الإقتصاد السوري يحتضر

دمّر الصراع الجاري في بلاد الشام الإقتصاد السوري إلى حدّ يَتحدّى التحليل العددي الشامل. مع ذلك، فإن أي تقييم حقيقي للأزمة السورية يتطلب فهم السياق الإقتصادي. بعد أربع سنوات من الصراع، إنخفض الناتج الإقتصادي السوري – حسب قياس الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة – إلى اكثر من النصف من حيث القيمة الحقيقية. ويأتي ذلك في سياق تقلص عدد سكان البلاد من 21 مليون إلى ما يقرب من 17.5 مليون نسمة نتيجة للهجرة إلى الخارج (أساسا تدفق اللاجئين) وأكثر من 190 ألف حالة وفاة. تم تهجير أكثر من ثلث ما تبقى من السكان داخلياً.

الرئيس بشار الأسد: الوضعان الإقتصدي والعسكري ضده
الرئيس بشار الأسد: الوضعان الإقتصدي والعسكري ضده

دمشق – محمد الحلبي

أمضت سوريا، وما زالت، السنوات الأربع الفائتة في غرفة الإنعاش، متعرضةً لكافة العمليات الجراحية الإقتصادية الحرجة، بعدما طال سرطان الحرب اللعين كل جسدها الإقتصادي؛ فالأزمة لم تخلّف فقط أكثر من 190 ألف قتيل، (بحسب تقديرات الأمم المتحدة)، بل تردّى خلالها الوضع الاقتصادي، بحيث لا تمكن مقارنة إقتصاد البلاد خلال هذه الفترة من الحرب بأربع سنوات مرّت عليه في الزمن الطبيعي.
يُذكر أن الإقتصاد السوري قد شهد مرحلة من النمو الحقيقي المستقر في الفترة بين العامين 2006 و2010، وذلك بمعدل وسطي قدره 5 في المئة، وكانت هذه النسبة إحدى أعلى نسب النمو المُسجَّلة في منطقة الشرق الأوسط وفقاً لبيانات البنك الدولي.
لقد تعرضت سوريا خلال هذه الحرب الأهلية لعقوبات وحصار إقتصادي كبير، وشهد الدولار أثناءها إرتفاعات مستمرة، قابلها هبوط واضح في قيمة الليرة السورية، وإرتفاع جنوني في أسعار بعض السلع والمواد، مع فقدان بعضها، وشحّها في أحيان أخرى، وأهمها المحروقات، وما خلّفته من معاناة طويلة للأفراد، فضلاً عن إرتفاع البطالة، وعدم قابلية المؤسسات الإستثمارية الصغيرة والكبيرة على العمل… كل ذلك أدّى إلى تدهور الوضع الإقتصادي والمعيشي للمواطن السوري.
الواقع أن الإقتصاد السوري قد شهد تحوّلاً إستثنائياً في مؤشراته الكلية جرّاء هذه الأزمة التي تعصف بالبلاد، والتي ألقت بظلالها على الموازنة العامة، والإقتصاد الكلي عامة، وضاعفت من حجم الضغوط على شبكة الأمان الإجتماعي، وزادت من أعباء الدعم، ووسّعت نطاقه، على نحو عاد به قريباً إلى نموذج السبعينات والثمانينات من القرن الفائت، رغم تغيّر إتجاهاته الأساسية.
ووفقاً لتقرير للأمم المتحدة، فقد خسر الإقتصاد السوري جراء إستمرار الأزمة الدائرة منذ ما يزيد عن أربع السنوات 200 مليار دولار حتى نهاية العام الماضي، كما أدت هذه الأزمة إلى إرتفاع نسبة الفقراء أكثر من 80% من مجموع السكان.
في كل المقاييس، يبدو الإقتصاد السوري في حالة يرثى لها إن لم يكن في النزع الأخير. حتى أن قدرته على إطعام نفسه هي تحت ضغط هائل. فمثلاً، إن إنتاج القمح هذا العام سيصل إلى 2.445 مليون طن، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية، الأمر الذي يترك عجزاً قدره 800،000 طن.
منذ أن لعب الجفاف الكبير الذي ضرب البلاد في أواخر العقد الفائت دوراً رئيسياً في تشكيل الحركة المناهضة للأسد – معمّماً الفقر في العديد من المناطق الريفية في سوريا – والقلق يقضّ مضاجع قيادة النظام في دمشق. لقد أدّى الجفاف الشديد في العام 2008، وشحّ الأمطار في العامين التاليين، إلى تحرّك وتململ سكاني في المدن الرئيسية، حيث دفع الأمر الكثيرين من سكانها إلى المشاركة في طليعة الإحتجاجات التي قوبلت بردّ صارم من قبل النظام في العام 2011.
وحسب تقرير حديث صدر أخيراً عن مركز “تشاتام هاوس” للأبحاث في المملكة المتحدة، “الإقتصاد السوري: إلتقاط قطعه”، فإن المظالم الإقتصادية، بما في ذلك الإستياء الشعبي بالنسبة إلى الإصلاحات الموجهة نحو السوق، قد لعبت دوراً في إنتفاضة 2011 ضد النظام. كما أن زيادة الفقر وعدم المساواة إلى جانب صعود نخبة جديدة من رجال الأعمال الأثرياء صنع مزيجاً قابلاً للإشتعال، كما يقول التقرير.
إن تقلّص الإقتصاد السوري بأكثر من 50 في المئة منذ العام 2011، يعني أن الزراعة قد لعبت دوراً أكبر في الناتج القومي من الناحية النسبية، وإنخفض الإنتاج الغذائي بشكل حاد نتيجة للصراع.
ولكن الحقيقة هي، أن تدمير الزراعة الناجم عن الصراع ليس في الجزء العلوي من قائمة إهتمامات نظام الأسد. وتراجعت الصادرات إلى جزء بسيط متدن من متوسط نحو 12 مليار دولار سنوياً في الفترة بين 2006 و2010.
لقد ساهم النزاع في تفاقم الوضع بشكل دراماتيكي: إرتفع معدل التضخم إلى 120 في المئة في منتصف العام 2013. وعلى الرغم من أنه خفت حدته على مدى ال12 شهراً التالية، فقد بدأ في الإرتفاع مرة أخرى في أواخر العام 2014. كما إنخفضت قيمة الليرة السورية بشكل حاد جداً فيما شعرت سوريا بتأثير كلٍّ من الصراع والعقوبات الدولية. في حزيران (يونيو) 2015، إنخفض سعر الصرف الرسمي بنسبة حوالي 78 في المئة منذ العام 2011، وسعر السوق السوداء بنحو 83 في المئة. وكان على حكومة دمشق خفض دعم الوقود والغذاء، مع وجود عجز في الموازنة بلغ نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والذي لا يمكن تعويضه إلا من طريق التمويل عبر الإقتراض من البنك المركزي.
من جهته فَقَدَ الرئيس بشار الأسد هذا العام الكثير من قدرته على توليد الدخل، بعدما شهد خسائر كبيرة من الأراضي في وادي الفرات إلى الجماعات المتمردة، مما أدى إلى إنخفاض مطرد في إنتاج النفط الى 164،000 برميل يومياً في العام 2012، وإلى 30,000 برميل يومياً في 2013 وفقط حوالي 10،000 برميل يومياً في العام 2014، وفقاً للأرقام الصادرة عن وزارة النفط والتي نقلها مركز “تشاتام هاوس”.
الصادرات في الأشهر التسعة الأولى – أساسا الفوسفات والأغنام والفواكه والخضروات ومنتجات الألبان والمنتجات نصف المصنعة- بلغت قيمتها 2.1 ملياري دولار.
في هذا الصدد، كان التصديق في 8 تموز (يوليو) 2015 على خط إئتمان جديد بلغ مليار دولار لسوريا من حليفتها الإقليمية إيران جيداً وجاء في الوقت المناسب. والإتفاق الذي تم بين مصرفين من البنوك المملوكة للدولة، البنك التجاري السوري وبنك تنمية الصادرات الإيراني، جاء في أعقاب خط إئتمان سابق بين دمشق وطهران في تموز (يوليو) 2013، والذي تمّ إستخدامه في الغالب لواردات النفط.
ولكن تغطية العجز في الموازنة لا تبشر بوجود خطة طويلة الأجل تساعد على صمود نظام الأسد المُحاصَر إقتصادياً وبقائه. كما أنها لا تفعل أي شيء لمعالجة التحديات الملحّة والشديدة في المدى الطويل التي تواجه إقتصاداً دمّرته الحرب، والذي كان يسجّل حتى أواخر العقد الفائت معدلات نمو مرتفعة نسبياً في الناتج المحلي الإجمالي السنوي وصلت إلى خمسة في المئة.
وقال نائب رئيس الوزراء السوري السابق، عبد الله الدردري، في مؤتمر حول الوضع السوري في جامعة “سانت أندروز” في إسكتلندا في أوائل تموز (يوليو) الفائت: “من أجل العودة ببساطة إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد كما كان في العام 2010 سيتطلب الأمر إستثمارات على مدى 5 سنوات قدرها 100 مليار دولار، مع 40 مليار دولار منها من القطاع الخاص”.
الآن نائب الأمين التنفيذي في اللجنة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، بعترف الدردري – الذي نأى بنفسه عن نظام الأسد، الذي خدمه في قدراته التقنية – أن هذا الأمر يفترض أن يعود إنتاج وصادرات النفط وتُستأنَف على مستويات ما قبل الحرب.
“السؤال هو هل لدينا رؤية واضحة لعقد إقتصادي وإجتماعي قادر على إدارة وتحريك 60 مليار دولار؟ هل لدينا مؤسسات فعّالة وشفافة للقيام بذلك، وأن تكون قادرة على الحصول على قروض ومنح لتكمّل ما يقدَّر بنحو 15 مليار دولار من الموارد الوطنية؟”، تساءل الدردري.
في هذه الأثناء، يجري إعادة تشكيل الإقتصاد السوري في هذا النزاع من طريق مجموعة جديدة من الفعاليات التي تكاثرت في إطار كلٍّ من العقوبات والحرب. ويشير سامر عبود، أكاديمي متخصص بالشؤؤن السورية في الولايات المتحدة: “لقد أدى هذا الوضع إلى إعادة تكوين مجتمع الأعمال والذي عمل على ظهور نخبة الصراع التي صارت ثروتها مرتبطة بإستمرارية النزاع”.
في البقعة النفطية الواقعة في شمال شرق سوريا، بدأ هذا الاقتصاد في التبلور في الفترة 2012-2013. ووفقاً لمؤسسة “تشاتام هاوس”، لقد سيطرت القبائل والعشائر في دير الزور والمناطق الجنوبية لمدينة الحسكة على عمليات عشرات الآبار النفطية هناك. هؤلاء المشغّلون تفاوضوا على إتفاقات مع الجماعات العسكرية المهيمنة في المنطقة لبيع النفط الخام للتجار، الذين ينقلون بدورهم البترول للتداول وتكريره في محاور على مقربة من الحدود التركية. إن مجموعات المتمردين وأمراء الحرب المحليين أنشأوا مجموعة من المصافي الأساسية في هذه المناطق، كما يقول التقرير، ووضعوا طلبات لشراء إحتياجاتهم مع محطات لتصنيع أنابيب الصلب والإسطوانات والخزانات المطلوبة.
وبرز بشكل مضر ومسيء السعي إلى الريع الإقتصادي في سوريا في شكل العديد من نقاط التفتيش. هذه هي المولّدات الأساسية لإيرادات الميليشيات، وأمثال تنظيم “داعش” الذي يقوم بضمان أن أي طريق للتجارة المنقولة ينتهي في تغذية العائدات لإقتصاد دولة “الخلافة”. وفقاً لكاتب التقرير، ديفيد باتر، متحدثاً في حفل أقامه مركز “تشاتام هاوس” في أواخر حزيران (يونيو) الفائت، إن “تنظيم “الدولة الإسلامية” هو الميليشيا الوحيدة التي تعطي سائقي الشاحنات إيصالات ل”الغرامة” المدفوعة على نقاط التفتيش.
وكما قال أحد أبرز المحللين السوريين ل”أسواق العرب”، إن فقدان “داعش” للبلدة الحدودية “تل أبيض”، التابعة لمحافظة الرقة، كان ضربة كبيرة لوضعه المالي. إن إبعاد ودحر التنظيم التكفيري من قبل الميايشيات الكردية التابعة لحزب “الإتحاد الديموقراطي” من بلدة يهيمن عليها العرب يُعتبر إحباطاً لتوريد السلع والخدمات من طريق تركيا، ويوضّح هذا لماذا حاول “داعش” وأصرّ بشدة على مهاجمة المواقع الكردية في الشمال في الأسابيع الأخيرة – كوسيلة لتحويل إهتمام حزب “الإتحاد الديموقراطي” بعيداً من الدفاع عن “تل أبيض”.
من ناحية أخرى، عرفت سوريا إرتفاعاً في إقتصاد المحسوبية مع رجال يمثّلون شركات التوزيع التابعة للدولة الذين يستفيدون بشكل كبير من الفرص الريعية التي يوفرها الصراع. وطالما تمكّن نظام الأسد من توزيع الرعاية من طريق هذه الفئة الجديدة من مشغّلي السوق السوداء، فإنه سيضمن الفرصة لسير إقتصاده ولو بصعوبة وضمان بقائه.
وعلى الرغم من الدمار والخراب على مدى السنوات الأربع الماضية، واصل الإقتصاد السوري ومؤسساته الإدارية العمل. ومع ذلك، فإن هذا الوضع هو على نحو متزايد في خطر: بينما يستمر النظام في الحفاظ على نوع من الوجود المؤسسي في معظم أنحاء البلاد، فإن هذه السلطة هي أكثر من أي وقت مضى تتآكل لأنها تفقد الأرض لحساب المعارضين الذين وضعوا جميع الهياكل الإدارية في المناطق التي سيطروا ويسيطرون عليها.
مع عدم إظهار الصراع أي علامة على التراجع، فمن الواضح أن حالة الإقتصاد والمؤسسات التي تتبعه من ناحية، والوضعين السياسي والعسكري لنظام الأسد من ناحية أخرى، ستكون عنصراً حاسماً في تطور النزاع. خلال النصف الأول من 2015 أظهر النظام بشكل متزايد علامات من الإرهاق والتراجع على الجبهتين العسكرية والإقتصادية. وهذا يثير مسألة ما إذا كان حدوث تدهور دراماتيكي في الوضع الاقتصادي قد يكون حافزاً لإنهيار عسكري للنظام أو للتوصل إلى تسوية سياسية مفروضة من الخارج ضد رغبات الأسد، أو ما إذا كان المزيد من النكسات العسكرية قد يكون حافزاً لإنهيار إقتصادي للنظام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى