السُمنة المُفرِطة تُرهِق الإقتصاد العالمي

يَعتبر أهل الإقتصاد أن زيادة الوزن و البدانة والسُمنة المُفرطة باتت تمثّل مشكلة إقتصادية دولية كبرى حيث يسبّبها العديد من العوامل. إنها اليوم تتسابق مع النزاع المسلّح والتدخين من حيث توليد أكبر أثر بشري إقتصادي سلبي عالمي. فهي تفرض تكاليف كبيرة على نُظُم الرعاية الصحية، إذ أن نسبة 2 إلى 7 في المئة من جميع الإنفاق على الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم ترتبط بتدابير لمنع وعلاج هذه الحالة، مع ما يصل الى نسبة 20 في المئة من هذا الإنفاق تُعزى إلى السُمنة، من خلال الأمراض ذات الصلة مثل داء السكري من النوع 2 وأمراض القلب. هذه التكاليف للرعاية الصحية تضع عبئاً على مالية الحكومات. وعلاوة على ذلك، فهي تؤثّر في الإنتاج الإقتصادي الشامل وأصحاب العمل على حد سواء من خلال ضعف الإنتاجية.
إن الأثر الإقتصادي العالمي للبدانة آخذ في الإرتفاع. لا يزال إنتشار السُمنة يزداد في الإقتصادات المتقدّمة، والآن، عندما تصبح الأسواق الناشئة أكثر ثراء، فإنها أيضاً ستعاني من هذه المشكلة. وتشير الأدلة إلى أن الأثر الإقتصادي والإجتماعي للسُمنة هو عميق ودائم. وقد يرسّخ الفوارق الإجتماعية بين الأجيال؛ إن السُمنة لدى الآباء والأمهات تزيد من خطر السُمنة لدى أطفالهم سواء من خلال الآليات الفيزيولوجية أو السلوكية. وهناك ورطة إضافية هي أنه، حتى لو كانت هناك إمكانية لعكس الإرتفاع الحالي لإنتشار البدانة، فإن الآثار الصحية الضارة والتكاليف الإقتصادية التي يشهدها العالم اليوم يمكن أن تستمر لفترة طويلة في المستقبل.
ويفيد أهل الخبرة أنه إذا إستمر إنتشار السُمنة في مساره الحالي، يمكن أن يعاني ما يقرب من نصف سكان العالم البالغين من زيادة الوزن أو البدانة أو السُمنة المُفرطة بحلول العام 2030.

Image434646

بيروت – كريستل بدروسيان*

يعاني ما يقرب من ثلث سكان العالم اليوم من زيادة الوزن أو البدانة أو السُمنة المُفرِطة، أي ما يعادل أكثر من 2.1 ملياري نسمة. وهذا الرقم يساوي نحو ضعفين ونصف (ال840 مليون شخص) الذين، كما تشير التقديرات، يعانون من نقص التغذية. وتفيد المعلومات بأنه لا يوجد أي بلد إنخفض فيه إنتشار السُمنة في الفترة ما بين 2000 و2013. الواقع أنه خلال هذه الفترة، زاد إنتشار البدانة بمقدار 0.5 نقطة مئوية أو أكثر في السنة في 130 من 196 بلداً وفق وثائق وبيانات “منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية” عن إنتشار السُمنة. إن نمو إنتشار البدانة له قوة دافعة؛ فقد واصلت البلدان التي يسود فيها إنتشار السُمنة في العام 2000 معرفة أعلى معدلات الإنتشار منذ ذلك الحين. لا يبدو أن هناك إقتراباً من معدل مستقر لإنتشار السُمنة دولياً. تشير البيانات الأخيرة إلى بقاء معدل الإنتشار على حاله في بعض الأسواق المتقدّمة، مثل إيطاليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، في حين أن أوستراليا، وفرنسا، وسويسرا وغيرها من الإقتصادات المتقدمة تشهد نمواً مستمرّاً.
لا يبدو أن إنتشار السُمنة الإجمالي مرتبط بثروة البلاد. ومن اللافت أن قلةً فقط من البلدان إستطاعت الفلتان من هذا النمط. فبين دول مجموعة العشرين (G-20)، التي يتجاوز فيها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ال8000 دولار، هناك فقط اليابان وكوريا الجنوبية اللتان لديهما معدلات إنتشار السُمنة أقل من 16 في المئة. إن غالبية دول المجموعة لديها معدلات أكثر من 20 في المئة. وعند النظر إلى الأطفال على وجه التحديد، فإن إنتشار السُمنة بينهم يتراوح بين 5 و20 في المئة.
لدى الصين وأندونيسيا والهند حالياً أدنى معدلات لإنتشار السُمنة في الإقتصادات المتقدمة. لكن، فيما ساهم التصنيع والتحضّر في زيادة سريعة للدخل، فإن معدلات الإنتشار في هذه الإقتصادات الناشئة السريعة النمو آخذة في الإرتفاع بسرعة. في الهند والصين، يبلغ إنتشار السُمنة في المدن بين 3 و4 أضعاف المعدّل في المناطق الريفية، مما يعكس إرتفاع الدخل في المناطق الحضرية وبالتالي إرتفاع مستويات التغذية وإستهلاك الغذاء وفي كثير من الأحيان ممارسة عمل أقل نشاطاً. وقد إرتفع معدّل إنتشار البُدُن (جمع بدين) والذين يعانون من زيادة الوزن 1.2 في المئة سنوياً لدى الذكور الصينيين البالغين بين عامي 1985 و2004، و1 في المئة سنوياً لدى الإناث الصينيات البالغات في الفترة عينها.
الواقع أن هذا النمط نلاحظه حالياً في الأسواق الناشئة. لقد شهد العديد من هذه البلدان إرتفاعاً في معدل إنتشار زيادة الوزن والبدانة بلغ نقطة مئوية واحدة سنوياً بين عامي 2000 و2008. واليوم، تعاني دول عدة من هذه البلدان من معدلات إنتشار تبلغ 20٪ أو حتى 30٪، كما أن لديها الآن إتجاهات صعودية راسخة. وقد كشف تقرير صادر عن معهد التنمية الخارجية بأن معدلات السُمنة وزيادة الوزن في شمال أفريقيا، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط تقف على قدم المساواة مع أوروبا حيث تبلغ نسبة السُمنة 10 و30 في المئة وزيادة الوزن 30 و70 في المئة لدى البالغين. كما أن مناطق أخرى، بما في ذلك جنوب آسيا وشرق آسيا، تلحق بدورها بركب الدول المتقدمة في إنتشار السُمنة.
تشهد دول مجموعة العشرين (G-20) نمواً في العام على أساس سنوي بالنسبة إلى إنتشار السُمنة يبلغ 0،5 إلى 1،5 نقطة مئوية. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، أكثر من 80 في المئة من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و60 عاماً يمكن أن يعانوا من زيادة الوزن والبدانة والسُمنة المفرطة بحلول العام 2030، وفقاً لتقرير الحكومة البريطانية “فورسايت 2007”. وبتفصيل هذا التقرير حسب الجنس، نرى أنه قد قدّر أن أكثر من 60 في المئة من الرجال و50 في المئة من النساء سيعانون من السُمنة المُفرِطة. وقد توقّع التقرير أيضاً أنه بحلول العام 2050، يمكن أن يعاني ربع الأطفال في المملكة المتحدة من السُمنة المُفرطة. إن هذه التوقعات تعكس إلى حد كبير تحوّل الناس الذين يعانون من زيادة الوزن إلى فئة الذين يعانون من السُمنة المُفرطة، بدلاً من زيادة كبيرة مطلقة في عدد الأشخاص في أيّ من الفئتين.

السُمنة في العالم العربي

يفيد تقرير أعدته مجلة “لانسيت” الطبية في أيار (مايو) الفائت أن العالم العربي وعلى مدى 33 سنة من فترة الدراسة سجّل بعض دوله أكبر نسبة زيادة في العالم في إنتشار السُمنة. وتشمل هذه الدول كلا من البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية وعُمان والكويت والمغرب والأردن. وعلى المستوى الإقليمي قال التقرير إن الدول العربية (منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) مع دول أميركا الوسطى ودول جزر المحيط الهادي وبحر الكاريبي، قد وصلت إلى معدلات إستثنائية قصوى في إنتشار السُمنة بلغت أكثر من 44%.
وقد سُجّلت أعلى المعدلات في العالم العربي، حيث لوحظ أن أكثر من 58% من الرجال و65% من النساء من أعمار 20 سنة وما فوق، كانوا مصابين بالبدانة أو السُمنة المفرطة. وسُجَلت في أكثر من ثلثي الدول العربية معدلات بين البالغين من الرجال والنساء تزيد على 50%.
وقال البروفسور الأميركي اللبناني الأصل، علي مقداد، في معرض حديثه عن السُمنة والبدانة في العالم العربي، أن ثلاث دول هي الأعلى من حيث إنتشار السُمنة بين الرجال: قطر (44 في المئة)، والكويت (43 في المئة)، والبحرين (31 في المئة)، في حين تجاوزت السُمنة بين النساء 50 في المئة في ثلاث دول هي: الكويت (59 في المئة)، وليبيا (57 في المئة)، وقطر (55 في المئة).
وأضاف أنه رصد نسبة 76 في المئة من الرجال القطريين و84 في المئة من النساء الكويتيات بإعتبارهما أعلى معدلات لإنتشار البدانة والسُمنة في العالم العربي. وفي مصر يعاني أكثر من 71 في المئة من الرجال و79 في المئة من النساء من الوزن الزائد أو السُمنة، كما أن ثلاثة أرباع النساء السعوديات تقريباً يعانين إما من الوزن الزائد أو السُمنة، كما هو الحال لدى 69 في المئة من الرجال السعوديين. وفي سلطنة عُمان، كان إنتشار الوزن الزائد والسُمنة بنسبة 54 في المئة بين الرجال و73 في المئة بين النساء. وفي الأردن، كشفت إحصاءات رسمية أن معدلات السُمنة وزيادة الوزن في المملكة الهاشمية تُعتبر بين أعلى المعدلات في العالم حيث يعاني منها 82% من الذكور و80% من الإناث.
وفي المغرب دقت جمعيات طبية ناقوس الخطر بسبب الإرتفاع المتزايد لأعداد المصابين بأمراض السكري والضغط الدموي في البلاد. وجاء في إحصاءات كشفت عنها منظمات طبية أن عدد حالات الإصابة بداء السُمنة المفرطة في المملكة يزيد عن 4 ملايين تزيد أعمارهم عن 20 سنة، من بينهم 2.5 مليوني مغربي مصابون بالسُمنة المُفرطة المتقدّمة.
وقال الدكتور جعفر هيكل، وهو أستاذ جامعي في كلية الطب بالدار البيضاء ومتخصص في الطب الوقائي وناشط في مجال الصحة الوقائية، إن المغرب دخل مرحلة مقلقة نتيجة إزدياد حالات الإصابة بالسُمنة وهو ما يهدد النظام الصحي المغربي.
وأكد جعفر هيكل أن هناك مليون مغربي ممن تزيد أعمارهم عن 20 سنة مهددون أو يعانون من العجز الجنسي بسبب إصابتهم بداء السكري، الذي يُعتبر واحداً من الأمراض المزمنة الذي يتسبب فيه الإفراط في الوزن.
ويُعتبر الإنسان بديناً عندما يتراوح “مؤشر كتلة جسمه” (body mass index) بين 25 و30، فيما يكون سميناً أو مفرطاً بالسُمنة عندما يبلغ هذا المؤشر الرقم 30 أو يتجاوزه. علماً أن “مؤشّر كتلة الجسم” يُقاس بقسمة الوزن بالكيلوغرام على مربع الطول بالمتر.

الأثر الإقتصادي للسُمنة

يساوي الأثر الإقتصادي العالمي للسُمنة حوالي 2.0 تريليوني دولار، أو 2.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقاً لتحليل مؤسسة “ماكينزي” الإستشارية الدولية، وهو ما يعكس حقيقة أن السُمنة تضع عبئاً على الإقتصادات المتقدّمة والنامية على حد سواء. وهذا الرقم يعادل الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا أو روسيا. إن السُمنة اليوم لها التأثير عينه في الإقتصاد العالمي كما الصراع المسلح، وأقل قليلاً من التدخين. هذه القضايا الثلاث هي الآن أكثر من أي شيء آخر تشكّل أكبر أثر إقتصادي سلبي عالمي مدفوع بالسلوك البشري.
وقد قامت مؤسسة “ماكينزي” بتقييم التأثير الحالي في المجتمع ل14 مشكلة رئيسية ناتجة من البشر — وهي تلك المشاكل الناتجة من قرارات الإنسان، أو ضخّمها السلوك البشري أو الإجتماعي، أو التي تعتمد على بيئات إجتماعية وقانونية، أو بنية تحتية أنشأها الإنسان. وبالتالي يستبعد هذا التحليل الأمراض مثل الملاريا، لكنه يشمل تأثير الأمراض مثل أمراض القلب وداء السكري من النوع 2 اللذين قد يقودان إنتشار نمط الحياة أو قرارات بشرية أخرى. ويشمل التقييم لتقدير الخسائر الإقتصادية العالمية الناجمة عن السُمنة تكلفة فقدان الإنتاجية الإقتصادية من خلال فقدان سنوات الحياة الإنتاجية، والتكاليف المباشرة لنُظُم الرعاية الصحية، والإستثمارات المطلوبة للتخفيف من تأثير السُمنة. ويُستنتَج من المصادر الثلاثة للتكاليف التي قامت مؤسسة “ماكينزي” بتقييمها، بأن الإنتاجية المفقودة هي الأكثر أهمية في هذا التقييم،، وهي تمثّل ما يقرب من 70 في المئة من التكلفة الإجمالية العالمية للبدانة المُفرِطة. وقد يقول بعض النقاد أنه لا ينبغي إدراج فقدان الإنتاجية، لأنه لم يولّد تكلفة مباشرة. ومع ذلك، فإن كاتب التقييم يعتقد أنه، وإن لم تكن تكلفة فقدان الإنتاجية مباشرة بالنسبة إلى المجتمع، فينبغي إدراجها لأنها تحتوي على أثر إقتصادي سلبي. بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن تقديرات “ماكينزي” تعتمد على التكلفة الحالية من هذه الأعباء. وهذا يعني أعباء مثل تغيّر المناخ والسُمنة، التي تؤدي إلى تكلفة أعلى في المستقبل، والتي كانت ستكون في مرتبة أقل مما لو كانت “ماكينزي” أجرت هذه الدراسة على أساس صافي القيمة الحالية.
في معظم الإقتصادات المتقدّمة، تُشكل السُمنة أحد أكبر ثلاثة أعباء إقتصادية ناتجة من الإنسان. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تمثّل السُمنة ثاني أكبر تأثير سلبي إقتصادي بعد التدخين، حيث ولّدت خسائر إقتصادية بأكثر من 70 مليار دولار سنوياً في العام 2012، أو 3.0 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
في الولايات المتحدة، مثّلت النزاعات المسلحة (وخصوصاً الإنفاق على الجيش) أعلى أثر إجتماعي وإقتصادي، وحلّت السُمنة في المرتبة الثانية؛ لقد ولّدت السُمنة تأثيراً سلبياً إقتصادياً في الولايات المتحدة بلغ 663 مليار دولار سنوياً في العام 2012، أو 4.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. في كلا البلدين، (أميركا وبريطانيا)، يتزايد الإنتشار والتكلفة المُرتبطة بالسُمنة، وإن كان أقل بشكل حاد مما كانت عليه في العقود الأخيرة، وبالمقارنة مع العديد من الأسواق الناشئة.
وتختلف حصيلة االتأثير الإقتصادي للسُمنة على نطاق واسع في الأسواق الناشئة. في المكسيك، تشكل السُمنة أكبر أثر سلبي إجتماعي بنسبة 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. نلاحظ أعباء مماثلة في المغرب عند 2.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في جنوب أفريقيا عند 3.0 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفي البرازيل عند 2.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن في أسواق ناشئة أخرى فإن السُمنة — إعتباراً من الآن — تشكل عبئاً إقتصادياً أقل أهمية بكثير. في نيجيريا، على سبيل المثال، يمثل تأثير السمنة في الإقتصاد 0.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وقد صُنفت على أنها تشكل المرتبة 13 كعبء إقتصادي. في إندونيسيا، يبلغ تأثيرها 1.0 في المئة، لتحتل المرتبة الثامنة. وفي الصين، يبلغ تأثير السُمنة نسبة 1.1 في المئة، لتحتل المرتبة التاسعة.
من جهة أخرى، أفادت دراسات أعلنت عنها وزارة الصحة والمركز الوطني للسكري في المملكة الأردنية الهاشمية أن نفقات علاج الحد من السُمنة والأمراض المرافقة لها تصل إلى 650 مليون دينار (915 مليون دولار) سنوياً.

السُمنة تعيق الإنتاجية الإقتصادية

قامت “ماكينزي” بتقييم القدرة الإنتاجية المفقودة بسبب السُمنة بإستخدامها القياس المعياري للعجز المصحَّح لسنوات العمر، أو سنوات العمر، الذي يقيس عدد السنوات التي فقدت أو كانت غير مُنتِجة إقتصادياً بسبب علة أو مرض. ومن بين سنوات العمر المفقودة بسبب السُمنة في جميع أنحاء العالم، هناك حوالي 71 في المئة سبّبها معدل وفيات سابقة لأوانها و29 في المئة سبّبها العجز الذي يمنع الأفراد من المشاركة في المساهمة الإقتصادية الكاملة.
إن عدد سنوات العمر التي فُقدت بسبب السُمنة اليوم هو ثلاثة أضعاف إرتفاعاً في الإقتصادات المتقدمة كما هو الحال في الأسواق الناشئة. ومع ذلك، فإن الفجوة تضيق. إن إرتفاع عدد سنوات العمر التي فُقدِت بسبب السُمنة لكل 100،000 شخص تباطأ في الإقتصادات المتقدمة بين عامي 1990 و2010، ولكنه زاد إرتفاعاً بنسبة 90 في المئة في الإقتصادات الناشئة.
وقد قفز فقدان الإنتاجية بسبب إرتفاع معدل إنتشار السُمنة بين 1990 و2010 في بعض الأسواق الناشئة. في إندونيسيا، على سبيل المثال، فقد إرتفع عدد سنوات العمر المفقودة لكل 100،000 شخص بسبب السُمنة من 184 في 1990 إلى 885 في العام 2010، بزيادة نحو 400 في المئة. في جنوب أفريقيا، بلغ عدد سنوات العمر المفقودة من جراء السُمنة 1577 في العام 1990 و2659 في العام 2010، أي بزيادة قدرها 69 في المئة.
الواقع أن نسبة 29 في المئة من عبء “الإعاقة” تؤثر في أرباب العمل من خلال فقدان إنتاجية الموظفين وتكاليف الرعاية الصحية. يمكن للموظفين، لاسيما أولئك الذين يعانون من إرتفاع “مؤشر كتلة الجسم” (body mass index)، أن يكونوا أقل إنتاجية في مكان العمل نظراً إلى مجموعة من المشاكل الصحية التي يمكن أن تسبّبها لهم البدانة، بما في ذلك، على سبيل المثال، إلتهاب المفاصل، والتعب، وضيق التنفس، وعدم القدرة على التركيز، والإكتئاب. وهناك أيضاً علاقة بين السُمنة والتغيّب عن العمل لأسباب صحية، بما في ذلك االفحوص الطبية المتكرّرة.
في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، يقدّر الخبراء أن التأثير الكلي في أرباب العمل يبلغ 7 مليارات دولار. من هذا المبلغ ، هناك 5 مليارات دولار، أو أكثر من الثلثين، يأتي من إنخفاض الإنتاجية في مكان العمل بدلاً من الغياب التام. وفي بريطانيا، لا يشكل إرتفاع أقساط التأمين الصحي قضية رئيسية بالنسبة إلى أرباب العمل بسبب الدور المركزي للصحة العامة من خلال “الخدمات الصحية الوطنية” (NHS). على النقيض من ذلك، في الولايات المتحدة، يساهم إرتفاع أقساط التأمين بمبلغ 7.7 مليارات دولار من أصل 18.9 مليار دولار إلى 21.9 مليار دولار، وهو التقدير العام لتكلفة السُمنة التي يتكبّدها أرباب العمل.

كلفة السُمنة عالمياً

وقد وجدت دراسات سابقة لمؤسسة “ماكينزي” حول الإنفاق على الرعاية الصحية في مجموعة بلدان “إتفاقية منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية” بأنه، من دون إجراء إصلاحات، فإن الإنفاق على الرعاية الصحية يمكن أن ينمو بنسبة 50 إلى 100 في المئة بين عامي 2007 و2040. وفي المملكة المتحدة وحدها، وجدت البحوث أن الإنفاق على الرعاية الصحية يمكن أن يشكّل 11 إلى 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2040. ومن ناحية أخرى، تقدّر منظمة الصحة العالمية أن إرتفاع “مؤشر كتلة الجسم” (body mass index) يدفع الإنفاق على الرعاية الصحية العالمي إرتفاعاً بين 2 و7%. ونلاحظ هذه العلاقة بوضوح في المملكة المتحدة.
وخلصت البحوث إلى نتيجة أن هناك أربعة محركات رئيسية لزيادة الإنفاق: شيخوخة السكان، وقوع إنفجار ما يسمى أمراض نمط الحياة، وإرتفاع توقّعات الشعب، وعدم وجود وعي قيّم بين مستهلكي الرعاية الصحية. لا يمكن معالجة شيخوخة السكان أو إرتفاع توقعات الشعب بالنسبة إلى تقديم الرعاية الصحية. ومع ذلك، فإنه يمكن معالجة نقص الوعي حول القيمة بين المواطنين وعدم الكفاءة في نُظُم الرعاية الصحية، فضلاً عن عبء أمراض نمط الحياة التي تشكّل السُمنة محرّكها الرئيسي، كمساهمتها في مرض القلب والأوعية الدموية والسكري من النوع 2، وبعض أنواع السرطان مثل الكلى والأمعاء، وسرطان الثدي. إن تخفيف أو عكس أزمة البدانة هو عنصر حاسم في أي إستراتيجية لتحقيق إستدامة توفير الرعاية الصحية وإدارة الموازنات العامة.
اليوم، يعاني واحد من كل 12 شخصاً من السكان البالغين في العالم من مرض السكري نوع 2، والذي ينتج جزئياً من السُمنة. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدداً كبيراً من الناس يعاني من ” إختلال السكر في الدم”، وهو حالة ما قبل السكري التي عادة ما تؤدي إلى هذا المرض ما لم يتم إجراء تغييرات مهمة في نمط الحياة.
إن داء السكري من النوع 2 يمكن الوقاية منه وعكسه بتغيير نمط الحياة. وقد وجدت دراسة أميركية أن خسارة 7 في المئة من الوزن رافقها نشاط بدني معتدل أدت إلى إنخفاض عدد حالات السكري الجديدة بنسبة 58 في المئة بين السكان المعرّضين للخطر. في الولايات المتحدة، تقدّر التكلفة المباشرة لنظام الرعاية الصحية على السُمنة بين 147 مليار دولار و 190 مليار دولار سنوياً — أو حوالي 7 في المئة من إجمالي الإنفاق على الرعاية الصحية سنوياً. إن نصيب الفرد من الإنفاق الطبي بالنسبة إلى الأفراد الذين يعانون من السُمنة المُفرطة هو أعلى ب24 في المئة من أولئك الذين هم ليسوا من البُدُن. ويشير بعض التقديرات إلى أن التكلفة المستقبلية على الرعاية الصحية للسُمنة المُفرطة في الولايات المتحدة ستصل إلى 344 مليار دولار بحلول العام 2018، أو ما يقرب من 20 في المئة من إجمالي الإنفاق على الرعاية الصحية في تلك السنة. لوضع هذا الرقم في السياق، فإن هذه التكلفة ستكون أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لجنوب أفريقيا اليوم.
في المملكة المتحدة، تنفق الحكومة حالياً حوالي 6 مليارات جنيه إسترليني (9.6 مليارات دولار) سنوياً على التكاليف الطبية المرتبطة مباشرة بزيادة الوزن أو السمنة المُفرطة. أي ما يعادل 5 في المئة من مجمل موازنة “الخدمات الصحية الوطنية” (NHS). كما أنها تنفق 10 مليارات جنيه إسترليني على مرض السكري. إن تكلفة السُمنة والسكري بالنسبة إلى نظام الرعاية الصحية تعادل الجمع بين موازنة “الحماية الأمنية” للمملكة المتحدة للحصول على خدمات رجال الشرطة والإطفاء، والمحاكم، والسجون؛ و40 في المئة من إجمالي الإنفاق على التعليم؛ ونحو 35 في المئة من موازنة وزارة الدفاع في البلاد.
وقد إرتفعت التكاليف في بريطانيا إلى ست مليارات جنيه منذ العام 2007، عندما كانت 4 مليارات إلى 5 مليارات جنيه إسترليني. وحسب التوقعات الحالية لإرتفاع معدل إنتشار حالات السُمنة وزيادة الوزن، يمكن أن تزيد تكلفة “الخدمات الصحية الوطنية” (NHS) من 6 مليارات إلى 8 مليارات جنيه في العام 2015، وإلى 10 مليارات و12 مليار جنيه في العام 2030.

الإستثمار للحد من البدانة

ليست هناك سوى حصة صغيرة من التكلفة الإجمالية للسُمنة تأتي من الإستثمار للتخفيف من إنتشارها أو منعها، بالمقارنة مع الأعباء المتصلة بالصحة — وغير المرتبطة بالصحة.
يقدّر الخبراء أن الإستثمار العالمي لمنع السُمنة يبلغ حوالي 5 مليارات دولار، أو 0.25 في المئة فقط من الأثر الاقتصادي الكلي من السُمنة. وبالمقارنة، فإن الإستثمار في الوقاية من حوادث المرور يشكّل نحو 1.2 في المئة من التكلفة الإجمالية لهذه الحوادث. بدلاً من ذلك، يتم ترجيح وتوجيه الإنفاق على السُمنة نحو العلاج. على سبيل المثال، يبلغ أكبر إنفاق للوقاية في المملكة المتحدة 11 مليون جنيه إسترليني سنوياً من خلال حملة “التغيير من أجل الحياة” (Change4Life). وهذا ما يعادل 0.18 في المئة فقط مما تنفقه “الخدمات الصحية الوطنية” (NHS) على السُمنة – والحالات المتعلقة بزيادة الوزن. ويعود جزء من السبب في ذلك إلى أن فعالية النهج الوقائي من الصعب تقييمها.

السُمنة والحرمان الإجتماعي والإقتصادي

يفيد الخبراء أن لدى الإقتصادات المتقدمة علاقة عكسية واضحة بين مستويات الدخل وإنتشار السُمنة، ولا سيما في حالة النساء والأطفال.
ببساطة، يقولون، تميل الفئات ذات الدخل المنخفض إلى أن تكون أعلى نسبة لإنتشار السُمنة. ويبدو من المرجح أن السببية تعمل في كلا الإتجاهين. وعبر مجموعة من الأسواق المتقدمة، تبدو هذه العلاقة العكسية أكثر حدة بالنسبة إلى المرأة.
وقد وجدت دراسة أجرتها “المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها” أن نسبة إنتشار السُمنة تتشابه عموماً في جميع مستويات الدخل للرجال في الولايات المتحدة (حوالي 30٪)، في حين كانت النسبة لدى النساء 42 في المئة في مستويات الدخل المنخفض مقابل 29 في المئة في مستويات الدخل المرتفع. في أوستراليا تتعادل العلاقة بين الجنسين، مع إنتشار السُمنة عشر نقاط مئوية أعلى لدى البالغين في الخُمس الأكثر حرماناً مقابل الأقل حرماناً. في العديد من البلدان الأخرى، فقد لوحظ أن نسبة إنتشار السُمنة بين النساء تتراوح بين 1.6 (الولايات المتحدة) إلى 18.4 (كوريا الجنوبية) أكثر ضعفاً في الطرف الأدنى من طيف التعليم كما هو الحال بالنسبة إلى أولئك اللواتي هنّ في الطرف الأعلى منه. هذا المؤشر النسبي للتفاوت هو أقل في المتوسط بالنسبة إلى الرجال.
ويظهر النمط عينه في المملكة المتحدة. إن العلاقة العكسية تشمل إتخاذ تدابير مختلفة بالنسبة إلى الوضعين الإجتماعي والاقتصادي، بما في ذلك دخل الأسرة، والوضع المهني للأهل، والتحصيل العلمي، ودرجة حرمان المنطقة. إن إنتشار السُمنة بين النساء ذوات المهن التي لا تتطلب مهارات يشكل (35.2 في المئة) أي ما يقرب من الضعف لدى النساء المهنيات (18.2 في المئة). في حالة الأولاد البريطانيين، فإن إنتشار السُمنة هو ما يقرب من 50 في المئة لدى الأولاد الذين ينتمون إلى أدنى خُمس دخل الأسرة أكثر من أولئك الذين ينتمون إلى أعلى خُمس دخل الأسرة. بالنسبة إلى الفتيات، فإن إنتشار البدانة هو أكثر من 50 في المئة إرتفاعاً. إن الأولاد الذين هم في العشر السفلي من أكثر المناطق حرماناً هم بمعدل الضعف أكثر إحتمالاً للسُمنة من أولئك الأولاد الذين هم في العشر من المناطق الأقل حرماناً. إلا أن المسح الصحي البريطاني لإنكلترا لم يجد علاقة بين دخل الأسرة والسُمنة بالنسبة إلى الرجال. ومع ذلك، فإن المسح لم يجد أنّ الرجال الذين لديهم مستوى أعلى من التحصيل العلمي يتمتعون بإنتشار أقل للسُمنة.
وبالنظر إلى أن البدانة تعرف معدّلاً أعلى بين الأسر المحرومة، فإن ذلك يفرض أيضاً عبئاً غير متناسب على هذه الأسر المحرومة أصلاً جرّاء إرتفاع تكاليف الرعاية الصحية وخفض الرعاية الإجتماعية. هذا الترسيخ للتفاوت يعمل سواء داخل البلدان أو على المستوى الدولي. وفي الإقتصادات الناشئة حيث توفير الصحة العامة ما زال في بداياته، فإن تكاليف الرعاية الصحية هذه تقع مباشرة على الأسر. بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض الأدلة على أن عوامل جينية قد تزيد بشكل غير متناسب عبء السُمنة في الأسواق الناشئة.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن البدانة يمكن أن تنتقل من جيل إلى جيل. هناك أدلة على أن خطر السُمنة يرتبط ب”مؤشر كتلة جسم” (body mass index) الوالدين سواء من خلال الآليات الفيزيولوجية والسلوكية. ووجدت الدراسات بأن أُمّاً تعاني من إرتفاع “مؤشر كتلة الجسم” هو مؤشر كبير إلى سُمنة أطفالها عندما يصلون إلى مرحلة البلوغ لأن الأجنّة تطور عملية الأيض ومقاومة الأنسولين. ومع ذلك، فإن عوامل إجتماعية وثقافية أخرى والإستعداد الوراثي تقود بداية السُمنة أيضاً. على سبيل المثال، إن عادات الأكل التي تُربك أنماط الطعام لدى الكبار قد مرّرها لهم الآباء في وقت مبكر من الحياة.
لذا، ليس من المبالغة القول أن السُمنة والحالات الطبية المرتبطة بها قد وصلت في جميع أنحاء العالم إلى حد الأزمة. وإذا تُرِكَت لحالها من دون حلول، فإن إرتفاع معدل إنتشارها من المرجّح جداً أن يكون له تأثير إقتصادي سلبي حتى أكثر أهمية وخطورة مما هو عليه اليوم – حيث ستضع ضغطاً كبيراً على أرباب العمل وإنتاجية شركاتهم وعلى نظم الرعاية الصحية وعلى الخزانة العامة. والسؤال الذي يبحث عن جواب هو: ما هي أفضل السُبُل لمكافحتها؟

• كريستل بدروسيان خبيرة تغذية لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى