الحمير خطَّطت طرق لبنان!

بقلم جوزف قرداحي

يروي المربي الكبير أنيس فريحة في حكاياته الشيِّقة التي كان يقصّها على إبنه البكر رضا: “ان الحمير هي من شقّت طرق لبنان القديمة، وقامت بهندستها، الأمر الذي جعل من تلك الطرق، دروباً ومعابر سهلة ممهَّدة!”. ويؤكد على لسان أحد ابناء القرى، في كتابه الشهير “إسمع يا رضا”: “الحمار يا شيخ بو علي مهندس بالفطرة”!
ربما العبرة في الحكاية العابرة التي اراد المؤرخ والمربّي الراحل أن يستخلصها امام ولده رضا، ما هو أبعد من الطُرفة، وأعمق من مجرد السرد المشوّق على براءته وبساطته. فالطُرُق على ما يبدو في لبنان، لعنة من لعنات العصر، لا يجاريها ويزاحمها قتامة وإسوداداً سوى الكهرباء في لبنان، والتي لنا عودة الى مآثرها في محطات لاحقة! فمنذ ان شقت الحمير “كرّوسات” القرى ومعابرها، والطرق في لبنان على حالها، مع تطور ملحوظ هو إدخال “عبقرية” التكنولوجيا الى شق وتوسيع وتزفيت تلك “الكرّوسات” التي أصبحت، ما شاءالله، أوتوسترادات سريعة، وجادات عريضة، وكورنيشات مرصوفة، وجسوراً معلَّقة تربط المدن بأطرافها المترامية، وصولاً الى أبعد القرى النائية.
لكن، ومع كل تلك العبقرية التكنولوجية العملاقة، غابت عبقرية التنظيم والتخطيط ولأاسف الشديد!، ذلك أن الجيل الثاني من مهندسي طرق لبنان، وملتزمي شقّها وتزفيتها وتخطيطها، كان همهم الاول والأوحد هو المبالغ الخيالية التي سوف يسرقونها من أموال الناس المودعة في خزينة الدولة، ويوزعونها على شركائهم وحُماتِهم في اللصوصية، غافلين عن أدنى مواصفات وشروط سلامة الطرق وآمان مستخدميها من المواطنين مشاة وسائقين! على عكس الجيل الاول من مهندسي الطرق “إخواننا الحمير” التي كان همها الأول والأوحد ينحصر في جعل الطرق “دروباً ومعابر سهلة ممهدة!” فلا يقع عابر تلك الدروب في حفرة منصوبة، او يتزحلق جراء منحدر خطر، او “يطير” الى الأبدية نتيجة المرور في تقاطع أشبه بمربعات الكلمات المتقاطعة!
من جملة الحكايات التي يُعدّدها أنيس فريحة على مسامع إبنه رضا، هي تلك التي يقارن فيها ما بين جيله وجيل رضا، وألعابه وألعاب رضا، وأعياده وأعياد رضا، التي يؤكد أنها أفضل من جيل وألعاب وأعياد إبنه الصغير، غافلاً عن المقارنة ما بين الطرق التي خطّطتها الحمير، وتلك التي خطّطتها عبقرية المهندسين بالتواطؤ والتآمر مع المتعهّدين، لسبب وجيه ربما، وهو ان المربي الراحل كان قد فارق الحياة قبل ان يحالفه الحظ في المرور على الطرق والأوتوسترادات الجديدة وإختبار الفارق بين هندستها وتخطيطها، وبين “كرّوسات” ودروب الضيعة التي هندستها الحمير!
لو عاش أنيس فريحة في عصر الهدر والتشبيح والموازنات الخيالية على مشاريع البنى التحتية، ومنها طبعاً الطرق والأوتوسترادات الحديثة، لأضاف الى كتابه الشيِّق الحكاية التالية، مستهلاً تفاصيلها على مسامع إبنه رضا، بقوله الشهير:
“إسمع يا رضا:
هل تعرف ان “كرّوسات” ودروب ومعابر ضيعتنا، أفضل بكثير من أوتوسترادات مدينتكم الواسعة، وجسورها التي تناطح الأبراج، وأنفاقها وكأنها بوابات الدخول إلى المجهول!
أقول لك هذا الكلام يا رضا، على يقيني ان دروب ضيعتنا “رأس المتن” التي هندستها الحمير بفطرتها، أحسن بكثير من طرق مدينتكم التي هندسها حملة الشهادات الجامعية من مهندسي هذه الايام! هل تعرف “ليش”؟! يهزّ رضا برأسه الصغير، سائلاً: “ليش”؟! لأن “كرّوسات” ودروب ضيعتنا يا رضا أكثر آماناً وجودة وصلابة من طرق مدينتكم، وبالتالي أذكى تخطيطاً وهندسة من تخطيط وهندسة مهندسيكم! فدروب ضيعتنا في الشتاء تبقى ممهدة سهلة العبور على خلوها من الزفت، فيما طرقكم وأوتوستراداتكم فتغرق بشبر من المياه في اول “شتوة” من “شتوات” تشرين، وتمتلئ بالحفر مع أول فيضان من فيضانات كانون، وتتحوّل الى أنهر قبل ان يطل شباط برأسه اللبَّاط، على الرغم من تزفيتها الموسمي في الإنتخابات!
أمّا لماذا دروب ضيعتنا ومعابرها أكثر آماناً، وهندستها اكثر ذكاءً؟ فعدّد معي القتلى من جراء حوادث السير على طرقكم، في فترة شهر واحد على الأقل، وإبحث عن مسبّباتها التي غالباً ما يكون الإهمال، وسوء التخطيط، وغياب الضمير، لتعرف الجواب وتتأكد معي أن الحمار مهندس بالفطرة، وفوق ذلك ضميره حي، لانه لا يأكل فوق شبعه!
هل تسمعني يا رضا؟!”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى