هل ينجح “داعش” في إشعال حرب طائفية في السعودية؟

ماذا يريد تنظيم “الدولة الإسلامية” في المملكة العربية السعودية؟ هل حقاً يريد إشعال حرب طائفية؟ لقد كشف العميد بسام عطية المسؤول في وزارة الداخلية السعودية أن تنظيم “داعش” يسعى إلى تقسيم المملكة إلى خمس مقاطعات، مشيراً إلى أن هذا التنظيم الإرهابي يهدف إلى زرع الفتنة في المملكة. وأشار إلى أن أهداف التنظيم بعيدة المدى فهي عسكرية وإقتصادية وأمنية وغيرها، مؤكدا أن الحادث الأمني، الذى شهدته القطيف هو أكبر دليل على تنفيذ هذه الإستراتيجية على أرض الواقع.

الملك سلمان بن عبد العزيز: بدأ جيداً فهل يكمّل المشوار؟
الملك سلمان بن عبد العزيز: بدأ جيداً فهل يكمّل المشوار؟

الرياض – راغب الشيباني

هناك شيء مألوف في الحملة الإرهابية الأخيرة التي شنّها تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”) في المملكة العربية السعودية. في الواقع، إنها  تُذكِّر إلى حد كبير بتلك التي كان يقوم بها تنظيم “القاعدة” قبل 12 سنة. في ذلك الوقت، إستطاعت مملكة آل سعود بنجاح منع عدوّها الجهادي من تحقيق أهدافه. لكن هذه المرة، يظهر أن العدو هو أكثر مرونة وواسع الحيلة، ويبدو أن الوضع الإقليمي ملبّد ضد المملكة. إن الرياض تحتاج حالياً إلى أشياء عدة بينها التبصّر، وفن الحكم، وقبل كل شيء، “إستبطان” إعادة تكرار نجاحها السابق.
على الرغم من أن الزعيم السابق لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن ركّز في المقام الأول على إستهداف الولايات المتحدة، فإن المملكة العربية السعودية لم تغب عن باله وحساباته أيضاً. كان يردد دائماً يجب الإطاحة بآل سعود لأنهم فتحوا الباب أمام الهيمنة “الصليبية والصهيونية” على العالم الإسلامي، وخانوا القضية الفلسطينية لمصلحة “اليهود والأميركيين”. ولكن مع ذلك، فقد فَهِم بن لادن، في نهاية المطاف، أنه بحاجة إلى خوض حرب مع الرياض إذا أراد الفوز بأكبر الرهانات: السيطرة على المدن الإسلامية المقدّسة والثروة النفطية الهائلة.
نظراً إلى دعم الولايات المتحدة للسعوديين، كان بن لادن على بيِّنة من صعوبة هذه المهمة. ولكنه، رغم ذلك، كان مصمِّماً على تحقيقها. عندما سقطت قندهار في العام 2002 في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان، عاد مئات من أعضاء تنظيم “القاعدة” السعوديين إلى المملكة وشكّلوا خلايا نائمة كانت تعمل سراً هناك وفقاً لتوجيهات بن لادن. في أوائل العام 2003، كانت تلك الخلايا تحوّلت إلى بنية تحتية إرهابية واسعة تتألف في معظمها من السعوديين، الأمر الذي شجّع زعيمها إلى أن يأمرها بالتمرّد في 13 شباط (فبراير) 2003، والذي تزامن مع عشية الغزو الأميركي للعراق. (في الواقع، قدّم الغزو إلى تنظيم “القاعدة” فرصة فريدة لمواجهة العائلة المالكة السعودية من طريق توجيه نداء الى تشديد رد الفعل المناهض لأميركا الذي أثاره الغزو بين السكان السعوديين).
وجاء أول عمل إرهابي للحرب في المملكة بعد أقل من ثلاثة أشهر، وبالتحديد في 12 أيار (مايو)، عندما فجّر إنتحاريون سيارات عدة مفخَّخة في مجمّعات سكنية في الرياض التي كان يستخدمها مقاولون أميركيون وغربيون آخرون يعملون في المدينة. وكان سبعة أميركيين بين ال34 شخصاً من الذين قُتِلوا وأصيب 200 شخص آخرين. والذي تلا ذلك كان أطول وأعنف صراع داخلي في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث. ويعتبر معظم الخبراء بأن إنتفاضة العام 1979 في المسجد الحرام في مكة لم تكن خطيرة وأكثر تهديداً لبيت آل سعود كما كان هجوم تنظيم “القاعدة” في حينه.
كان التمرّد منظَّماً تنظيماً جيداً ومروّعاً وعلى نطاق واسع. تحوّلت المعارك المسلحة بين قوات الأمن السعودية وشرائح من عناصر تنظيم “القاعدة” إلى حوادث شبه يومية في المناطق الحضرية. وقد وقعت إشتباكات في مدينة جدة، والخبر، ومكة، والرياض، والطائف، وينبع، ومدن وبلدات أخرى في جميع أنحاء البلاد. إستخدم تنظيم “القاعدة” السيارات المفخخة لإستهداف منشآت غربية وإختطف وقتل أيضاً مواطنين غربيين. كانت هناك فترات عرضية من الهدوء النسبي، حيث كان يبدو أن قوات الأمن سيطرت على الموقف ودمّرت قدرات تنظيم “القاعدة” وأضعفته، ولكن سرعان ما كان يتبعها دورات جديدة من العنف. إغتال الإرهابيون بعض كبار الضباط في وزارة الداخلية السعودية التي كان مقرها في الرياض، الذي بني ليشبه هرماً مقلوباً، هدفاً للهجوم. وكان أعنف الهجمات على القنصلية الأميركية في جدة في 6 كانون الأول (ديسمبر) 2004، حيث قُتِل تسعة أشخاص عندما إخترقت خلية من تنظيم “القاعدة” أراضي القنصلية ونجحت تقريباً في أسر ديبلوماسية أميركية.
لكن جهود الرياض كانت سائدة في نهاية المطاف في مكافحة الإرهاب، حيث سحقت تمرد تنظيم “القاعدة” بشكل فعّال بحلول العام 2006. (على الرغم من أن الإرهابيين واصلوا التخطيط لهجمات مذهلة لمدة عام آخر، إلّا أن الأجهزة الأمنية أحبطت محاولاتهم). بدعم من المؤسسة الدينية التي إعتبرت فكر تنظيم “القاعدة” إنحرافاً عن الإسلام، إستخدمت وزارة الداخلية والجهات الحكومية السعودية الأخرى تدابير فعّالة للغاية لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك نشر أسماء الإرهابيين الذين إعتقلوا أو قتلوا، وإختراق الخلية، والحرب الإلكترونية، ومنع أو تعطيل تمويل الإرهاب. ووضعت السلطات السعودية أيضاً برنامج إعادة تأهيل بغية تحويل الإرهابيين المقبوض عليهم إلى مواطنين مسالمين. كانت النتائج ممتازة — أقل من نسبة 10 في المئة عادت إلى الجهاد، وفقاً لسعيد البيشي مدير مراكز إعادة التأهيل – الأمر الذي شجع الحكومات في المنطقة التي تكافح الإرهاب على إعتماد وتخصيص أجزاء من البرنامج.

فرِّق تسد

على الرغم من أن زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية” أبو بكر البغدادي لا يتمتع ب”كاريزما” ولا شبكة بن لادن المتطورة والمتكاملة التي كانت لديه في المملكة بين 2002 و2006، فإن رسالته بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، “رأس الأفعى ومعقل المرض”، كما يصفها، تشبه رسالة زعيم “القاعدة” الراحل. مع ذلك، فإن خطة البغدادي التي إستعارها من رئيس تنظيم “القاعدة في العراق”، أبو مصعب الزرقاوي، هي أكثر ذكاء، وشيطانية، وخطيرة: هدفه يكمن في إشعال حرب أهلية طائفية في السعودية من خلال إستهداف الشيعة فيها وإستفزازهم لإطلاق العنان لغضبهم ضد الحكومة السعودية. (عشرات من الشيعة السعوديين قد بدأوا فعلياً تشكيل مجموعات الدفاع المدني لحماية أنفسهم بشكل أفضل ضد “داعش” وغيرها من التهديدات، وهي نتيجة جعلت السلطات السعودية تشعر بعدم الإرتياح). لقد ضربت مجموعة البغدادي الطائفة الشيعية في السعودية ثلاث مرات منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، لكن هجمات تنظيمه الأكثر نجاحاً جاءت خلال صلاة الجمعة في أيار (مايو) الماضي في مساجد الشيعة في الدمام وبالقرب من القطيف في المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية، مما أسفر عن مقتل ما مجموعه 25 شخصاً وإصابة ما لا يقل عن 120 آخرين.
إن وزارة الداخلية وحدها تعرف ما إذا كانت إستراتيجية “داعش” نفّذها أفراد من “الذئاب الضالة” وحدهم أو مجموعة من الخلايا المنسّقة. لكن بغض النظر عن طبيعة وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” في المملكة (التي يصفها البغدادي بمقاطعة نجد التي أنشئت لأول مرة في القرن الثامن عشر)، فإن عدد الذين يُشتبَه بأنهم أعضاء في “داعش” وتم القبض عليهم – أكثر من 400 حتى الآن- هو أمر مثير للقلق. والأهم أكثر من ذلك، ليس فقط بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، ولكن أيضاً بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين، هو أن الغالبية العظمى من هؤلاء المعتقلين هم من المواطنين السعوديين الذين كانت في حوزتهم قائمة عريضة من أهداف سعودية وأميركية. عندما إعتقلت أجهزة الأمن السعودية 93 منهم في نيسان (إبريل) الفائت، علمت بعد التحقيق معهم أنهم كانوا يخططون لمهاجمة السفارة الاميركية في الرياض.
الواقع أن إحباط البغدادي لن يكون سهلاً، ولكنه قابل للتحقيق بالتأكيد. هناك عوامل عدة تعمل لصالح الرياض، فيما قلّة غيرها لا تعمل. فمنذ تمرد بن لادن، إكتسبت المملكة قدراً هائلاً من الخبرة في مجال مكافحة الإرهاب التي أثبتت أنها مفيدة جداً في المعركة الحالية ضد “داعش”. برنامج التأهيل، على سبيل المثال، ما زال مستمراً في العمل منذ أكثر من عشر سنين.
من ناحية أخرى، لا يتمتع تنظيم “الدولة الإسلامية” أيضاً بفرصة المفاجأة الإستراتيجية التي كانت لدى “القاعدة”. إن أحد الأسباب الذي جعل تنظيم “القاعدة” فعّالاً جداً في أول عامين من التمرد هو أن السلطات السعودية، جنباً إلى جنب مع أجهزة الإستخبارات الأميركية، كانت غافلة عن مدى حجم البنية التحتية السرية للتنظيم الإرهابي. كما أن الظروف التي تساعد المملكة في حربها ضد “داعش” تشمل أيضاً صعود القومية السعودية في الأشهر الأخيرة، خصوصاً بعد وصول قيادة جديدة وشابة إلى السلطة، وحملة الرياض العسكرية ضد المتمرّدين الحوثيين في اليمن. وأخيراً، فإن حقيقة أن البغدادي هو عراقي الجنسية والمولد، وليس سعودياً مثل بن لادن، تلعب دوراً مهماً. على الرغم من أن تنظيم “الدولة الإسلامية” لديه أتباع من مختلف الجنسيات والخلفيات، فإن الجزء الأكبر من قيادته هو عراقي، والذي قد يشكّل عقبة كبرى وصعبة لجذب مجنّدين سعوديين في المستقبل.
لكن حرب السعودية في اليمن، وصراعها الإقليمي مع إيران، وتوسّع “داعش”، والبقاء في السلطة … كلها تحديات مهمة سوف تعقّد جهود الرياض لوقف البغدادي. على الرغم من أن المملكة ليست حالياً منتشرة عسكرياً فوق طاقتها، فمن الممكن أن تخوض قريباً حرباً متعددة الجبهات إذا زاد تورط إيران عسكرياً في اليمن وسوريا، فضلاً عن المحاولات لزعزعة الإستقرار مرة أخرى في البحرين. بقدر ما تعطي الرياض إهتماماً وتخصّص موارد للأخطار الخارجية، ستكون أقل إستعداداً على الجبهة الداخلية لمناهضة الإرهاب ضد “داعش”. وأخيراً وليس آخراً، ونمطي كما يبدو، إن تنظيم “داعش” ليس تنظيم “القاعدة”. الأول يكبر ويتعاظم نفوذه ويسيطر على أراض واسعة وكميات كبيرة من الموارد المادية والبشرية في المنطقة فيما كان الأخير فقط يحلم بها. والأسوأ من ذلك، على الرغم من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضده، فإن تنظيم “الدولة الإسلامية” لا يواجه مقاومة فعّالة جداً.

إغلاق “الدكّان”

لمنع “داعش” بشكل حازم من إقامة معقل في المملكة، يجب على الرياض أن تفكر بجدية بشأن إستكمال حملة مكافحة الإرهاب مع تنفيذ بعض الإجراءات التصالحية اللازمة التي طال إنتظارها مع السكان الشيعة في المملكة. الواقع أن جهود مكافحة الإرهاب التي تقوم بها الرياض في المنطقة الشرقية سوف لن تفلح بفعل الكثير إذا إستمر المجتمع الشيعي يُعامَل بطريقة سيئة من قبل حكومته.
بعد التفجير الإنتحاري في أيار (مايو) في القطيف، أوفد الملك سلمان بن عبد العزيز ولي عهده الأمير محمد بن نايف إلى المنطقة لتقديم التعازي بالضحايا إلى أسرهم. كما أنه سمح للتلفزيون السعودي بث الجنازات الشيعية بالكامل. وفي 3 حزيران (يونيو) الفائت، أشار إلى المتطوعين الشيعة، الذين لقوا حتفهم جرّاء محاولتهم منع المهاجم الثاني من دخول المسجد في الدمام، بأنهم “شهداء” و”أبطال”. وأدان مفتي المملكة عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ورجال دين سعوديون آخرون الهجوم أيضاً. ولكن كل هذا يبقى رمزياً. لا تزال الصحف السعودية وحسابات “تويتر” مليئة بالنقد اللاذع ضد الشيعة، مع العديد من المعلقين السعوديين يلوم إيران على هذه الهجمات.
لكن تهدئة الجماهير الشيعية تنطوي على أكثر من مجرد محاولة، مهما كانت نزيهة، فهي تكمن في توفير الحقوق الأساسية للشيعة. وللوصول إلى ذلك، لا بد من الحد من نفوذ رجال الدين السعوديين المتطرفين الذين يقذفون الكراهية ضد الشيعة في المملكة ومنطقة الشرق الأوسط، تحت شعار محاربة إيران. لقد كانت أمنية الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل وفاته من العلماء والسلطات الدينية في السعودية بأن يتبنوا عقيدة وسطية أقل صرامة وتكون أكثر تقبّلاً للتغيير. لكنه رحل.
على رغم القول بأن الملك السعودي لا يمكن أن يحكم على نحو فعال من دون رجال الدين هو كلام صحيح، فإنه يتمتع بالسلطة المطلقة، كما ينص القانون الأساسي للدولة الصادر في 1992 بوضوح. كما أنه يسيطر على ثروات البلاد والقوات المسلحة ويختار المسؤول الأعلى دينياً – مفتي البلاد. مع التعديل السياسي الذي أجراه أخيراً، ليس هناك شك في أن الملك سلمان بن عبد العزيز هو الرجل الحاكم والمسؤول.
حتى الآن، أخذ الملك سلمان بعض القرارات الجريئة التي فاجأت كثيرين، مثل تعيين ولي عهد جديد شاب الأمير محمد بن نايف وتركيز سلطة كبيرة في يد نجله الأمير محمد (29 عاماً)، الذي يشرف حالياً على السياستين الإقتصادية والدفاعية. لكن أجرأ وأهم قرار لم يتّخذه سلمان بعد ويكمن في قيادته حملة وطنية تسعى إلى القضاء على الكراهية والحقد اللذين يعشعشان في البلاد ويدفعان بالمواطنين السنّة في المملكة إلى مكافحة أخوتهم في المواطنة من الشيعة السعوديين. وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال الحدّ من نفوذ مشايخ الوهابية غير المتهاودين، والذي حاول الملك الراحل القيام به. أما على نطاق أوسع، فالعمل ينطوي على إعادة النظر في أنشطة وسائل الإعلام وبعض رجال الدين ومراجعة النظام التعليمي. الواقع إن بقاء المملكة العربية السعودية يعتمد على ذلك. وفي غياب مثل هذا الجهد، ستكون حرب الرياض مع الإرهاب طويلة جداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى