أحلام بوتين الهيدروكربونية الإستراتيجية يبددها واقع الأسواق

الأنابيب التي كان يحلم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتعزيز سلسلة من صفقات الطاقة مع آسيا وأوروبا تواجه حالة من الفوضى، وتبدو أنها صعبة التحقيق في الوضع الراهن، الأمر الذي دفعه أخيراً إلى إعطاء أوامره إلى شركة “غازبروم” بإعادة فتح الخطوط مع أوكرانيا وإجراء محادثات جديدة لتمديد العقد حول خط الأنابيب معها.

رئيس "غازبروم" أليكسي ميلر: عودة للحوار مع أوكرانيا
رئيس “غازبروم” أليكسي ميلر: عودة للحوار مع أوكرانيا

موسكو – ميشال مظلوم

كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحاول إقامة محوره الخاص إلى آسيا، على أمل أن تمكّنه الكميات الهائلة للغاز الطبيعي التي تنام في أراضي بلاده من توطيد وتوثيق علاقة جديدة مع الصين وفي الوقت عينه تجاوز جيرانه المشاكسين في أوروبا. لسوء حظ الرجل القوي في موسكو، فإن الأمور لا تسير على ما يرام.
خلال العام الفائت وحده، وقّع بوتين صفقة غاز طبيعي ضخمة بلغت 400 مليار دولار وشراكة إستراتيجية مع بكين. كما أعربت روسيا عن أملها في بناء خط انابيب سيبيريا الثاني الى الصين الذي يُمكِنه أن يُعطي موسكو القدرة على اللعب خارج عملاء الطاقة الأوروبيين مع أولئك الموجودين في آسيا. كما ضاعف بوتين الخناق على أوروبا: عندما منع مسؤولو الإتحاد الأوروبي إقامة خط أنابيب للغاز تبلغ كلفته 40 مليار دولار عبر البحر الأسود، فقد حلم الرئيس الروسي ببساطة بإنشاء واحد جديد من خلال تركيا. وهذا الخط يمكنه أن يكون مفتاحه لتجاوز أوكرانيا المزعجة كدولة عبور لغازه الطبيعي، وبالتالي تشديد الرقابة على صادرات الطاقة إلى أوروبا، و”رش” الهبات والمنح الهيدروكربونية على الحلفاء والأصدقاء. مثالٌ على ذلك: عندما جاء اليونان صاغراً إلى موسكو هذا الصيف، وعد بوتين رئيس وزرائه أليكسيس تسيبراس بتمويل مهماز خط أنابيب آخر بمبلغ ملياري دولار لربطه بالمشروع التركي ولتوثيق علاقاته مع الحكومة اليسارية في اليونان.
ولكن من أنقرة إلى جبال التاي، يبدو أن أحلام بوتين في مجال الأنابيب تواجه صعوبات وقد تتبدد. الصين، التي أدركت بأنها لا تحتاج إلى الكثير من الطاقة كما كانت تعتقد، جمّدت صفقة الغاز الثانية مع موسكو. من ناحية أخرى، لم تتوصل تركيا وروسيا بعد إلى إتفاق على ما يُسمّى مشروع “التيار التركي” وتم تأجيل المحادثات حتى الخريف. كما أن مشاريع طموحة روسية أخرى، من محطات الغاز الطبيعي المُسال في الشرق الأقصى إلى خط الغاز لتوحيد كوريا، متوقِّفة لا تسير إلى أي مكان، حتى فيما تتابع روسيا إقتراح المزيد والمزيد من مشاريع الطاقة الكبيرة. ولتوضيح الصورة أكثر، قررت روسيا الآن فجأة أنه لا يمكنها ببساطة تجاوز أوكرانيا ويجب الحفاظ على ضخ الغاز إلى أوروبا عبر أراضي جارتها المزعجة لعقود مقبلة.
“إستراتيجية بوتين للطاقة هي في حالة من الفوضى. لا شيء يبدو أنه يعمل: لا “تيارات”، لا طرق جانبية، لا الصين”، قال ايليان فاسيليف، السفير البلغاري السابق في روسيا والآن مستشار للطاقة.
ولكن حتى لو إبتعدت المشاريع الروسية أبعد وأبعد من تحقيق أي إنجاز واضح، فإن مشاريع جديدة أكثر وأكثر تُعلَن. آخرها هو التوسع المخطط له لما يُسمّى خط أنابيب “نورد ستريم” الذي يُغذّي أوروبا عبر بحر البلطيق. ولكن هذا الخط لن يكون ضرورياً إذا إستمرت أوكرانيا في شحن الغاز، أو إذا حدثت “معجزة” وتحقق المشروع التركي.
“يمكنك الشعور بأن الروس قد خسروا المؤامرة إلى حد ماً، بالإعلان عن فتح كل هذه المشاريع، وبعضها ذات قيمة إقتصادية مشكوك فيها”، قال إد تشو، خبير الطاقة في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الذي كتب أخيراً عن خطوط الأنابيب المتكاثرة في روسيا: “هل لأنهم يريدون أن يعطوا مظهراً بأنهم يسيطرون على الوضع عندما تكون الأمور تدور في الواقع خارج نطاق السيطرة؟”
هناك العديد من الأسباب وراء ما يبدو تعثراً لخطط الطاقة الروسية، ولكن في الأساس يعود سبب ذلك إلى الرؤى الضخمة المبالغ فيها في البلاد التي تصطدم مع الواقع. إن أسواق الطاقة العالمية قد تحوّلت في العام الماضي: الطلب على النفط والغاز الطبيعي ضعيف، والأسعار قد إنهارت. إن سوقاً مشترية ضخمة تُعتبَر أنباء سيئة بالنسبة إلى بلد يعتمد على صادرات الطاقة في نصف موازنته. وأفاد صندوق النقد الدولي في أوائل الشهر الجاري أن النفط الرخيص والعقوبات سيؤديان إلى إنكماش الإقتصاد الروسي بنسبة 3.4 في المئة هذا العام.
إن القيود الإقتصادية الناجمة عن العقوبات الغربية على العديد من الشركات الروسية الكبرى، وخصوصاً في قطاع الطاقة، تخنق التمويل وتجعل تحقيق المشاريع الطموحة بشكل كبير أكثر صعوبة، خصوصاً في إطار الوقت القصير غير الواقعي الذي تقترحه روسيا. وعلى موسكو التعامل مع كل هذه التحديات فيما لا تواجه إقتصاداً منكمشاً فقط، مثل أي دولة منتجة للطاقة، ولكن أيضاً ينبغي أن تتعامل مع التغيّر الدائم في حساب التفاضل والتكامل الإستراتيجي لدى بوتين.
وهناك طيور القطرس أيضاً التي تتمثل بشركات الطاقة الروسية :مقاولون مقرّبون من الكرملين يمكنهم أن يشكّلوا معدات قتل متوفرة للمشاريع، حتى لو أنها لم تؤت ثمارها، قال ميخائيل كورتشمكين، المدير العام لشركة الإستشارات “تحاليل الغاز الأوروبي الشرقي”. وأشار إلى تقارير الصحافة الروسية التي تقدر بأن “غازبروم” أنفقت نحو 40 مليار دولار على مشاريع غير ضرورية.
لقد ضربت أسواق الطاقة المتغيّرة روسيا بشدة. إن المصادر الجديدة لإمدادات الغاز الطبيعي، من الولايات المتحدة وأماكن أخرى، قد أزالت هيمنة موسكو على السوق. لقد أضعفت طفرة الغاز الطبيعي الأميركية نفوذ روسيا في السوق الأوروبية، على الرغم من أن أميركا لم تُصدِّر حتى الآن إلى هناك، ببساطة من طريق إضافة المزيد من الغاز إلى سوق مدعومة بإمدادات كافية.
وسعى مسؤولون أميركيون، بينهم الرئيس باراك أوباما، ووزير الخارجية الأميركية جون كيري، والعديد من المشرّعين الجمهوريين، إلى إستخدام صادرات الغاز المُحتملة في أميركا إلى أوروبا كوسيلة لإضعاف قبضة روسيا. وتسعى الولايات المتحدة أيضاً إلى تعزيز قدرة أوروبا الخاصة للحصول على الطاقة من أماكن أخرى بديلة من روسيا. ورفض مسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية التعليق على هذه المعلومات.
موردو الطاقة الجديدة الآخرون، مثل أوستراليا، وضعوا أيضاً أنظارهم على السوق الآسيوية، التي كانت روسيا بطيئة للتصدي لها بجدية، مما يتيح للعملاء المحتملين لروسيا الكثير من القدرة على المساومة.
بسبب تلك التغيّرات في السوق، وخصوصاً تداعيات إزدهار الغاز في الولايات المتحدة، قال السفير السابق فاسيليف، بأنه يتوقع أن تصبح صادرات الغاز الروسي أشبه بصادرات النفط السهلة القديمة، التي لم تُستخدَم كسلاح جيوسياسي لأن النفط هو سوق كبيرة وسائل: “سوف يتم تداول الغاز الروسي مثل النفط الروسي وسُيحرَم من وضعه الإستراتيجي المميَّز في السياسة الخارجية”.
كان التحول في آمال روسيا وآفاقها في الصين خلال العام الماضي وحده كافياً لإحداث صدمة. عندما، بعد عشر سنين من المساومات، وقّعت موسكو وبكين أخيراً إتفاقهما الضخم لشراء الغاز الروسي في أيار (مايو) 2014، كانت توقعات الطلب الصيني على الطاقة ما زالت قوية. كان الاقتصاد ينمو بسرعة، وكانت بكين تعمل على ضرورة إيجاد مصادر أنظف للوقود.
ولكن بعد عام واحد، عرف الإقتصاد الصيني بعض المشاكل. تراجع النمو، والأهم من ذلك بأن إعادة التوازن للإقتصاد الصيني بعيداً من الصناعات الثقيلة، التي تستهلك الكثير من الطاقة إلى قطاعات الخدمات الأصغر حجماً، قد ساهمت في ضرب وتعثّر توقعات الطلب هناك. إن إستهلاك الطاقة ينمو بأقل مستوياته خلال هذا القرن حتى الآن. وإذا كانت الصين إستطاعت أن تقود بالفعل صفقة صعبة على السعر مع روسيا قبل التباطؤ الإقتصادي، فهي الآن في وضع يمكنها من السير ببساطة بعيداً من المشاريع التي لا داعي لها. في أواخر الشهر الفائت، علّقت شركات الطاقة الصينية بهدوء مشروع غاز سيبيريا الثاني، المعروف باسم خط أنابيب التاي أو طاقة سيبيريا-2.
من ناحية أخرى، تُعكّر بيئة السوق الصعبة أيضاً آفاق وآمال “التيار التركي”. عندما أعلن بوتين عن مشروع خط الأنابيب في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أشاد ب”الشراكة الإستراتيجية” مع تركيا. ومع ذلك لم يستطع الجانبان بعد الوصول إلى إتفاق على شيء أساسي مثل الثمن الذي ستدفعه تركيا مقابل الغاز الروسي. وقد قضى المسؤولون الأتراك والروس فصل الصيف في مبارزة من الإعلانات حول الوضع الفعلي للمشروع.
أكثر من ذلك، في حين أن الجانبين قد يبنيان في نهاية المطاف خط أنابيب محدوداً لتزويد السوق المحلية التركية، فإن المفهوم حول طريق روسي ضخم لتغذية أوروبا عبر تركيا مشكوك فيه. إن المشاكل القانونية والتنظيمية عينها التي عثّرت مصير خط الانابيب الأصلي لروسيا (المعروف باسم “ساوث ستريم”) ما زالت تصدق اليوم في المشروع التركي. ما لم، وحتى، تلتزم وتطبّق الشركات الروسية قانون المنافسة الساري في الإتحاد الأوروبي، فإن خطوط الأنابيب الروسية الجديدة لا يُمكنها الوصول إلى الأراضي الأوروبية. وهذا يخفت ويمنع أي فكرة لخط أنابيب مموّل روسياً داخل اليونان لربط أوروبا إلى تركيا.
وعلاوة على ذلك، لا يبدو أن عملاقة الغاز الطبيعي الروسية “غازبروم” قادرة أو أن لديها القوة المالية لبناء كل هذه المشاريع الضخمة من تلقاء نفسها. بفضل ضعف الطلب في أوروبا، السوق الرئيسية للشركة، بالإضافة إلى الأزمة في أوكرانيا، تراجعت أرباح شركة “غازبروم” في العام الماضي بنسبة 90 في المئة تقريباً. سواء كان “التيار التركي”، أو “الخط اليوناني”، أو “طريق التاي” من غرب سيبيريا إلى المحافظات البعيدة من الصين، فإن تلك المشاريع للطاقة تتطلب الكثير من الإنفاق مقدَّماً مع عدم وجود أي عائد فوري على الإستثمار. هذا هو المكان حيث تصطدم رؤى بوتين الإستراتيجية مع واقع السوق.
“أنت تقوم بنقل الغاز نفسه في الكثير من الحالات، ولكن عبر أنابيب جديدة التي يجب أن تُبنى على مسافات أطول للوصول إلى السوق”، قال تشاو. مضيفاً: “على الرغم من أن هذا الأمر قد يكون من المستحسن إستراتيجياً، فإنه لا يدرّ عليك المال، بل يكلِّفك المال”.
هذا هو أحد الأسباب الذي دفع روسيا فجأة إلى تعديل موقفها والإبتعاد من الهدف المُعلَن المُتمثّل في إنهاء عبور الغاز الطبيعي عبر أوكرانيا بحلول العام 2019. على مدى أشهر عدة، آخرها في أوائل حزيران (يونيو) الفائت، حذّر القادة ومسؤولو الطاقة الروس أوروبا بأنها سيتعيّن عليها أن تجد طريقة أخرى للحصول على الغاز الروسي، لأن موسكو لا تريد أن تشحن من طريق كييف بعد الآن.
ثم تغيَّر لحن روسيا فجأة، بعد إدراك بوتين على ما يبدو أنه لا توجد هناك أي وسيلة يمكن لبلده من خلالها أن يخطّط، ويموّل، ويقوم ببناء آلاف الأميال من خطوط الأنابيب اللازمة لتحل محل الشبكة الموجودة في أوكرانيا. وفي هذا المجال قال رئيس “غازبروم” أليكسي ميلر في أواخر حزيران (يونيو) أنه سيعيد فتح محادثات مع أوكرانيا حول نقل الغاز في المستقبل بعد إنتهاء العقد الحالي، وذلك “أستطيع أن أقول، بناء على أوامر مباشرة من رئيس الإتحاد الروسي فلاديمير بوتين”، وفقاً ل”رويترز”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى