لماذا يؤيِّد أهل السنّة في لبنان تنظيم “داعش”؟

أظهر إستطلاع “منتدى فكرة”، الذي أجراه لحساب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في أيلول (سبتمبر) 2014، أن نسبة الداعمين لتنظيم “داعش” في لبنان لا تتخطى 1% بين السكان السنة في البلاد الذين ينظرون إلى التنظيم التكفيري بشكل إيجابي. كما توصل إستطلاع أجراه المركز العربي للبحوث والدراسات السياسية (مركزه الدوحة) إلى إستنتاجات مماثلة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014. علماً بأن آخر الإستطلاعات طالعتنا بأن هناك مليون فلسطيني يؤيدون “داعـش” وهو ما نسبته 20% من سكان غزة والضفة البالغ عددهم معاً 4,547,000 فلسطيني وهو ما يعني ان تنظيم “الدولة الإسلامية” لديه 1,091,280 مؤيد فلسطيني (عدا المخيمات في لبنان).
وبحسب كتاب حقائق العالم، فإن 54% فقط من سكان لبنان هم من المسلمين، حيث تبلغ نسبة أهل السنّة بينهم 27%. وبالتالي فإن النتيجة تشير إلى وجود 8,578 من السنة في لبنان ينظرون إلى “داعش” بشكل إيجابي. ولكن إلى أي مدى تصح هذه الأرقام؟

أحمد الأسير: لجأ إليه بعض أهل السنة لكن الجيش سحقه
أحمد الأسير: لجأ إليه بعض أهل السنة لكن الجيش سحقه

بقلم الدكتور هلال خشّان*

إن إدعاء إستطلاع للرأي العام، الذي أُجراه “منتدى فكرة” لحساب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أخيراً (أيلول/ سبتمبر 2014)، بأن 1٪ فقط من أهل السنّة اللبنانيين البالغين يؤيدون أو ينظرون بشكل إيجابي إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، يجب أن يُؤخذ بحذر لأن “هناك هوة واسعة بين ما يقول الناس بأنهم يتصرفون وكيف يتصرّفون في الواقع”، على حد تعبير الخبيرين ستيفن ليفيت وستيفن دابنر. في الواقع أن السنّة اللبنانيين على إستعداد لتأييد كل من يستطيع هزيمة أعدائهم وإستعادة عزتهم وكرامتهم، لذا فإن كثيرين منهم يجدون “داعش” جذاباً لأسباب عدة أهمها: إنهم بكل بساطة لا يحبون الشيعة وينفرون منهم ويشعرون بالبعد من الدولة اللبنانية في حين يتملّكهم الحنين إلى الخلافة. إن كثيرين منهم أيضاً معجبون بالسلطة بأي شكل من الأشكال، والبعض الآخر لديه نزعة للإرهاب المنفّر.

النفور من الشيعة

بدأ صعود الشيعة اللبنانيين بعدما طردت حركة “أمل” الجيش اللبناني من الضاحية الجنوبية لبيروت في شباط (فبراير) 1984. وبعد ذلك بعام، قام “حزب الله” لأول مرة بتشكيل ميليشيا لمحاربة الجيش الإسرائيلي و”جيش لبنان الجنوبي” التابع له.
وبذلك فقد خسر أهل السنّة الصلاحيات السياسية التي منحهم إياها الميثاق الوطني في 1943 مع الموارنة. ومع خسارتهم دعم منظمة التحرير الفلسطينية بسبب الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وجد السّنة أنفسهم فجأة يفسَحون المجال مُكرَهين لمنافسهم الشيعي الجديد الذي يتمتع بدعم إقليمي قوي.
في العام 1992 أحيا ظهور رفيق الحريري على الساحة السياسية اللبنانية الآمال السنية، ولكن إغتياله في شباط (فبراير) 2005 أثبط عزائمهم وتوقعاتهم من جديد. وفي أيار (مايو) 2008، إقتحم “حزب الله” معظم معاقل السنّة في غرب بيروت، وفي غضون ساعات إستطاع تصفية الميليشيات التابعة ل”تيار المستقبل” الذي يرأسه سعد نجل رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. لذا بعد فترة طويلة من صعود الشيعة، إبتهج الشارع السني عندما إستولى “داعش” بسرعة على مدينة الموصل ورقعة واسعة من الأراضي العراقية في حزيران (يونيو) 2014. وكما وصف زعيم حي في طرابلس الأمر: “لقد شهد العراق إنتصار السنّة على قمع الشيعة. إن إجبار السنة في طرابلس على التنديد ب”داعش” يرقى إلى إرغامهم على ممارسة قمع سياسي ذاتي” (“النهار” اللبنانية، 27 حزيران (يونيو) 2014). وحقيقة الأمر هي أن”الكراهية لإيران و”حزب الله” جعل كل السنّة اللبنانيين يؤيدون “داعش” بحرارة، حتى لو أن أساليبه الوحشية سوف تؤثر سلباً فيهم في نهاية المطاف” (“Liban Space”، 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2014) .

قطيعة مع الدولة اللبنانية

عندما هاجم “حزب الله” القيادة السنية الرئيسية وأضعفها، وقف الجيش اللبناني متفرّجاً وقرّر عدم التدخل. لذا فإن القيادة السنية الضعيفة، سواء الدينية أو السياسية، قد خلقت فراغاً الأمر الذي تسبب في إنجراف الطائفة بعيداً والتحوّل إلى القادة الإسلاميين الراديكاليين. وكان أحد هؤلاء القادة الشيخ السلفي أحمد الأسير، الذي كانت حركته تتمتع بدعم وولاء مئات العائلات في صيدا. وقد إقتلع الجيش اللبناني هذه الحركة من المدينة في حزيران (يونيو) 2013. من جهته توجه الأسير بعد الهزيمة إلى العمل السري، بعدما نقل ولاءه من أبو محمد جولاني في “جبهة النصرة” إلى أبو بكر البغدادي في “داعش”. وأكّد هذا الإنشقاق أيضاً على كسوف نفوذ المؤسسة الدينية السنية “دار الفتوى”، والتي كانت في السنوات الأخيرة موضوع فضائح مالية وضعف سياسي. الواقع أن ضعف مكتب رئيس مجلس الوزراء السني، الذي تتبعه دار الفتوى، أدى إلى ضياع الدفة، الأمر الذي أفقده دوره التقليدي في الحفاظ على تماسك المجتمع السنّي.
بالإضافة إلى ذلك، يعترف بعض المسؤولين الحكوميين سراً بأن “داعش” قد إنتشر في بعض المناطق السنية اللبنانية، بما في ذلك بيروت، وهناك أمثلة لدعم هذا الإعتقاد. رجال دين سنة يتقاضون روابتبهم من الحكومة اللبنانية في صيدا، مسقط رأس رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، إضطروا إلى الرد بغضب على سلسلة من كتابات مؤيدي “داعش” على الجدران في تلك المدينة، وحذروا من أنه ما لم يتوقف هذا التوجه ويتم القبض على هؤلاء، فإن “صيدا ستصبح أرضاً خصبة لإحتضان الإرهاب” (الوكالة الوطنية للأنباء 7/10/2014). وكثيراً ما ينفّذ الجيش اللبناني تدابير أمنية واسعة النطاق في صيدا، على الرغم من إصراره على أنه “ليست هناك بيئة حاضنة وداعمة ل”داعش” في المدينة”.
في طرابلس، ثاني أكبر مدينة في لبنان ومركز السنّة الأكثر أهمية، يستمر نواب “تيار المستقبل” في البرلمان في رفض الإعتراف علناً بأن “داعش” موجود في المدينة، ولكن إنكارهم فشل في إخفاء “وجود بيئة إسلامية متطرفة في المدينة” (النشرة، 28/6/2014). لقد نجحت هجمات عدة على دوريات من الجيش اللبناني وعلى نشطاء مؤيدين للحريري في طرابلس في منع تشكيل مجالس صحوة من النوع العراقي. ولكن المدينة هي بشكل كامل تحت سيطرة الجيش، وقوى الأمن الداخلي، والإستخبارات العسكرية. ويقيم أنصار “داعش” بشكل رئيسي في حي باب التبانة وهم معروفون للسلطات، التي إختارت أن تتجاهلهم. كما أن مسيرات مؤيدي “داعش” خارج المساجد شائعة في طرابلس عقب صلاة الجمعة. إن الانفجارين في كانون الثاني (يناير) 2015 اللذين هزّا قطاع العلويين في جبل محسن في طرابلس قد قامت بهما عناصر من “داعش” بناء على أوامر مسؤوليهم في سجن “روميه” في التلال المطلة على بيروت. وعندها فقط أصيبت وزارة الداخلية بالحرج وقررت تفكيك غرفة عمليات “داعش” في بلوك –ب في السجن. وفي نظرة خاطفة على الوضع يؤدي إلى إستنتاج مفاده أن “داعش لا يحتاج إلى أن يأتي إلى طرابلس. إنه موجود أصلاً وفعلياً هناك” (النهار، 27/6/2014). التعامل مع التهديد الذي يشكّله “داعش” كان على الأرجح السبب في إعطاء حقيبتي الداخلية والعدل في حكومة تمام سلام لشخصيتين من “تيار المستقبل” (نهاد المشنوق، وأشرف ريفي على التوالي).
ولكن على الرغم من إتهامه والإدعاء بأن له توجهات ضد السنّة، فإن الجيش اللبناني قد حرص على عدم التورط في السياسة الطائفية. ولماً كانت المؤسسة العسكرية إنقسمت سابقاً مرتين (في العام 1976 والعام 1984) عندما تحيّزت قيادتها إلى أحد الجانبين في الحرب الأهلية، فإن قيادة الجيش تصرّ بوضوح بأنها ليست مهتمة في إنقلاب ثالث، ويبدو أنها على علم تماماً أن تأييد السنّة ل”داعش” هو نتيجة إنعدام الثقة العامة في أجهزة الدولة، بما في ذلك الجيش. وعلى الرغم من أن بعض الجنود السنّة قد إنشق وإلتحق ب”جبهة النصرة” و”داعش”، فإن قيادة الجيش رفضت هذا الإدعاء وإعتبرت الأمر حالات فردية ومعزولة.
يشير بعض المراقبين المحلّيين أن “بذرة إرهاب “داعش” موجودة في كل منطقة سنّية مكتئبة في لبنان”. إن التأييد ل”داعش” ينمو فيما يرى أهل السنّة اللبنانيون حالة إخوانهم المُحزنة في العراق وسوريا، التي يقارنونها بأوضاعهم حيث تواصل إيران دعم “حزب الله” لممارسة الهيمنة على الحياة السياسية اللبنانية. إن إرتفاع غضب السنّة ونجاحات “داعش” لا تبشّر بالخير للإستقرار السياسي اللبناني.

التلهف للخلافة

على عكس الشيعة، الذين يعتقدون أن الخلافة إغتصبت حقوق أهل بيت النبي محمد (حديث الغدير الذي جاء فيه: من كُنتُ مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه)، فإن السنة قد إعتبروا الخليفة زعيماً وقائداً شرعياً لهم على مدى ثلاثة عشر قرناً. تواقة للقيامة، فقد إستمرت الخلافة بعد إلغائها في 1924 في تركيا من قبل كمال أتاتورك، إذ أن السنة “إعتبروها دولة لمجد وعدالة المسلمين”( الأنباء الكويتية، 2/10/2014). إن إعادة إحيائها، على سبيل المثال، كانت السبب لإنشاء جماعة “الإخوان المسلمين” التي أسّسها حسن البنا في العام 1928. كما وجد اللبنانيون السنة أيضاً على أن السياسات العثمانية الجديدة ل”حزب العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة جذابة، وهم بالتالي معجبون بشكل خاص بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
إن هاجس الخلافة لم يجنّب أهل السنّة التفكير المضلّل. إن الولع العربي بهتلر موثّق، إلى حد التأكيد في بعض الأحيان أن الطاغية كان ينظر إلى الإسلام وثقافته بإيجابية (الموقع الإلكتروني لمخيمي نهر البارد والبداوي). ويشير الكاتب الأميركي اليميني دانيال بايبس إلى أن “النازيين صوّروا الإسلام كحليف، وبالتالي فقد دعوا إلى إحيائه وإنعاشه في حين حثّوا المسلمين على التصرف بشكل ديني والإقتداء ب(النبي) محمد”. كما أنه ليس من النادر أن تجد بعض العرب يجادل بأن نابليون قد إعتنق الإسلام، وسعى إلى إنشاء الإمبراطورية الإسلامية العظمى (الأهرام، 29/5/2006). وفي حزيران (يونيو) 2014، أعلن أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم “داعش” تشكيل “الدولة الإسلامية” وعيَّن نفسه خليفة. ونظراً إلى دمويته وعنفه المتمادي، حتى ضد زملائه الجهاديين، فإن إعلانه لم يولّد موافقة واسعة. ومع ذلك، فإن سائقي سيارات في بعض المناطق السنية اللبنانية ساروا في الشوارع مطلقين العنان لأبواقهم — تقاليد لبنانية للتعبير عن السعادة — بعد إعلان البغدادي باعثين برسالة موافقة صامتة عليه. أكثر من ذلك، لقد كان إصدار جواز سفر “الخلافة الاسلامية” سبباً آخر للفخر. فمن الصعب على السنة ان يتنصّلوا من النقش على جواز السفر الذي يقول: “حامل هذا الجواز نسيّر له الجيوش لو مسّه ضرر”.

إعجاب بقوة “داعش”

الاسلام يعني حرفياً التسليم والخضوع لسلطة دينية شرعية: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ” (سورة النساء: 59). وهذه الحتمية قد تقنع جيداً المؤمنين بتبجيل وتقديس القوة وإظهار عدم التسامح تجاه الأصوات المعارضة. في كتابه “الحصان القوي”، يقول الكاتب الأميركي لي سميث بأن “أهل السنّة كانوا كتلة من القوة التي لم تعرف التكيّف أو الحل الوسط، ولكنها أجبرت الجميع بدلاً من ذلك على التسليم بنظرتها”. ونظراً إلى مركزية دور الخليفة في تطبيق الشريعة الإسلامية ونشر الدين في كل ركن من أركان العالم، فإن “الشخصية السنية كانت في كثير من الأحيان تعني رجل الدولة القادر، وبطل الفتوحات، وصانع النصر”، كما يقول الباحث في الحركات الإسلامية المعاصرة حسام تمام. وفي دراسة حول رد فعل طلاب الجامعات اللبنانية لغزو العراق للكويت في آب (أغسطس) 1990، إختارت نسبة 82 في المئة من المستطلعين السنّيين صدام حسين كأفضل قائد سياسي بالنسبة إليهم. وعندما بادر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بالتحضير لعملية درع الصحراء لتحرير الكويت، أمر الرئيس العراقي السابق حسين بإلقاء القبض على مئات عدة من الرعايا الغربيين لردع العمليات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة. ورداً على سؤال حول هذا الموضوع، فإن 98 في المئة من السنّة اللبنانيين قالوا بأن العراقيين محقّون في أخذ الرهائن الغربيين. وحتى أن الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز “إفتتنت به الجماهير العربية بسبب تصريحاته المعادية لإسرائيل وذلك لأنها جائعة لقائد صاحب كاريزما مشابه لجمال عبد الناصر”، كما لاحظ الكاتب علي يونس.
ليس “داعش” إستثناء للنهج التقليدي لقوة المسلمين المتوقعة من خلال قيادة قوية. إذا كان أي شيء، فقد بالغ في إستخدام الإكراه وحَمَله إلى آفاق جديدة. لقد إعتمد التنظيم التكفيري على النشرة الشنيعة التي أصدرها أبي بكر ناجي بعنوان “تنظيم الوحشية” كوسيلة لتطبيق مقال “معالم الطريق” لسيِّد قطب. وبالتالي فإن الأساس المنطقي هنا يفيد بأن الإرهاب المتطرّف وحده يمكنه أن يساعد على بناء الدولة الإسلامية على رماد الأنظمة المرتدَّة المنحطّة. إن إستخدام القوة الهائلة، والجسيمة والمصوّرة قدر الإمكان، هو أمر لازم لإخضاع الأعداء. وكما قال الشيخ الجهادي حسين بن محمود ذات مرة: “دعهم [أعداءنا] يجدون القسوة فيكم”.
في حربه في سوريا والعراق، إعتمد “داعش” تكتيكات قاسية من دون النظر إلى مدى الخسائر البشرية. فمثلاً لكسب معركة قاعدة الطبقة الجوية في شمال شرق سوريا — سيطر عليها في نهاية المطاف في آب (أغسطس) 2014 — لم يُمانع أو يتردّد التنظيم المتشدِّد في فقدان ضعف ما خسرته القوات الحكومية من الرجال. الواقع إن ما يهمّ “داعش” أكثر من أي شيء آخر هو تجريد الجنود العراقيين والسوريين إلى ملابسهم الداخلية والسير بهم إلى موت مُهين من أجل إبراز قوة لا تُقهر. كما أن المدينة الكردية “عين العرب” أو “كوباني” هي مثال آخر على جهود “داعش” لتحقيق إنتصارات مُذهلة بغض النظر عن التكلفة. لقد خسر تنظيم “الدولة الإسلامية” أكثر من ألف مقاتل قبل ان يعترف أنه قد تم طرده من المدينة بسبب ضربات التحالف الجوية، حتى في الوقت الذي وعد بأنه سيعود للهجوم. وإنتقم لهزيمته من طريق حرق طيار أردني، أُلقي القبض عليه بعد سقوط طائرته، حتى الموت، وعرض سجناء حرب من البشمركة الكردية في أقفاص معدنية.
مثل معظم المُسلمين، يعتبر معظم أهل السنة اللبنانيين أنفسهم ضحايا قرون من التخلف والتهميش والهزيمة. فإنهم يميلون إلى تفضيل أي علامات، مهما كانت بعيدة المنال، تشير إلى عكس ضعف السنة وتقوية وضعهم. لقد أوضح بائع أَعلام في طرابلس شعبية “داعش” بقوله: “الناس… يحبون كل من هو قوي” (دايلي ستار، 18/7/2014). من جهتهم يريد الشبان الفقراء والغاضبون والمهمّشون في طرابلس “إنتصارات كبيرة” (وول ستريت جورنال، 21/10/2014). وعلى الرغم من أن الدعم العلني ل”داعش” في لبنان يعاقب عليه القانون فإن “أي شاب في طرابلس، إذا سئل، سوف يعترف كم هو معجب بقوة “داعش” (العربية، 9/11/2014). وعندما يواجَهون بوحشية وشراسة “داعش”، فإن أنصاره في كثير من الأحيان يستندون إلى آية من القرآن لتبرير موقفهم والتي تقول: “محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم” (سورة الفتح).

وجهة للنافرين

هناك أسباب أخرى غير التقوى تدفع اللبناني السنّي لتأييد ودعم “داعش” والحركات الدينية المتطرفة الأخرى. لقد وجد مقاتلو “حزب الله” وهم يبحثون عن جثث المسلّحين السنّة في سوريا في كثير من الأحيان، كما أفادوا، ملاعق ومذكرات شخصية عن وجبات غذاء مّقرَّرة لهم في السماء مع النبي، وكذلك أول موعد لهم مع 72 من الحوريات العذارى (موقع الجنوبية، 26/1/2014). ولكن المهاجرين الذين لم يتكيَّفوا مع النظام في الغرب قد تحوَّلوا بدورهم أيضاً إلى التشدّد. حتى أن عشرات النساء المسلمات في الغرب إخترن الإنضمام إلى “داعش” بعدما أعلن البغدادي تشكيل “الدولة الإسلامية”. إنهن “معزولات إجتماعياً ومكتئبات … والغالبية منهن عانت من عدم وجود هدف في الحياة اليومية” ( فورين بوليسي جورنال، 16/1/ 2015).
ولأن العزلة يمكن أن تؤثر في الأفراد من مختلف مناحي الحياة، فإن الإنضمام إلى “داعش” كان جذاباً لمجندين من طيف إجتماعي وإقتصادي واسع النطاق. وهكذا، تجنّد محمد إيموازي، جزّار “داعش” الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، من عائلة ميسورة في لندن، كما فعل حكم كرة القدم المصري محمود غندور، الذي إختار أن يتخلّى عن مهنته الواعدة للإنضمام إلى “الدولة الإسلامية”. والجلّاد اللبناني الذي يدعى أبو مصعب الأوسترالي تخلّى عن مهنته في المصارعة الحرة والحياة الهانئة في أوستراليا لتلبية الدعوة إلى الجهاد بعدما قام بتعليم طفله البالغ من العمر 7 سنوات “فن” قطع الرؤوس. إن المجموعة التي تضم الشباب المغترب الغاضب والمتطرف لا تضم فقط المهاجرين المسلمين غير المتكيِّفين وغير المنسجمين مع الغرب أو النجوم الصاعدة التي تشعر بالفراغ داخلياً وتبحث عن معنى للحياة، ولكن أيضاً تشمل أولئك المساكين المُثقلين بمشاكل الفقر والجريمة. كما نجح “داعش” في تجنيد إثنين على الأقل من المسيحيين اللبنانيين من طرابلس إلى صفوفه. إن التسويق الذي يستخدمه “داعش” للإستفادة من المدينة اللبنانية الشمالية يكمن في “الأوضاع المالية السيئة التي تسهّل تجنيدهم” (نهار نت، 26/2/2015).

مزيد من المتاعب المستقبلية

إن ما يحدث في سوريا والعراق هي حرب دينية مع طابع عرقي. وكنموذج مصغّر للصراعات الدينية والعرقية في المنطقة، من الصعب أن نتصور كيف يمكن للبنان أن يكون بمنأى عن تداعياتها. إن عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان لبدء حوار مع “حزب الله”، بعد سنوات من المنفى الإختياري، يرتبط بإرتفاع التطرف السني والعزم السعودي على عكس ذلك. إن تقليص وجود “داعش” في سوريا والعراق في نهاية المطاف سيستغرق وقتاً طويلاً، ومن غير المرجح أن يتم القضاء على هذه المجموعة المتطرفة بشكل تام. لكن لبنان يمثّل فعلياً حالياً لبعض أعضائها ملاذاً مريحاً لأن “هناك حقيقة ثابتة أن عرسال ومخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة قرب صيدا هما ملاذان آمنان ل”داعش” والحركات الإسلامية الراديكالية الأخرى” (البناء، بيروت، 17/1/2015).
علاوة على ذلك، في حين أنه لا توجد أرقام دقيقة عن عدد اللاجئين السوريين في لبنان، يُعتقد أن هذه المجموعة تتجاوز المليون ونصف المليون شخص. بينهم، الآلاف من المتشددين الإسلاميين المتنكّرين كلاجئين. وقد وجد إستطلاع أجرته مؤسسة زغبي للإستطلاعات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، حيث أجرى مقابلات مع 900 لاجئ سوري في لبنان والأردن وتركيا، بأن 4٪ ينظرون إلى “داعش” بشكل إيجابي و9٪ ينظرون إليه بشكل إيجابي إلى حد ما. وهو ما من شأنه أن يثير مخاوف خطيرة بالنسبة إلى البلدان التي تقبل لاجئين من الحرب الأهلية. الواقع أن الوضع الأمني الهشّ في لبنان يعتمد إلى حد كبير على أهواء الدول الإقليمية الراعية لطوائفه المتعادية. ونظراً إلى إنتشار الصراع الطائفي في المنطقة — وفي حالة أصبح بلد الأرز منفثاً أو متنَفّساً لبيئته الخارجية — فإن هؤلاء اللاجئين قد يصبحون كذلك حصان طروادة في لبنان.
لقد خسر العرب فرصة من أجل الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر، ولكن تطورات السنوات القليلة الماضية تشير إلى أنهم يواجهون المشكلة القديمة عينها. لبنان ليس مُعفى في هذا المجال. عندما ضُغِط عليه لإصدار بيان ضد “داعش”، قال الشيخ محمد الجوزو، وهو رجل دين سني لبناني بارز، إن “حزب الله هو مشكلة أكثر صعوبة من “داعش”” (النهار، 18/6/2014).
وبالنظر إلى اللهجة الطائفية المتزايدة للتدخل العسكري ل”حزب الله”، ليس فقط في سوريا بل أيضاً في العراق واليمن، يمكن للمرء أن يتوقع من اللبنانيين السنّة تأييد عدوّه اللدود “داعش”، وإن كان بشكل مؤقت. وعلى الرغم من أنه من الصعب معرفة مدى هذا الدعم والتأييد، فمن المعقول أن نصدّق أن نسبته تتجاوز مستويات الخانة الواحدة.

• الدكتور هلال خشّان هو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت.
• كُتِب الموضوع بالإنكليزية وعرَّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى