تونس تغرق … تغرق

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

إذا كانت تونس حقّقت وتحقّق كل يوم خطوات مهمة على صعيد دمقرطة الحياة السياسية والإجتماعية، وباتت تسير وفق المعايير الأكثر تقدماً في مجالات حرية الرأي والتعبير، وإعتماد القرار الشعبي من طريق إنتخابات مشهود لها بالنزاهة والشفافية ليس مقارنة بالدول التي عاشت ما سُمِّي ب”الربيع العربي” فقط، بل قياساً حتى بأعرق الديموقراطيات في العالم، فإنها تغرق حالياً في بحر من المشاكل في المجال الإقتصادي وبالتالي الإجتماعي، وتتسارع خطواتها نحو هاوية سحيقة، حيث لم تعد في مأمن من إنتفاضات قد تهزّ كيانها. وإذا كانت “أم الثورات العربية “، كما دُعيت من أطراف عدة، قد قامت من أجل الحرية والكرامة، فإن الحرية تحقّقت، أما الكرامة فلم تتحقق بعد، ولا يبدو في الأفق ما يوحي بأنها بصدد الإنجاز.
ولعل أولى المقومات التي تقوم عليها الكرامة هي الشغل والعمل، الذي يحفظ كرامة المرء، ويجعله في مأمن من الإحتياج والذل.
وكل الدلائل تشير إلى أن الوضع الإقتصادي قد تدهور بالقياس إلى سنة 2010، أي السنة السابقة لإندلاع الثورة. فقد إنهار الدينار التونسي، وتفاقم العجز التجاري، وإرتفعت نسبة المديونية بحوالي 50 في المئة. ومما زاد الطين بلّة تضخم ظاهرة الإرهاب الذي لم يعد مقتصراً على الجبال والقرى النائية، بل تسرّب إلى المدن وبالذات إلى المناطق السياحية، مثل متحف “باردو” في ضواحي العاصمة، وأحد فنادق مدينة سوسة السياحية بامتياز (140 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من العاصمة)، مما أصاب السياحة التونسية في مقتل، فأُلغيت الحجوزات ولم يتقلّص عدد الوافدين فقط، بل غادر حتى المقيمون، فيما تُمثّل السياحة أحد أعمدة الإقتصاد التونسي بحوالي 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وما بين 5 و7 مليارات دولار من العملات الأجنبية كموارد للبلاد. وبالمقابل تراجع إنتاج الحبوب بعد المحاصيل القياسية لسنة 2014، ولم يُنقذ الموسم إلا زيت الزيتون بمحاصيل قياسية مكّنت من التخفيف من العجز الجاري للميزان التجاري.
وتشير كل الدلائل إلى أن نسبة النمو للعام الحالي ستكون ما بين 0.5 و1 في المئة في أحسن الأحوال، بينما كانت التقديرات الأولية ترجّح تجاوز 2 في المئة، وهي في كل الأحوال وفي حد ذاتها نسبة ضعيفة جداً، قياساً إلى النسبة المتوسطة التي كانت سائدة قبل الثورة، أي 5 في المئة.
ويبدو الإستثمار معطلاً، وليس هناك بوادر جديدة في الغالب إلا في مشاريع الدولة. والواقع أنه ما دام الوضع على هذه الضبابية، والإرهاب مستمراً في الإنتشار، فمن غير المتوقع أن يُقدِم القطاع الخاص الوطني أو الأجنبي خصوصاً، على أيّ إستثمار، في وضع وإن إستقرّ سياسياً فإن أخطاراً كثيرة محدقة به سواء إجتماعياً من طريق مطالبات نقابية منفلتة، أو إستمرار ظاهرة الضربات الإرهابية المتواصلة. لقد كانت تونس تأمل بعد مفاوضات عسيرة مع شركة بيجو للسيارات، أن ترى قيام وحدة صناعية ضخمة للشركة الفرنسية، حيث كان من المتوقع لها إستخدام 50 ألفاً من المهندسين والإداريين والعمال مقسّمين على 5 سنوات، غير أن الوضع المضطرب أثنى المستثمرين الفرنسيين عن إقامة هذا المصنع وفضّلوا تركيزه في المغرب.
ويُعتبَر العاطلون من العمل، وعددهم يتراوح بين 600 و700 ألف من بينهم 200 إلى 250 ألف من خريجي التعليم العالي، بمثابة القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أي وقت، وإذ دلّت التجربة على أن نسبة نمو واحد في المئة كفيلة بتوفير 10 آلاف فرصة عمل، في بلد تُمثّل فيه اليد العاملة الإضافية سنوياً 80 ألفا من الوافدين الجدد على سوق العمالةّ، فإن هذا يبرز حدّة الأزمة الإجتماعية القائمة ومدى تعاظمها، وبالتالي توقع تأثيراتها الكبيرة المقبلة. وإذ كثرت الوعود الإنتخابية سواء في مناسبة الإنتخابات التشريعية أو الرئاسية في الخريف الماضي، فإن الأحزاب الأربعة أو الخمسة المؤتلفة لتشكيل الحكومة الحالية، بدت أعجز من أن تنجز وعودها المعسولة، والتي إستُعملت كصنارة لنيل العدد الأكبر من الأصوات … لا أكثر ولا أقل…
• كاتب وصحافي من تونس، ورئيس التحرير السابق لصحيفة “الصباح” التونسية (fouratiab@gmail.com)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى