الدولة السورية لم تعد موجودة

صدر أخيراً في هامبورغ عن دار نشر “إيديشن كورير شتيفتونغ” كتاب بالألمانية عن النزاع في بلاد الشام تحت عنوان “السيطرة على سوريا” (Herrschaft Uber Syrien) للصحافي دانيال غيرلاخ، رئيس تحرير مجلة “زينيت” الألمانية، الذي إستطاع أن يقدم لقارىء لغته 392 صفحة مفعمة بالمعلومات والتحاليل الضرورية لمعرفة ما يجري في سوريا.

هامبورغ – نبيل شبيب

ما خطّه قلم دانيال غيرلاخ في كتابه “السيطرة على سوريا” متميز بموازين ما يحتاج إليه القارئ الألماني من معلومات، لا سيما عندما تكون الصياغة ميسّرة لعموم القراء، ولا تدخل في تفاصيل ما قد تتطلبه دراسة قائمة بذاتها، إنما ليس في ما يطرحه الكاتب ما يتطلب العودة إلى مراجع، فكثير مما يكتبه وما تنشره مجلة “زينيت” التي يرأس تحريرها مرجع لسواه، وقد تضمّن نص الكتاب الإشارة إلى المصادر، علاوة على هامش توثيقي لبعض الإستشهادات وقائمة تضم ٤٢ مرجعاً ومصدراً مختاراً، مما يساعد الراغبين من القراء على التعمق في ما يتحدث الكتاب عنه.
يركز الكتاب على طرح جوانب الوضع في سوريا من دون اللجوء إلى أسلوب التأريخ، بل عبر تسليط الضوء على ما يكمن وراء عناوين إنتشر الحديث عنها في مواكبة مسار الثورة، بهدف تمكين القارئ من إستيعاب أفضل لها، ويكشف عن نهجه في عبارة تتصدر المقدّمة وتقول: “جميع المجتمعات الحرة متشابهة، أما المجتمعات غير الحرة فلكل منها صيغة خاصة بها”، ومن خلال ذلك يؤكد على أهمية التعرف على الخلفيات والخصائص المميزة للأوضاع في سوريا، ليمكن فهم ثورتها.
ولا تعني تلك الخصوصية “تبريراً” لطرف أو ممارساته، فهي في محتوى الكتاب (١٤ فصلاً عدا المقدمة) أقرب إلى التعريف بعدد من “الخصوصيات”، بمعنى مواصفات العناصر التي ساهمت في صناعة البنية الهيكلية للسلطة الأسدية أو برزت للعيان في أثناء الثورة، وهذا ما يجسّد الهدف من الكتاب وينعكس في الفصلين الأول والأخير، وكلاهما يتحدث عن ماهية النظام الأسدي، بينما تضمنت الفصول الأخرى بينهما الشرح والتفصيل.. دون ترتيب زمني أو موضوعي، ولكن محتويات الفصول متكاملة مع بعضها بحيث تطرح معاً أهم دعامات السيطرة عبر النظام، وأسرار بقائه لسنوات عدة رغم نهايته واقعياً، ومعرفة ذلك -تبعاً لنهج الكاتب- ضرورية لإستيعاب الثورة من حيث أسبابها ومجراها.
عندما يعطي غيرلاخ مقدمة كتابه عنوان “سوريا في ضوء الفجر” يكشف بصورة غير مباشرة عن تقويمه للثورة أنها بداية بزوغ الفجر بعد ظلمة العهد الأسدي، ويرى عبر التفاصيل التي أوردها عن الأسابيع الأولى للثورة في درعا وتعامل المسؤولين معها، أنهم لم يكونوا يعلمون ما تعنيه تلك الأحداث موضوعياً، إنما أدركوا بغريزتهم أنها تنذر بالخطر على وجود النظام فتصرّفوا بما أدى واقعياً إلى “دمار الدولة… وإستمرار وجود النظام”.
ويستفيض الكاتب بالحديث في الفصل التالي عن تنظيم “الدولة الإسلامية” وقتالها لكتائب الثوار من دون النظام لفترة طويلة، علاوة على مقارنة دقيقة للإستراتيجيات والممارسات، ما بين التنظيم وممارساته” والنظام الأسدي، ليؤكد أنها تعكس صورته في المرآة، ولا يأتي المحتوى بجديد للقارئ العربي ولكن ذكره بقلم ألماني رصين ومقنع، هو بالذات ما يحتاج القارئ الألماني إليه.
يسري شبيه ذلك على الفصول الأخرى التي يمكن إعتبارها شاهد إثبات على ما تردده المصادر الثورية السورية ولا يتبناه الجزء الأكبر من قطاع الإعلام والسياسة في الغرب عموماً، ويبرز من بين هذه الفصول مثلاً ما يتحدث عن “المبدأ الإيراني” بعد إستعراض الكاتب لما انتشر من أدلة على المشاركة الإيرانية المباشرة في القتال لا سيما على جبهة حلب، ثم يتساءل عما يجمع الحليفين الدائمين وأحدهما يمثل “جمهورية إسلامية” والآخر “نظاماً علمانياً”، مع ملاحظة ما بدأت تردده الأوساط الثورية عن أن العلاقة هي إحتلال وليست تحالفاً، إنما ينتقد الكاتب المبالغة في تصوير الدور الإيراني، ولا يعتبر ذلك مساعداً على الوصول إلى مخرج من الوضع الراهن، بل يؤكد على أن فهم الدور الإيراني لا يحتاج إلى “إستقصاء أو عمل إستخباراتي”، فالمعلن عن دور الحرس الثوري، وجيش القدس، هو الوصول بأقل كلفة ممكنة إلى إيجاد حلفاء عسكريين عقائديين على المدى البعيد،
ومن الفصول المتميّزة أيضاً الفصل الثاني عشر بعنوان: معضلة الدروز، إذ يبدأ الكاتب بنقد الطريقة الغربية في طرح ما يعتبره الغرب فتنة، أو نزاعات طائفية أو مذهبية، ويؤكد على أن “هذه المصطلحات إستمدها الباحثون المؤرخون الغربيون من دراسات التاريخ المذهبي والطائفي في أوروبا، وأصبحوا يطبّقونها على عالم تغلب عليه الصبغة الإسلامية”… ثم يستعرض الوجود التاريخي للدروز في سوريا، ودورهم في الثورة ضد الإستعمار الفرنسي، مقابل “حالة التنافس بين العلويين والدروز في القوات المسلحة” لاحقاً، كما يروي قصة سليم حاطوم وكيف تخلص حافظ الأسد وصلاح جديد منه، قبل أن ينفرد الأسد بالسلطة نهائياً، وينفي الكاتب عبر هذه الشواهد التاريخية ما يزعمه النظام لنفسه أنه يحمي الأقليات، ويؤكد في خاتمة الفصل أن حرص النظام على عدم التعرض للدروز في أثناء الثورة بالأذى يصدر عن خشيته من تأثير إنضمامهم إليها خلال المواجهات التي أنهكته في محافظة درعا المجاورة.
محتويات هذا الفصل والفصول الأخرى تؤكد سعة إطلاع الكاتب على كثير من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بسوريا وتاريخها وثورتها الحالية، ويضاعف إقتناع القارئ بنجاح الأسلوب المتبع في طرح الأحداث الذي يتضمن في كثير من الأحيان ذكر بعض ما شارك فيه الكاتب مباشرة من لقاءات وحوارات مع أصحاب العلاقة، وهذا ما يزيد قيمة النتيجة التي يخلص المؤلف إليها، ويعبر عنها في خاتمة الكتاب بقوله: “لم تعد توجد الدولة السورية التي تزعم هذه الحكومة أنها تتصرف بإسمها، ولا يعني هذا أنه لا يمكن إعادة الحياة إليها من جديد، ولكن من الواضح أن هذا النظام بالذات لن يستطيع ذلك، فهو لا يعطي قيمة لحياة الشعب ولا يفقه ما يعنيه مصطلح الدولة أصلاً”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى