تنافسية مدن الشرق الأوسط ترسم خريطة جديدة للإقتصاد الإقليمي

بقلم غسان حاصباني*
أبرز التقرير الذي صدر أخيراً عن المنتدى الإقتصادي العالمي حول “القدرة التنافسية للمدن” أن المدن هي شريان الحياة للإقتصاد العالمي أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث. يحدد التقرير قدرتها التنافسية عالمياً وإقليمياً كعامل محدّد لغنى أو فقر البلدان التي تنتمي إليها. إن خريطة الإقتصاد العالمي التي تتبادر إلى الذهن مكوَّنة من دول مترابطة من خلال تدفقات التجارة ورؤوس المال والناس والتكنولوجيا.
لكن قبل بروز فكرة الدولة القومية في العام 1648، كان المكوّن السياسي والإقتصادي والثقافي الأولي هو المدينة. واليوم، تعود هذه الخريطة على الأقل من الناحية الإقتصادية وتتمثّل بإتصال المدن مع بعضها عبر الحدود البرية والبحار والمحيطات من خلال تبادل السلع والخدمات، والإستثمار الأجنبي المباشر، والعمّال المهاجرين وتكنولوجيا الإتصالات العابرة للحدود.
هذه الظاهرة لا تستثني الشرق الأوسط حيث من الممكن تحديد المدن التي تشكل المحاور الرئيسية في شبكة مترابطة من التجارة والعلاقات في المنطقة وتلعب دوراً رئيسياً في تنمية الإقتصاد الإقليمي وتجلب القدرة التنافسية الإقليمية والعالمية إلى مستوى المدينة. ويمكن تصنيف هذه المدن ضمن ثلاث فئات: المدن العالمية، المدن المحورية، والمدن العملاقة.
هذه المدن تميّز نفسها من خلال المؤسسات والسياسات والأنظمة المعمول بها في بيئة الأعمال، والربط الثابت (البنية التحتية) والربط اللين (الثقافة والمجتمع، وإستخدام التكنولوجيا المتقدمة) كما حدّدها تقرير متندى الاقتصاد العالمي. وعلى هذا الأساس، يمكن إختيار بعض المدن ضمن الفئات الثلاث من قائمة أكبر ثلاثين مدينة في المنطقة من حيث عدد السكان كمثال لتوضيح نموذج التنافسية في كل منها.
المدن العالمية: إن دبي، على سبيل المثال، نموذج واضح عن المدينة العالمية التي طوّرت نُظم إدارة متقدمة جاذبة للشركات المتعددة الجنسيات التي تخدم المنطقة. فمن جهة الحوكمة، يحتل المجلس التنفيذي حيّزاً كبيراً من رأس الهرم الإداري، مع رؤية وقدرات تنفيذية وإدارية سمحت للمدينة أن تزدهر في فترة قصيرة من الزمن.
كما تمكنت المدينة من لعب دور رئيسي في جذب الأعمال التجارية العالمية بسبب الحوافز الإقتصادية والمالية القوية التي ترتكز على أطر تنظيمية وقانونية متطوّرة ومرنة بما فيه الكفاية لتشجيع شركات عالمية وإقليمية على القيام بأعمال تجارية في نطاق ولايتها. دبي تخضع للقانون الإتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة لكنها تحتفظ بإستقلالها وحقوقها في بعض الأمور الإدارية.
اما الربط الثابت أي البنية التحتية للمدينة، فتم تطويره بشكل كبير من خلال شبكات حديثة للإتصالات و النقل و بالنسبة إلى الربط الليِّن، فكانت دبي قادرة على الحفاظ على الثقافة التقليدية وإستيعاب بمرونة مدروسة ومضبوطة مجموعة واسعة من جنسيات داخل حدودها إضافة الى تطويع التكنولوجيا لخدمة المواطن والمقيم والزائر.
المدن المحورية: تتكوّن من مدن مثل عمّان وبيروت وهي بمثابة محاور ومداخل إلى الأسواق الأكبر المجاورة. تُبنى تنافسيتها على قوانين التجارة التي تسهّل التبادل، كما يعاونها موقعها الجغرافي المتميز الذي يربط الخليج مع البحر المتوسط وأوروبا وهذا عامل يعوِّض عن صغر حجمها. تم تأسيس أنظمة الحوكمة بشكل جيد في هذه المدن على مدى عقود حيث إكتسبت مؤسساتها خبرة واسعة في إدارة التبادل التجاري. بينما تحتوي هذه المدن على بنى تحتية حديثة ومقبولة، تتميز بشكل أكبر من ناحية الثقافة المتنوعة والمنفتحة التي تسهّل التبادل التجاري بين شرق البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الخليج.
بالإضافة الى الدور التجاري اللوجستي، تشكل هاتان المدينتان حاضنة للتكنولوجيا والإبتكار، كما يشكل تجمع المواهب فيها عاملاً جاذباً لرؤوس المال.
المدن العملاقة: إنها المدن الأكثر سكاناً وتأثيراً في تطورات الأوضاع في المنطقة. وهي تشمل مدناً مثل الرياض والقاهرة وإسطنبول وبغداد وغيرها. في حين أن مستوى تطور الإدارة يختلف بين هذه المدن، فإن حجمها يوفّر لها وزناً قوياً وتنافسية عالية في المنطقة. يتميَّز بعضها ببنية تحتية متطوّرة، والبعض الآخر بثقافتها وبيئتها وموقعها التمثيلي كمركز سياسي لبلد كبير. هذه المدن هي المراكز السكانية الكبرى وهي تمثّل 14٪ من سكان الشرق الأوسط.
لهذه المدن قدرة كبيرة على مواجهة الصعوبات والمحافظة على وضعها التنافسي. فعلى الرغم من أن بغداد عانت لمدة طويلة بسبب الحروب والعقوبات، إلا أنها لا تزال جذابة لمجتمع الأعمال بسبب حجمها ودورها الإقليمي وثقافتها المتنوعة رغم أن أنظمتها وبنيتها التحتية ما زالت بحاجة الى تطوير أكبر. أما الرياض فتنمو بوتيرة عالية، مع نمو المراكز التجارية ومشاريع البنية التحتية الكبرى التي أطلقت حديثاً إضافة الى تصميم القيادة ورؤيتها للتطوير اللذين يمكّنان المدينة من تحقيق المزيد من النمو. وفي حين تمضي الرياض قدماً في تطوير قدراتها التنافسية، فإن القاهرة تتحضّر لمرحلة جديدة من التطوير في أعقاب التغيير السياسي في البلاد و بعد إستثمارات كبيرة من دول الخليج، وخصوصاً المملكة العربية السعودية. وللقاهرة ثقافة وقدرات بشرية متميزة، تمكّنها من لعب دور أساسي في تطوير إقتصاد المنطقة بخاصة في مجالات الإبداع والإبتكار والصناعة.
تشكل هذه المدن في جميع فئاتها، عامل الإستقرار لإقتصاد المنطقة من خلال توفير مراكز ثابتة للتجارة و الإبتكار والتطوير، وجذب اللاعبين الإقليميين والعالميين على مستوى التجارة.
فمن المرجح أن إعتماد المنطقة على المدن القائمة والناشئة حديثاً سيزداد مع الوقت لأنها بمثابة واحات خصبة ومترابطة في صحراء إقتصادية جافة تكثر فيها خيبات الأمل.
• خبير إقتصادي لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى