق والمؤتمر الوطني العام في العاصمة، طرابلس – تتخاصمان على كل الأمور. وقد تم وضع الإتفاق الشهر الفائت من خلال الحوار الديبلوماسي بين الهيئتين والقادة المحليين، والذي هدف إلى وقف الصراع من خلال تشكيل حكومة موحدة جديدة.
ليست هناك أية أوهام حول عيوب الإتفاق. فمثلاً، إن المؤتمر الوطني العام الذي يُعتبر أحد الأطراف الرئيسيين في الصراع، لم يوقّع عليه. ويحاول المفاوضون إصلاح ذلك، وقد ينجحون في مسعاهم. ولكن هذا ليس هو المشكلة الوحيدة. السياسيون الذين وقّعوا على الإتفاق لا يملكون السيطرة أو السلطة على القوات المسلحة التي يرتبطون بها. ويقول العديد من المراقبين أن المؤتمر الوطني العام كان وقّع لو لم تكن هناك ضغوط معارضة لذلك من الميليشيات المتحالفة معه. في الواقع، في كل من طرابلس وطبرق فإن الجماعات المسلحة – التي تملك السلطة فعلياً – إما إنتقدت أو عبّرت عن شكوكها في الإتفاق.
على الرغم من هذه القضايا الصارخة، فإن مجرد وجود إتفاق بعد سنوات عدة من التدهور المستمر في الأوضاع الأمنية والنظام السياسي يبدو أنه يقدم أملاً. لقد إستقبل كثيرون الإتفاق بتفاؤل حذر. وكان الديبلوماسيون يتبادلون الأفكار حول كيفية توسيع وتقديم الدعم له. من السهل تفهّم المشاعر. لكن واحداً من ألمع المحللين في السياسة الليبية، ولفرام لاتشر، كان له تقييم قاتم: “ليست هناك خطة بديلة”. لكن بناء إستراتيجية حول إتفاق معيب مع دعم ضعيف فإنه قد يثير المزيد من العنف. إن إتفاق سلام سيئ يمكن أن يكون سيئاً للسلام.
لأن إتفاقاً سيئاً يحتاج إلى إنفاذ. ولأنه لم يجلب على متنه اللاعبين الرئيسيين الذين يحملون السلاح، فإن الطريقة الوحيدة لجعله مقبولاً ستكون من طريق إستخدام القوة. الحكومات الغربية تعرف ذلك، وهذا هو السبب بأنها تفكر في خطط للتدخل. وقد حاول رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تأطير التدخل في ليبيا لحماية المواطنين البريطانيين في الداخل. وقال وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن الولايات المتحدة سوف “تستعرض عدداً من الفرص والخيارات” للحصول على “دعم أكبر لمبادرة الأمم المتحدة”. بعض التقارير لمّح إلى أن مسؤولين أميركيين وفرنسيين قاموا بزيارة ليبيا لتنسيق عمليات عسكرية غير محددة، مما يشير إلى أن بعض صانعي السياسة الغربيين يفكر في الدعم العسكري لما يسمى حكومة الوحدة الوطنية.
إن الفكرة بأن الإتفاق قد يثير في الواقع نزاعاً مسلحاً بدلاً من منعه هي نظرية. في غرب البلاد، ساعد التحرك نحو التوصل الى إتفاق وسلسلة من الإتفاقات المحلية لوقف إطلاق النار على دفع مجموعة إلى الإنشقاق عن التحالف العسكري فجر ليبيا السابق المرتبط بالمؤتمر الوطني العام. هذه المجموعة الجديدة – “جبهة الصمود” – هي عبارة عن إئتلاف مسلح كان قادته يتمتعون بتأثير كبير في طرابلس منذ الثورة. وإنتقد قيادة هذه الجبهة وأنصارها الإتفاق وتردد أنها تستعد للدفاع عن موقفها. وكما قال قيادي بارز من الجبهة في وقت سابق من هذا العام: “فقط بعد أن ينتصر جانب ويخسر جانب أخر يمكنك تشكيل حكومة”.
في الشرق يبدو قادة مجموعة تطلق على نفسها إسم الجيش الوطني الليبي حذرين من المسار السياسي كذلك. عقب مراسم التوقيع في المغرب، أعلن رئيس هذا الجيش الجنرال خليفة حفتر، أن قواته المسلحة لا علاقة لها بالحوار. وقد إستخدم مؤتمراً صحفياً للتأكيد على أهمية إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب على العمليات السياسية. في مناسبات أخرى، كان الجنرال أقل تحفظاً في إنتقاده للمحادثات التي توسطت فيها الامم المتحدة ولتدخل السياسيين في شؤون الجيش الوطني الليبي.
في لغة مفاوضي الأمم المتحدة إن جماعات مثل هذه تعتبر “مُفسدة”، كما قال كبير المفاوضين برناردينو ليون أخيراً لمجلس الأمن، “يجب أن تحاسب هذه الجماعات ، لأنها تتحمل مسؤولية عرقلة الإتفاق السياسي”. ولكن دعوة هؤلاء بالمفسدين أو المتشددين لا يعني بالضرورة أنهم على هامش المشهد السياسي الليبي. في الواقع، إن أولئك الذين يؤيدون الإتفاق “أختيروا بشكل تعسفي من قبل الوسطاء، وفي كثير من الحالات هم يفتقرون إلى قاعدة سلطة سياسية”، وفقاً للاتشر.
حتى أن دحر المُفسدين في ساحة المعركة لن يبشّر بالسلام. بقدر ما تغيرت السياسة منذ الإطاحة بالديكتاتور الراحل معمر القذافي، لا يزال هناك بعض أوجه الشَبَه المظلم. كان القذافي دعا إلى مجتمع “عديم الدولة”. وبالنظر إلى الدور البارز للهويات القبلية والمحلية وعدم وجود أجهزة دولة مستقلة وفعالة، إنه من المُغري الإستنتاج بأنه نجح في ذلك. لكن مؤسسات الدولة – إضافة إلى خليط معقد من المجالس واللجان الثورية – وجدت فعلاً. لقد إستخدمها القذافي لإخفاء مكان القوة الحقيقي: بين يديه وبين يدي أسرته وعدد قليل من المقربين الموثوق بهم.
منذ سقوط القذافي، تستخدم الميليشيات مؤسسات الدولة بالطريقة عينها تماماً. قد يزعمون أنهم تحت مظلة سيطرة الدولة الرسمية – يقولون تحت سلطة المؤتمر الوطني العام أو مجلس النواب في طبرق – لكن الحقيقة هي أن الميليشيات أنفسها هي التي بين يديها السلطة. وأي مجموعة مسلحة – حتى واحدة ظاهرياً تحت سيطرة حكومة الوحدة الوطنية الجديدة – التي تهزم “جبهة الصمود” أو الجنرال حفتر سوف تنتهي ببساطة بالحلول مكانهما وتمسك بتلابيب السلطة الحقيقية.
هذا هو بالضبط السبب في أن الإتفاق الذي يركز في المقام الأول على تشكيل حكومة وحدة وطنية يمكن أن تكون له آثار سلبية: إنه يتجاهل أسباب النزاع وبدلاً من ذلك يعالج الأعراض. إن الوصفة الطبية لحكومة موحدة تكون لها معنى فقط إذا كان السبب الجذري لمرض ليبيا حكومة منقسمة. ولكن هذا ليس هو الحال.
“ليس لدينا صراع لأن لدينا حكومتين. لدينا حكومتان لأن لدينا صراعاً “، يقول عبد الرحمن العجيلي، المستشار السابق لمكتب رئيس الوزراء بعد الثورة في ليبيا. متابعاً: “ما أخشاه هو أنه بعد المفاوضات، سوف يندلع الصراع مرة أخرى لأنها لم تعالج المظالم”.
هذه المظالم هي متنوعة كتنوع التجمعات المسلحة المحلية والقبلية والإيديولوجية المتعددة التي تأخذ القرارات منذ قيام الثورة. هناك شكاوى حول توزيع السلطة والموارد والممتلكات؛ حول العدالة؛ حول الإيديولوجية والدين؛ وحول مكان ليبيا في السياسة العالمية. معالجة هذه النزاعات الحساسة لن تتحقق من خلال الحلول العسكرية، ولن تتحقق كذلك من خلال سياسات عليا مدبَّرة من قبل المجتمع الدولي الذي فقد صبره مع الإختلال الوظيفي الليبي.
غير جاهز عسكرياً لطرد المفسدين بواسطة السلاح، أو لديه مجرد أمل بأنهم قد يعودون إلى رشدهم وينضمون الى الإتفاق، ما هي الأدوات التي لدى المجتمع الدولي لإضعافهم؟ هناك عدد قليل من الخيارات التي لم يتم تجربتها حتى الآن. تقريبا كلها تتبع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. الفرضية هنا هو أن قضايا العدالة لا يمكن أن تنتظر حتى يحصل السلام – لأن العدالة هي في حد ذاتها شرط مسبق للسلام.
“إن عدم إدراج المساءلة حول حقوق الإنسان كانت زلة كبرى في المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة”، يقول توماس إبس، القائم بأعمال إدارة “محامون من أجل العدالة في ليبيا”. إن إتفاقاً سيئاً يتجاهل حقوق الإنسان يمكن أن تكون له عواقب وخيمة. “إن الأشخاص الذين إرتكبوا جرائم وعطّلوا بشدة حياة الناس سيتم وضعهم في السلطة مع دعم من المجتمع الدولي من دون أي عواقب أخرى”، يوضح إبس.
لو إستخدمت عصا العقوبات ضد الأطراف المتحاربة قبل ذلك بكثير كان يمكن أن تكون وسيلة لمحاسبتهم، وإجبارهم على التحرك نحو إتفاق سياسي. لقد أشارت وثيقة مسربة إطّلعت عليها “رويترز” أن الاتحاد الأوروبي يخطط لفرض عقوبات وفرض حظر على سفر خمسة من أبرز المفسدين. بعض من يزعم أنه على قائمة المستهدفين من الاتحاد الأوروبي سخر علناً من التهديد، وهو يتهكم أساساً على الأوروبيين لفشلهم في فرض أي حل على المتحاربين. ولكن على الرغم من تبجح هؤلاء، يحذر لاتشر أنهم “لا يخشون فقط التهميش السياسي ولكن أيضاً محاكمة محتملة إذا تم تشكيل حكومة وحدة وطنية ودعمت سلطتها”.
هناك خيار آخر يكمن في تجويع المُفسدين من الإمدادات. في حين أن المجتمع الدولي قاوم بدهاء الجهود التي تبذلها حكومة طبرق لرفع الحظر المفروض على الأسلحة، فإن الأسلحة ما زالت تصل. وتشير تقارير عديدة إلى أن الجنرال حفتر يتلقى السلاح والدعم المالي من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. في الواقع، ذهبت القاهرة وأبو ظبي إلى حد إطلاق غارات جوية على طرابلس ضد معارضي حفتر في العام الماضي. وتزعم الحكومة في طبرق أن تركيا وقطر تساعدان الحكومة الأخرى في طرابلس. حتى لو فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على المُفسدين فردياً، فينبغي أن تكون قوية بما فيه الكفاية لقطع أمراء الحرب عن مؤيديهم الإقليميين. حتى الآن لم تكن هناك أي مؤشرات على أن صناع القرار سوف يتبعون هذه الاستراتيجية.
من ناحية أخرى، إن خيارات المجتمع الدولي محدودة للغاية لأن واحداً من عدد قليل من الأشياء التي يوافق عليه تقريباً كل أطراف الصراع المرير في ليبيا هو مقاومة خرق السيادة الوطنية من قبل القوى الغربية. عندما طرح الأوروبيون فكرة إستخدام القوة العسكرية في المياه الليبية لإغراق السفن المستخدمة من قبل مهربين، أدانت كلٌ من الحكومتين المتنافستين بقوة الخطة، حيث وجدتا أنفسهما في إتفاق نادر الحدوث. بعثة الامم المتحدة، التي يُنظر إليها من قبل العديد من الليبيين باعتبارها متدخلة غير مرغوب فيها في شؤونهم الداخلية، أصبحت هدفاً للحقد الشديد من جوانب وأطراف عدة.
قد تكون محادثات الامم المتحدة منذ البداية قد شابها الخلل. إن حقيقة أن واحدة فقط من الحكومتين في ليبيا تتمتع بإعتراف دولي هي علامة على أن أصحاب المصلحة العالمية هم “منحازون بشكل واضح تجاه واحد من الجانبين”، وفقاً لمحلل ليبيا جايسون باك. وجاءت ضربة أخرى لسمعة الأمم المتحدة عندما قال السياسي المصري البارز محمد البرادعي أن مفاوضها الرئيسي برناردينو ليون، قد شارك في المفاوضات التي أدت إلى الانقلاب ضد الرئيس المصري محمد مرسي عندما كان سابقاً مبعوثاً خاصاً للاتحاد الأوروبي لجنوب البحر الأبيض المتوسط. وأوضح ليون أن مهمته في ذلك الوقت تضمنت التوسط بين الرئيس مرسي وأحزاب المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وعلى الرغم من التوضيح، فإن حقيقة أن الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي – المستفيد من سقوط مرسي – يُنظر إليه الآن على أنه يدعم حفتر في ليبيا، فقد تم إستخدام الأمر من قبل النقاد لمواصلة تشويه سمعة حياد المفاوض الدولي.
بالنسبة إلى المجتمع الدولي، قد لا تكون هناك خطة بديلة ولكن هناك، في الواقع، عملية سلام لم يلاحظها أحد قيد التنفيذ. في غرب ليبيا، إكتسبت سلسلة من المفاوضات المحلية ووقف إطلاق النار ببطء أرضية صلبة. في الوقت الذي حاولت بعثة الأمم المتحدة تقديم بعض الدعم لهذه المبادرات، فقد كانت عموماً أكثر تركيزاً على السياسة الرفيعة المستوى.
وفقاً للعجيلي فإن المفاوضين “يتعاملون مع سياسيين لديهم نوع من السيطرة الهرمية على قادة الميليشيات، والتي ليست لديهم على الإطلاق”. ويضيف بأن العملية كانت حتى الآن ضرورية للغاية ولكن “غير فعالة”، وقدم بعض النصائح: “التركيز على وقف إطلاق النار المحلي والخطط الأمنية المحلية التي لا تنطوي على تدخل السياسيين – إنهم يمثلون البنى الاجتماعية التي ظهرت لحماية مصالح الشعب”. إنه يراهن أيضاً على أن الإنهيار الإقتصادي إما أن يُجبر الأحزاب المتحاربة أن تختار في نهاية المطاف الحوار أو يدفعها نحو حرب شاملة.
من السهل رؤية لماذا أوروبا، على وجه الخصوص، تبحث عن التوصل إلى حلول جذرية. إن الفوضى في ليبيا يعني أن “الدولة الإسلامية” والمتطرفين الآخرين يكتسبون موطئ قدم على البحر المتوسط. وذلك يعني عدم وجود هيئة حكومية وشرطة تمارس بشكل فعال مراقبة المهاجرين المتوجهين إلى أوروبا. وهذا يعني أيضا أن رجال الأعمال لا يمكن أن يعملوا بأمان في بلد غني بالموارد بسخافة. الإغراء هو البناء على إتفاق سيئ، ومحاولة زيادة شرعيته، وتشكيل حكومة “موحدة” تضم كل من يوقّع، ومن ثم دعم الحكومة الجديدة عسكرياً. وهذا من شأنه أن يكون حلاً سريعاً قد يزيد في تغذية تأجيج الصراع.
الخيار الأفضل بالنسبة إلى الحكومات الغربية لتجنب تفاقم العنف قد يكون بالإستثمار بهدوء في المسار المحلي، وإتخاذ إجراءات صارمة ضد الجهات الفاعلة الإقليمية التي تقوم بتزويد الأسلحة والتمويل للفصائل المتحاربة في ليبيا، ومعاقبة مجرمي الحرب المزعومين. هذا هو نهج بطيء ومحبط. مثل هذه السياسة المملة وعدم التدخل سوف تبدو وكأنها إعلان ذاتي عن العجز العام. ولكن بدائل أكثر عضلات، مثل التي دعاها ماتيا توالدو،الزميل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “نهج أمني أول محدد بشكل ضيق”، جُرِّب من قبل وأدى إلى نتائج بائسة. في بلد يعاني من إنفصام الشخصية ومتقلب مثل ليبيا، الصبر يصبح فضيلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى