“أشبال الخلافة”: قنابل “إسلامية” بشرية موقوتة لتفجير مستقبلي

فيما يحاول تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”) توسيع رقعة سيطرته في سوريا والعراق، يعمل من جهة أخرى على تعميق وجوده وديمومته من طريق إستمالة الأطفال والفتيان وتجنيدهم في صفوفه، الأمر الذي يخلق قلقاً لدى الكثيرين في العالم من تحوّل هؤلاء الصغار إلى قنابل مستقبلية موقوتة.

أبو بكر البغدادي: الخليفة صار له أشبال
أبو بكر البغدادي: الخليفة صار له أشبال

شارك في هذا التحقيق محمد الحلبي من دمشق وأحمد العمري من بغداد

في أوائل أيار (مايو) الفائت، أصدر تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) فيديو يُظهر طفلاً وهو يجهّز نفسه لأداء المهمة الموكلة إليه.
كانت بداية هذا الفيديو تقليدية إذ يعرض إستجواباً للمتهم بالعمالة، وهو العراقي ظافر الزاوي من مدينة القائم غرب العراق، الذي “يعترف بالعمالة لصالح الجيش العراقي، وتقديم معلومات له عن المواقع العسكرية التي يتواجد فيها مقاتلو تنظيم “داعش””.
ويُقدّم التنظيم التكفيري هنا شكلاً جديداً من الإعترافات مستخدماً فيها تقنيات شبيهة بتقنيات فيلم “ماتريكس” (المصفوفة الرمزية) الأميركي، حيث لم يظهر صوت السائل، وتم الاكتفاء فقط بسؤال مكتوب على الشاشة، وجواب الزاوي.
وفي مشهد مكرّر في فيديوات التنظيم، يُعلن الجاسوس المُفترض ندمه ويطلب من المتعاونين التخلي عن الحكومة الفاشلة والعودة إلى دينهم والإنضمام إلى “الدولة الإسلامية”، ليُحكَم بعدها على الرجل “بالقتل ردّة”.
وبطريقة مماثلة لأفلام “الحركة والجواسيس الأميركية”، ينتقل الفيديو بطريقة بانورامية إلى إظهار مسدس ومخزن رصاص، ويقوم أحد الأطفال -يرتدي بزة سوداء عليها شعار “دولة الخلافة”- بتعبئة مخزن رصاص ثم يضعه في المسدس.
الجديد في هذا أن في الإصدارات السابقة كان الطفل يظهر واقفاً خلف “الضحية” ولا يُصوَّر وهو يُجهِّز نفسه ويحضِّر “سلاح الإعدام” الخاص به.

“موعدنا دابق”

يتابع الفيديو عرضه بظهور سيارتين في شارع مظلم بينما يمتشق الطفل المسدس ويلقّمه تحضيراً للمرحلة الأخيرة من العملية، بعدها يخرج عناصر التنظيم من سيارة بطريقة “سينمائية” وهم يرتدون بزات “القوات الخاصة” ويصطحبون الزاوي -الذي إرتدى لباس الإعدام البرتقالي- لمصيره المحتوم.
وإستخدم التنظيم لأول مرة سيارتين من النوع الفاخر تقل عناصره و”الجاسوس” حيث لم يسبق أن ظهر عناصر التنظيم بهذه الصورة في إصداراته السابقة.
ولكي يضيف مُعدّ الفيديو عامل التشويق والإثارة حيث يمرّ “الطفل المنفِّذ” أمام عناصر ملثَّمين مصطفّين بشكل منظَّم (وكأنه يستعرض الحرس)، ثم يدفع بـ”الجاسوس” أرضاً ويزيح الغطاء عن عينيه فيما يحرص معدّ الفيديو على إظهار حالة “الرعب والخوف” على وجه “الجاسوس”.
وكعادة تنظيم “داعش” في إصدارات سابقة وقبل تنفيذ الإعدام، يرفع الطفل “سبابته” بوضع التحدّي، ويبعث رسالة إلى الغرب مفادها “يا أيها الأميركيون، يا أيها الأوروبيون، يا أيها الروس، يا أيها المرتدّون، هذه رسالة من شبل الخلافة… والله لن تنفعكم طائراتكم ولا وكلاؤكم ولا جواسيسكم، وموعدنا “دابق” بإذن الله”.
واللافت أنه في هذا الفيديو لم يطلق الطفل الرصاص على رأس الزاوي من الخلف، بل إستدار إليه وأطلق رصاصات عدة على عنقه ورأسه ليغرق الرجل في دمه، ويردد بعدها الطفل “الله أكبر والعزة لله”.

دور الصغار في إستراتيجية “داعش”

الواقع أنه منذ صعوده، أبرز تنظيم “الدولة الإسلامية” بشكل واضح أهمية الصغار في دعايته. في الأسابيع القليلة الماضية، أصدرت المجموعة التكفيرية ثلاثة أفلام فيديو قصيرة أخرى لأطفال وأولاد، تتراوح أعمارهم بين 10 و15 سنة، يقومون بعمليات تدريب وفيديو آخر يضم أولاداً يقومون بفظائع ومجازر دموية. ويصوّر واحد من هذه “الفيديوات” فتياناً صغاراً يشاركون في تمرين بالذخيرة الحية داخل “بيت القتل” لدى “داعش”؛ وهو حقل رماية داخلي يُستخدَم لتدريب المجنّدين بالذخيرة الحية حول كيفية التسلل الى مبنى سكني والسيطرة عليه. يتعلم الفتيان خلال هذه التدريبات على كيفية التعامل والدخول إلى العقار قبل التنقل من غرفة الى غرفة‘ إضافة إلى كيفية إخضاع والقبض على السكان لإستخدامهم كرهائن محتملة. ويتم تدريب هؤلاء الصغار لكي يكونوا قناصة كما يتعلّمون كيفية نصب كمين لسيارة متحرِّكة. ويُظهر شريط فيديو بُثَّ في 4 تموز (يوليو) أطفالاً يقتلون 25 جندياً سورياً، وفي شريط فيديو آخر مدته 22 دقيقة أُفرج عنه أخيراً عن مذبحة قاعدة سبايكر في تكريت، كان هناك أولاد وأطفال بين الجلّادين المنفّذين.
بالنسبة إلى “داعش”، لا يشكّل الصغار دعاية قيِّمة ومهمة فقط؛ فإنهم متشدّدون بشكل كامل ويمكنهم القتال والقتل. لذا فقد شكَّلهم تنظيم “الدولة الإسلامية” ضمن مجموعة مستقلة أطلق عليها إسم “أشبال الخلافة”. وبعد تحليل دقيق لعملية الدعاية والتسويق التي يتّبعها التنظيم ووسائل إعلامه الإجتماعية، ومقابلات مع الهاربين الأطفال أجراها صحافيون وعمال إغاثة، صار لدينا صورة واضحة عن نموذج التجنيد والتدريب الذي يتبعه التنظيم الجهادي المتشدد.
يشمل فتيان “داعش” خمس فئات: أولئك الذين وُلِدوا لمقاتلين أجانب أو مهاجرين؛ أولئك الذين وُلِدوا لمقاتلين محلّيين؛ أولئك الذين تم التخلّي عنهم ووَجَدوا طريقهم إلى دار أيتام يسيطر عليها التنظيم؛ أولئك الذين أُخِذوا قسراً من أهلهم؛ وأولئك الذين إنضموا طواعية إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”. ويميل الصغار في معسكرات التدريب إلى أن يكونوا من أولئك الذين أُخِذوا عنوة من الأُسَر أو الذين وُجِدوا في دور الأيتام. من ناحية أخرى، يميل الأولاد في المدارس التي يسيطر عليها “داعش” إلى أن يكونوا من أولئك الذين تطوّعت بهم أُسَرَهم. كما أن نسبة متزايدة من الأطفال تنضم إلى “داعش” نتيجة لعملية الإستمالة التي يتّبعها التنظيم التكفيري لغرس وزرع روح الإلتزام والصداقة الحميمة فيهم من خلالها. في حين أن العدد الفعلي للصغار المقاتلين في سوريا غير معروف، فإن مجموعة مراقبة سورية، تدعى “مركز توثيق الإنتهاكات”، وثّقت 194 حالة وفاة لأولاد ذكور “غير مدنيين” بين أيلول (سبتمبر) 2011 وحزيران (يونيو) 2014. وفي حزيران (يونيو) 2015، ذكرت الأمم المتحدة أن 271 ولداً وسبع فتيات تم تجنيدهم من قبل الجماعات التابعة ل”الجيش السوري الحر”، و”وحدات حماية الشعب الكردية”، و”داعش”، و”جبهة النصرة”. وفي 77 في المئة من هذه الحالات، كان الأولاد مسلحين أو يُستخدَمون في القتال. تقريباً كان خُمسُهم تحت سن ال15 عاماً.
إن هذا النمط يختلف عن تجنيد الأطفال في العديد من الأماكن الأخرى، لا سيما في الدول الأفريقية، حيث أن غالبية الأولاد المقاتلين هي من الأيتام. عموماً، لم يكن لديهم آباء على قيد الحياة وكانوا إما إختُطِفوا أو فَرّوا من القيِّمين على رعايتهم. وقد “عسّكروهم” أكثر من تنشئتهم إجتماعياً لتشكيل علاقات وثيقة معهم، وبالتالي الحلول مكان أُسَرِهم. في هذا الصدد، إن أنماط تجنيد “داعش” مماثلة لجبهة مورو الإسلامية للتحرير في الفليبين. هناك، يلعب الأهالي دورهم أيضاً حيث يقومون بتشجيع أبنائهم على الإنخراط في النزاع. ومن الأمثلة الحديثة لمقاتلي “داعش” الذين جلبوا أطفالهم إلى منطقة القتال يمكن العثور عليها في المملكة المتحدة، حيث أن الأخوات داود – ثلاث شقيقات في الثلاثينات من أعمارهن ولدن في بريطانيا – تركن أزواجهن للإنضمام إلى التنظيم التكفيري، حيث أخذن أطفالهن التسعة معهن إلى سوريا في هذه العملية. قبل ذلك، في شباط (فبراير) الماضي، إختفت أربع فتيات من “بيثنال غرين أكاديمي” في لندن. ومنذ ذلك الحين أكد والدا الفتيات المفقودات بأن بناتهم قد تزوجن من مقاتلين أجانب في “داعش”.
هناك مئات من الأطفال والأولاد الأجانب الذين وصلوا على نحو مماثل إلى سوريا من أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا. عندما يصلون الى بلاد الشام، فقد يُسجّلون في واحدة من العديد من المدارس الدينية، إثنتان منها مخصّصتان لتلبية إحتياجات الناطقين باللغة الإنكليزية. وتمثّل هذه المدارس جانباً واحداً من إستراتيجية “داعش” لتحويل الأطفال والأولاد من عابري سبيل إلى مقاتلين كفوئين ملتزمين بشكل كامل. الواقع إن هذه الإستراتيجية هي شكل منهجي ومؤسسي لإساءة التعاطي مع الأطفال التي تشمل ست مراحل مختلفة: التنشئة الإجتماعية، والتعليم، والإختيار، والإذعان والتدجين، والتخصّص، والتمركز.

التنشئة الإجتماعية

في البداية لا يُسحِر “داعش” الأطفال والفتيان أو يجذبهم من طريق التلقين، ولكن من خلال التنشئة الإجتماعية التدريجية. وهو يفعل ذلك في طرق عدة، ولكن الطريق الأكثر وضوحاً يبرز من خلال المناسبات العامة التي تهدف إلى رفع مستوى الوعي حول الفرص التي يمكن أن يقدّمها ويمنحها التنظيم المتشدّد. بعضٌ من هذه الإجتماعات، التي تكون في كثير من الأحيان على نطاق صغير، تجذب الأطفال من خلال تقديم لعب مجانية وحلوى لمجرد حضورهم. ويمكن للأطفال المحليين في هذه المناسبات أن يقدّموا المساعدة من خلال التلويح براية “داعش” السوداء. إن هذه الإغراءات تخدم بمثابة نوع من شاحنة “بوظة” أو “آيس كريم” شريرة حيث تجذب الأطفال المحلّيين للخروج لكي يتعلّموا المزيد حول ما هي الحياة مع ما يسمى “الدولة الإسلامية”.
في ظل “داعش”، يتم تشجيع الأطفال بشكل روتيني ليشهدوا عمليات الإعدام العلنية. في البداية، يُعرَض على الصغار فيديو مصور عن عمليات الإعدام، وفي نهاية المطاف يحضرون إعدامات حيّة. في أشرطة الفيديو الدعائية، يمكن رؤية الأطفال يتدافعون من خلال صفوف من الرجال البالغين للوصول إلى موقع رئيسي في الأمام لمشاهدة الإعدامات. ويتعلّم الصغار بسرعة لماذا كان العقاب البدني، وبفضل المشهد الروتيني المتكرر لمثل هذه الأحداث، يتم إستيعاب هذا العنف ويعتبرونه أمراً طبيعياً.
من ناحية أخرى، يتعلم أطفال المقاتلين الأجانب على وجه الخصوص أنه حتى المشاركة الهامشية تُكافَأ. في أشرطة فيديو “داعش” الدعائية، وُضِعوا بعناية أمام الكاميرا حيث تعلموا من خلال عملية التصوير كيفية التصرف. في بعض الحالات، تلقى الأطفال ثناء لأنهم شهروا سلاحهم أو لأنهم رفعوا الرؤوس المقطوعة لضحايا “الدولة الإسلامية”.
وفي هذا الصدد، يبدو “داعش” مثل العديد من الجماعات المتشدّدة والمتطرفة الأخرى. العديد من الميليشيات يجبر الأطفال على الانخراط في الأعمال البشعة من اليوم الأول من أجل منعهم من الإنشقاق والفرار. من خلال إجبار الصغار على المشاركة في الأعمال المروّعة، فإن الميليشيات تضمن أن أفراد أُسَرِهم لن يقبلوا عودتهم. وهي واحدة من الطرق التي تُغلق الميليشيات بواسطتها كافة الأبواب والخيارات للهروب. مع ذلك، فإن الأمر مختلف ضمن “داعش”، لأن الأطفال ينخرطون في الأعمال الوحشية مع تشجيع وموافقة أهلهم. إن إنتهاك الأعراف الإجتماعية لا يسبّب إستبعاد الطفل من العودة إلى المنزل، وإنما هو وسيلة من المشاركة كطرف من الداخل.

التعليم، والاختيار، والتدجين

بعد اللقاءات وحضور المناسبات الإجتماعية، فإن الخطوة التالية التي تكمن بالتلقين تحدث من خلال التجنيد في إطار برامج التعليم المجاني للنظام. بعدما آلت سوريا إلى حالة من الفوضى، تحوَّل “داعش” إلى سلطة الأمر الواقع حيث فرض سيطرته على العديد من المدارس والمساجد. وعلى الرغم من أن العديد من معلمي المدارس السورية الأصليين ظلوا في مواقعهم، فيجب عليهم الآن تدريس منهج موجه من “داعش” الذي يفصل بين الإناث والذكور من التلاميذ – منهجٌ يتضمن التدريب على الأسلحة والتكييف الإيديولوجي المتشدد. وعلى الرغم من أن الحضور إلى المدارس ليس إلزامياً، فإن الكثير من الأهل يرسلون أطفالهم عن طيب خاطر. وفي عدد قليل من الحالات التي رفض خلالها الأهل الإمتثال فقد تمّ تهديدهم.
في هذه المدارس، يتعلّم الأطفال بشكل منهجي إيديولوجية “داعش”، الأمر الذي يجعلهم أقرب إلى بعضهم البعض وكذلك إلى أعضاء “داعش” الذي يبحثون عن أطفال ذوي مواهب لكسب صفة” شبل “في أحد معسكرات التدريب المخصصة للمجموعة. إن البرامج التعليمية “الداعشية” تقف على النقيض من معاملة الجنود الأطفال في أفريقيا، الذين عادة لا يتلقّون أي نوع من التعليم. خلال حملاتها التنظيمية الخاصة، لم تفتح الميليشيات في ليبريا وأوغندا أو أدارت مدارس لتأهيل الجيل المقبل من المقاتلين. إذا كان أي شيء، كان يُنظَر إلى الأطفال بإعتبارهم مجرد حشوة مدافع، الأمر الذي جعل التعليم غير ذي صلة. لم تكن تلك الميليشيات مهتمة في خلق إتفاق إيديولوجي – بل كانت تحتاج إلى أفراد للقتال.
هنا، يتشارك “داعش” بقواسم مع جماعة “نمور التاميل” السريلانكية، التي تستخدم الدعاية في المدارس لجذب المجنّدين الصغار. وقد إتّبع الماويون في نيبال سياسات مماثلة عندما حاربوا الحكم الملكي في البلاد خلال الحرب الأهلية التي إستمرت عشر سنين والتي بدأت في العام 1996. ووفقاً ل”راجندا شاكيا” من منظمة “أس. أن. في. للتنمية” في هولندا، فإن الماويين إستخدموا التعليم لبناء الإحساس بالهوية لدى الأطفال الصغار من خلال منهج دراسي موحّد. كما فرضوا إلزامية التعليم على الفتيات، وقضوا على التمييز على أساس طائفي، ودفعوا بالمدرسين إلى الإمتثال لقواعدهم ونظمهم الخاصة، وحظّروا دراسة اللغة السنسكريتية. كان رأي الماويين الأساسي هو أن التعليم أمرٌ أساسي لخلق جيل جديد من الثوريين المستنيرين.
مثل سري لانكا والجماعات النيبالية، يولّد “داعش” ويخلق شعوراً بالفخر والهيبة والمنافسة بين الطلاب في “نادي الأشبال”. كما أنه ليس كل طفل يكون أوتوماتيكياً مؤهلاً للتدريب العسكري أيضاً. يتم إعداد الطلاب الأصغر سناً في البداية كجواسيس ويتم تشجيعهم على مراقبة أفراد الأسرة أو الجيران والإبلاغ عن الذين ينتقدون “داعش” أو ينتهكون التنفيذ الشديد للشريعة. هؤلاء المجنّدون الصغار يعرفون أنهم إذا قاموا بعمل جيد، فإنه يمكنهم بالتالي أن يلتحقوا بتدريب “الأشبال”.
إذا فعلوا ذلك، فإنهم يخضعون لعملية منهجية مماثلة تنطوي على التلقين والتدريب البدني. ويحاكي الأطفال في هذا المجال قدوتهم من الكبار: يرتدون زيّاً مشابهاً ويتعلّمون اللغة المتداولة. ويتم تدريس الأطفال حول “العدو” (غير المؤمنين والكفار والمرتدّون والجواسيس) ولماذا يجب إستئصاله.
عندما يتعلق الأمر بالتدريب العسكري، هناك بعض التناقضات الكبيرة بين أشبال “داعش” والتكتيكات التي كانت تُدرَّس للجنود الأطفال في أثناء النزاعات في ليبيريا وسيراليون وأوغندا. الميليشيات الأفريقية تعتبر الصغار أعضاء ذوي مهارات منخفضة عن مهارات أفرادها الكبار، وتستخدمهم فقط بسبب نشاطهم وتهورهم وسهولة توافرهم. ويقول ستيوارت ماسلن، منسق الائتلاف من أجل وقف إستخدام الجنود الأطفال، بأن الجنود الصغار في أفريقيا تلقوا قليلاً من التدريب، وكثيراً ما ذُبحوا؛ وأن الذين يرفضون من هؤلاء الأطفال إطاعة الأوامر أو محاولة الهرب يُقتلون ببساطة. على النقيض من ذلك، فقد أعطى “نمور التاميل” مجنّديهم الجدد بندقية خشبية لإعدادهم لإستخدام السلاح. ويشير ماسلن، وكذلك شارو لاتا هوغ من مركز “تشاتام هاوس”، إلى أن الأطفال يخدمون أولاً كرسل وجواسيس، ولكنهم يُستخدَمون كمقاتلين في سن العاشرة عندما يكونوا أقوياء بما فيه الكفاية لاطلاق النار من بندقية. كما أن الفتيان قد يتلقون أيضاً التدريب على القتال في وقت أبكر من الفتيات. بين المجموعات المسلحة الفلسطينية، تجنّد “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” الأطفال للأنشطة الثقافية والتعليمية، حيث يتم تقييم أدائهم للعضوية في الجبهة. علماً أنه لا يُسمح للعضوية التطوعية في الجبهة الشعبية إلّا في سن 18 عاماً.
مثل غيرهم من الأطفال في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم التكفيري، يشهد “أشبال الخلافة” المجندين بشكل روتيني عمليات صلب، ورجم، وقطع رؤوس. ولكن هؤلاء الأشبال يتقدمون ويتطورون وينتقلون من رؤية الإعدام إلى مرافقة السجناء إلى موتهم الحتمي. في حالة واحدة وزّع الأشبال السكاكين على البالغين قبل قطع مجموعة من الرؤوس، وأخيراً، على مدى الأشهر ال14 الماضية، قاموا في العديد من الحالات بتنفيذ عمليات الإعدام بأنفسهم. هذا هو الاختبار النهائي والأكثر تطرفاً للولاء داخل المنظمة.
روايات وسرديات الأشبال السابقين التي حصلت عليها المنظمات غير الحكومية المحلية ترسم صورة قاتمة للحياة اليومية في المعسكرات. يتم دفع الأطفال إلى أقصى حدودهم الذهنية والبدنية، ويُجبَرون على النوم على فراش تنتشر فيها البراغيث. ومع ذلك، فإن تجاربهم تعزز الشعور بالإلفة. الواقع أن هذه العلاقات الوثيقة تتحول في نهاية المطاف إلى فخر شديد لما يقومون به. إن الجنود الأطفال في الصراعات الأفريقية، من ناحية أخرى، لم يحصلوا على التطبيق التدريجي إلى الحياة العسكرية. تم فصلهم وعزلهم عن أسرهم منذ البداية – نُقلوا بعيداً من قراهم التقليدية أو أجبروا على قتل أفراد الأسرة من أجل تدمير خيارهم في العودة إلى ديارهم.

التخصّص والتمركّز

على الرغم من أن أشبال “داعش” يقومون بأدوار متعددة أو حتى متداخلة، فإن كثيرين منهم يتمتعون بمهام متخصصة. يتم تعيين بعضهم على نقطة تفتيش أو في أداء مهام الحراسة الشخصية، والتي قد تشمل أيضاً إرتداء حزام ناسف، حتى لو أنهم لن يكونوا بمثابة إنتحاريين. مع ذلك، بدأ التنظيم التكفيري أخيراً إستخدام إنتحاريين يبلغون من العمر 14 عاماً هذا الصيف. من ناحية أخرى، إن الأطفال الذين يبدون إستعداداً للتواصل والحصول على فهم أعمق للإيديولوجية يتم نشرهم كمُجّنِّدين، حيث يقومون بدور المتحدّث العام الذي يسمح لهم بتجنيد الأطفال الآخرين. إن تجنيد الصغار لا يحفز فقط البالغين للعمل، لكنه أيضاً يغري ويستميل المزيد من الأطفال للإنضمام إلى صفوفهم مع الوعد بمكانة إجتماعية أفضل، وهدف مهم، وإعجاب المسلحين والجمهور على حد سواء.
يطوف الأشبال الذين يتخرّجوا حديثاً علناً في الزي الكامل مع كثير من الأسلحة للإشارة إلى قوتهم وإنضباطهم. في أشرطة الفيديو الدعائية، طُلِب منهم أن يقفوا بثبات من دون حراك فيما هم يتعرَّضون للضرب المستمر من قادتهم الكبار. في الخلفية، يقف عشرات من الأطفال الأصغر سناً ينظرون بإستهجان ودهشة وإعجاب في الوقت عينه. هذه الدورة تتكرر مع كل موجة من الخريجين الذين يجذبون المزيد من المجنّدين الأطفال الجدد.
إن الأولوية الأولى للمنظمات الإرهابية هو البقاء، وبالتالي فإن ضمان الإستمرارية والصمود هما أمر رئيسي للمجموعة. الحقيقة أن “داعش” هو أكثر تعقيداً من المنظمات الإرهابية في الماضي، وكذلك جهوده لتأهيل الجيل المقبل. قد يكون التنظيم المتشدّد على بيّنة من مبادئ التجنيد التي وضعها العديد من الجماعات المسلحة في جميع أنحاء العالم، لكنه بالنسبة إلى الصغار فهو يقود برنامجاً خاصاً به للإستمرارية والبقاء من خلال الجمع بين التدريب البدني والعسكري المكثّف مع مستويات عميقة من التلقين النفسي نادراً ما وجدت حتى في تجنيد الإرهابيين الكبار. في الواقع، لقد صمم “داعش” عملية منهجية ليس لتخريج مجموعة من الحمقى، ولكن لتخريج نشطاء فتيان أكفاء يتبنون حقاً كل جوانب تعاليمه.
في أدبيات الجنود الأطفال في أفريقيا، لا يتم تجنيد الأطفال للمستقبل ولكن للوقت الحاضر؛ وقد قُتِل كثيرون منهم في المعارك وقلّة منهم تقدّمت وترقّت في الصفوف والتراتبية لتصبح من كبار قادة المجموعة. من جهته يأخذ “دأعش” وجهة نظر أطول. لذلك، إن الذي على ما يبدو قد نجح بالنسبة إلى العديد من برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج في أفريقيا (أدوار تحويلية بمساعدة من الأهل والمجتمع والسلطات التعليمية والدينية) قد لا يعمل في سوريا، إذ أن تنظيم “الدولة الإسلامية” قد سيطر على هذه المؤسسات وإستمالها وأمعن في تشويهها.
إذا أردنا أن يكون لدينا أي أمل في إعادة إدماج هؤلاء الأطفال الذين يتركون “داعش” ويبقون على قيد الحياة، شيء واحد مؤكد: إن الأمر سوف يتطلب مستوى من التنسيق والإبداع والخلق لم نشهده في أي برنامج لإجتثاث التطرف حتى الآن.
إن التسريح يتطلب نهجاً متعدد الجوانب الذي يعالج الصدمة النفسية التي يعاني منها الأطفال (الناتجة من مشاهدة عمليات الإعدام)، وكذلك الآثار المترتبة عن مشاركتهم في أعمال العنف. سوف يحتاج هؤلاء الأطفال إلى إعادة تعليم وتأهيل حتى يتمكّنوا من النسيان والتخلص من عملية التشّويه التي تعرّضوا لها وزُرِعت في عقولهم بالنسبة إلى العقيدة الإسلامية، فضلاً عن التدريب المهني. وهؤلاء الأطفال على الأرجح لديهم مشاكل في التنشئة الإجتماعية، كما أنهم قد يفتقرون إلى التعاطف ويعانون من مشاكل التواصل. في حين أن برامج لعلاج الصغار في المنظمات المسلحة موجودة (على سبيل المثال، ساباؤون في وادي سوات في باكستان)، فإن أسرة الطفل تلعب دوراً إيجابيا في إعادة الإدماج. مع “داعش”، كانت الأسرة هي التي شجعت وعرّضت الأطفال للعنف في المقام الأول، لذا سيكون على الصغار أن ينفصلوا عن أعضاء أُسَرهم – الأمر الذي يجعل التطبيع أكثر تحدياً. في حين أن هذه العملية سوف تكون معقّدة بالتأكيد، ولكن ليس لدينا أي خيار سوى أن نبدأ التخطيط لذلك منذ الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى