كيف يُمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولتهم

منذ توقيع إتفاق أوسلو في تسعينات القرن الفائت (1993) بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذي قاد إلى نشوء السلطة الفلسطينية والمفاوضات لإقامة دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية تحدهما حدود 1967، فقد عانى الفلسطينيون كثيراً على أيدي الإسرائيليين الأمر الذي أدّى أخيراً إلى تطورات أوقفت المفاوضات على “حل الدولتين”. ولكن ما العمل الآن؟

بنيامين نتنياهو: لا أمل معه إلّا بتهديده بحل الدولة الواحدة الثنائية القومية
بنيامين نتنياهو: لا أمل معه إلّا بتهديده بحل الدولة الواحدة الثنائية القومية

رام الله – سمير حنضل

في 17 آذار (مارس) الفائت، فاز رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في إعادة إنتخابه، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى تعهّد يائس قدّمه في اللحظة الاخيرة إلى قاعدته اليمينية يفيد بأن الفلسطينيين لن يحصلوا على دولة ما دام هو في السلطة. بعد الإنتخابات، حاول وضع تعليقاته جانباً  وإدّعى بأنها  كانت حاجة إنتخابية، لكن المراقبين الفلسطينيين لم يصدّقوه. كما قال شخص مقرَّب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن إعادة إنتخاب نتنياهو تشكّل نهاية عصر، و”الإغلاق النهائي لنافذة فرصة التوصّل إلى حلّ من طريق التفاوض”. متابعاً: “قبل عامين، أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمام الكونغرس الأميركي أنه في غضون عام ونصف العام، أو عامين على الأكثر، النافذة ستُغلق. لقد كان على حق. لقد أُغلِقت”.
مما ضاعف وزاد من حالة الإحباط لدى الفلسطينيين كان الإعتراف بأن نتيجة الإنتخابات لا تهمّ كثيراً: حتى لو خسر نتنياهو في إعادة إنتخابه، فإنه ينبغي على الفلسطينيين الإعتماد على ما يعتبرونه إدارة أوباما غير المبالية وغير الفعاّلة لدفع مفاوضات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية المتعثّرة إلى الأمام. لا أحدٌ في رام الله، العاصمة الفلسطينية بحكم الأمر الواقع، يعترف علناً، ولكن بعض المسؤولين الفلسطينيين يفتقد في الواقع إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، التي يبدو أنها كانت تتمتع بتأثير على إسرائيل أكبر وأكثر من البيت الأبيض الحالي. يحب صائب عريقات، الممثل الفلسطيني في مفاوضات السلام مع إسرائيل والولايات المتحدة، أن يشير في أحاديثه الخاصة إلى أن بوش كان أول رئيس أميركي يدعم الدولة الفلسطينية والرئيس الوحيد الذي أجبر إسرائيل على إزالة مستوطنات من أراضٍ يطالب بها الفلسطينيون. قد تكون إدارة باراك أوباما خاضت معارك متكرّرة مع نتنياهو، ولكن رغم كل الضجة، فإن الرئيس الأميركي الحالي لم يفعل شيئا يُذكَر لخلق تقدّم على الأرض نحو إقامة دولة فلسطينية.
لم يكن كل هذا جيداً بالنسبة إلى محمود عباس (أبو مازن) (80 عاماً)، رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية. فهو يبدو أضعف من أي وقت مضى. الرجل الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز مرة بأنه “أفضل شريك فلسطيني لإسرائيل لم تعرف مثله أبداً” يجد نفسه الآن بعد عشر سنين في منصب، كان من المفترض أن يكون لمدة أربع سنوات، من دون أي إنجاز حقيقي أو إرث. يشير مؤيدوه إلى أنه خلال فترة ولايته، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة، ولكن هذا الإعتراف لا يعني شيئاً للفلسطيني العادي في قطاع غزة والضفة الغربية، أو في مخيمات اللاجئين في الدول العربية المجاورة. لقد توسّعت المستوطنات الإسرائيلية في عهده، ولا تزال الجماعة الإسلامية المتشددة “حماس” تسيطر على قطاع غزة، والتوصل إلى حل الدولتين، الذي يفترض إقامة دولتين واحدة إسرائيلية وأخرى فلسطينية على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، يبدو أبعد من أي وقت مضى. ويبدو التأثير السلبي واضحاً في عباس. “الرجل ببساطة يبدو حزيناً” قال صحافي إسرائيلي غطى أخباره لسنوات. وأضاف “إن الأمر مفجع تقريباً للتحدث معه في هذه الأيام”.
ومن المفارقات، مع ذلك، أن وفاة حل الدولتين قد تتحوّل إلى أن تكون إعادة إحيائه وقيامته. يبدو أن الزعماء الإسرائيليين يراهنون على أن الوضع الراهن للسيطرة العسكرية في الضفة الغربية يمكن أن يستمر إلى أجل غير مسمى، ولكن من المرجح أن يكونوا على خطأ. إن الفلسطينيين الشباب الذين فقدوا الثقة في التفاوض حول حل الدولتين للصراع من المرجح أن يبدأوا الضغط من أجل حقوقهم في دولة واحدة ثنائية القومية بدلاً من ذلك. وفيما تكسب هذه المطالب للحريات المدنية وحقوق التصويت بشكل متزايد دعماً دولياً، فإن كثيرين من القادة الإسرائيليين قد يصلون إلى قناعة بأنه مهما كان مدى خوفهم من حل الدولتين، فإن حل الدولة الواحدة يمكن أن يكون أسوأ من ذلك. ولذا يمكن أن ينتهي بهم المطاف إلى التحوّل والإنتقال الى إقامة دولة فلسطينية مستقلة في كل الأحوال.

السعي للحصول على دولة

منذ تولّى الرئيس عباس منصبه في العام 2005، سعى الفلسطينيون إلى إقامة دولة من خلال الحصول على كل “الزخارف” القانونية الدولية لهذه الدولة. لكن لم يجرِ أي جهد له معنى على هذا الصعيد حتى العام 2011 عندما إنطلقت حملة “فلسطين 194″، التي تتصوّر أن تصبح فلسطين الدولة 194 التي تعترف بها الأمم المتحدة، بشكل جدي. في تلك السنة، هدّد عباس بالدعوة إلى إجراء تصويت في مجلس الامن الدولي بشأن إقامة دولة فلسطينية، بحجة أن قبول فلسطين في الأمم المتحدة من شأنه أن يعزّز نفوذ الفلسطينيين في المفاوضات المستقبلية. في نهاية المطاف، تخلّى الرئيس الفلسطيني عن التصويت، ويرجع ذلك أساساً إلى تهديد الفيتو الأميركي. لذا في العام 2012، عاد إلى الجمعية العامة، حيث فاز الفلسطينيون بتصويت ترقية وضعهم من “مراقب غير حكومي” إلى “دولة مراقب غير عضو”، الأمر الذي وضع فلسطين على قدم المساواة مع الفاتيكان.
مع الزخم إلى جانبهم، بدأ القادة الفلسطينيون في أوائل العام 2013، بذكر المنظمات والإتفاقات الدولية الأخرى التي يرغبون في الإنضمام إليها، ووضع عباس عددها ب63. كانت الخطة، قال مسؤولون، أن يبدأ الإنتساب إلى هذه المؤسسات حسب تسلسلها من حيث الأهمية، وذلك لزيادة نفوذهم على إسرائيل. وكانت المحكمة الجنائية الدولية وُضِعَت في أواخر القائمة. لذلك أمام جرأة الفلسطينيين وإصرارهم بحلول منتصف عام 2013، فقد أكّد كيري وأصرّ على وقف حملتهم قبل ان يتابع التوسط في جولة جديدة من المفاوضات. لذا إلتزم عباس بهدف عدم إغضاب وزير الخارجية الأميركي، ولكن الحملة لم تكن بعيدة من باله. وعندما إنهارت المحادثات في 1 نيسان (إبريل) 2014، عاد عباس إلى إستراتيجيته السابقة، حيث وقّع فوراً على الأوراق المطلوبة للإنضمام إلى 15 إتفاقية دولية (معظمها ليست ذات أهمية).
لقد أقدم عباس على قرار محسوب ومدروس لإبقاء المحكمة الجنائية الدولية خارج القائمة، في محاولة لتجنّب مواجهة ديبلوماسية واسعة النطاق مع إسرائيل وإبقاء الباب مفتوحاً لإستئناف المحادثات. ولكن من الصعب السير على مثل هذا الخيط الرفيع، ويمكن أن تأخذ الأحداث فترة طويلة. وعندما إندلعت الحرب مع إسرائيل في قطاع غزة في الصيف الماضي، إنتقلت الأحادية الفلسطينية إلى الأمام وفقاً لذلك، والمحكمة الجنائية الدولية – التي يأمل الفلسطينيون مقاضاة الإسرائيليين أمامها عن جرائم الحرب – إنتقلت إلى أعلى الأولويات في جدول الأعمال. لم يكن عباس مرتاحاً تماماً لمثل هذه الخطوة، لكنه شعر بأن وضعه السياسي الداخلي لم يتركه مع الكثير من الخيارات. في كانون الأول (ديسمبر) حاول مرة أخرى الطلب من مجلس الأمن منح مرتبة دولة لفلسطين، ولكن عندما فشلت تلك المحاولة، وقّع على المعاهدة التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك على رسائل نوايا لأكثر من عشر منظمات أخرى، الأمر الذي دفع الصراع إلى عصر قانوني جديد.
لكن لدى حملة “فلسطين 194” صلاحية طويلة المدى. أصبحت فلسطين عضواً كاملاً في المحكمة الجنائية الدولية في 1 نيسان (إبريل)، ولكن أي شكوى تقدّمها من الأرجح أن تستغرق سنوات قبل وصولها إلى المحاكمة، هذا إذا وصلت. العودة إلى مجلس الأمن الدولي هو دائما خيار في الوقت عينه، لكن الأردن -الراعي الطبيعي للقرارات الفلسطينية – من المتوقع أن يفقد مقعده غير الدائم في مجلس الأمن في نهاية العام. وحتى لو قررت إدارة أوباما الإمتناع عن التصويت، بدلاً من إستخدام حق النقض، على قرار يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود إسرائيل في العام 1967، فإن العواقب ستكون محدودة: صداع ديبلوماسي لإسرائيل وإنجاز رمزي للسلطة الفاسطينية، ولكن من دون أي تقدم حقيقي نحو تسوية. عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على الإعتراف بدولة فلسطين في العام 2012، غرّد داني دايان، مدافع إسرائيلي بارز عن المستوطنات في الضفة الغربية، بالعبرية، “المنظر خارج نافذتي في السامرة ما زال ذاته هذه الليلة: إسرائيل”. وفيما عمل الديبلوماسيون المحترفون الإسرائيليون جاهدين لشرح لماذا كانت حملة إقامة دولة فلسطينية شائنة وتجاوزت الحدود، فقد أشار ديان إلى أن ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا معنى له في الواقع.
والسؤال هو: ماذا سيأتي بعد أن يستنفد الفلسطينيون محاولاتهم لفرض الدولة الفلسطينية على إسرائيل من خلال الساحة الدولية؟ مع فشل الكفاح المسلح، والمفاوضات، والضغط الدولي، فإن السلطة الفلسطينية يجب أن تعترف بأن الوقت قد حان لمحاولة شيء جديد. لقد هدّد عباس مرات عدة في الماضي بتفكيك السلطة الفلسطينية، الذي من شأنه أن يضع على نحو فعّال كامل المسؤولية عن الحكم في الضفة الغربية على عاتق إسرائيل، ولكن تل أبيب لم تأخذ أبداً هذه التهديدات على محمل الجد. مع ذلك، قال الإبن الأصغر للرئيس الفلسطيني، رجل الأعمال طارق عباس، في العام الفائت، أنه يجب على الفلسطينيين التخلي عن حلّ الدولتين والمطالبة بحقوقهم المدنية بدلاً من ذلك من إسرائيل. وهذا يشكّل إشارة ضمنية إلى حقوق التجنّس والتصويت التي تمنح الفلسطينيين فرصة الوصول إلى الكنيست الإسرائيلي، حيث يتم إتخاذ القرارات المتعلّقة حقاً بحياتهم. مزيجٌ من تهديدات الأب وإستراتيجية الابن البديلة من شأنه أن يضع إسرائيل على طريق خطير: على الدولة أن تتعامل مع ما يقرب من 4.5 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين لا يطالبون بأراضٍ فقط ولكن بصوت ودور داخل إسرائيل نفسها.

إنتفاضة الشباب

إن أي تغيير إستراتيجي من هذا القبيل يتطلب تغيير الحرس في الحركة الوطنية الفلسطينية. ولن تحدث إستراتيجية جديدة طالما محمود عباس يقود الفلسطينيين، وأنه من الصعب تصوّر أي شخص غير عباس يقود الفلسطينيين فيما هو لا يزال على الساحة. وقد شن الرئيس الفلسطيني حملة على المعارضين آخرها كان إقالة أمين سر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير ياسر عبد ربه من منصبه، ويقوم بانتظام بإعتقال صحافيين، لكنه تمكن من إبقاء الوضع هادئاً، وليس هناك شيء يريده المسؤولون العرب والإسرائيليون أو الولايات المتحدة أكثر من الهدوء في الضفة الغربية– خصوصاً نظراً إلى الإضطرابات المشتعلة في أماكن أخرى في المنطقة في هذه الأيام.
ولكن القصة مختلفة داخلياً. حالياً، أكثر ما يثير قلق عباس ليس محاربة إسرائيل أو “حماس” لكن مقاتلة خصمه داخل حركة “فتح”، السياسي الفلسطيني البارز: محمد دحلان. ويعود الخلاف بين الرجلين إلى الحرب الأهلية التي وقعت بين “فتح” و”حماس” في العام 2007، عندما شهد عباس دحلان، الذي كان يومها مسؤولاً بارزاً يرتفع في حركة “فتح” ورئيس جهاز الأمن في قطاع غزة، يفقد القطاع ل”حماس”. عاد دحلان الى الضفة الغربية بعد ذلك رجلاً مغضوباً عليه من عباس الذي نفاه في العام 2011. لذا، من قاعدته في دولة الإمارات العربية المتحدة، ينفق دحلان وقته الآن على التخطيط للإنتقام.
الواقع أن دحلان يمثّل كل شيء يفتقده عباس: فهو يحظى بشعبية كبيرة، وبكاريزما، وصغير السن نسبياً، ولا يخاف من سفك الدم. على الرغم من أنه قضى وقتاً مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى في تونس في تسعينات القرن الفائت، فإن دحلان لا ينتمي بالضبط إلى ما يسمى بمجموعة تونس، المؤلفة من كبار الساسة الذين ساعدوا في تشكيل السياسة الفلسطينية الحديثة. لقد حوَّلت مجموعة تونس الحركة الفلسطينية بعيداً من الكفاح المسلح وبإتجاه المفاوضات الثنائية مع إسرائيل، وأنشأت السلطة الفلسطينية. لكن هؤلاء القادة لم يحرزوا تقدماً كبيراً في السنوات الأخيرة، ويعتبرهم عادة الفلسطينيون الشبان فاسدين وآسنين. قلّة تريد أن يكون خليفة عباس عضواً آخر من الحرس القديم، ويرى “أبو مازن” التحدّي الذي يشكلّه دحلان، ويلوح في الأفق، بأنه بداية لصراع كبير من أجل السيطرة على مستقبل الحركة الفلسطينية.
الفجوة تنهار على طول خطوط الأجيال. يفقد الفلسطينيون الأصغر سناً الصبر مع مجموعة تونس ومن السلطة الفلسطينية التي أنشأتها. ونتيجة لذلك، كثير منهم يخضعون لتطور سياسي – مثل إبن عباس نفسه –بالتخلي عن هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة في صالح تحقيق المواطنة والحقوق في دولة إسرائيل ثنائية القومية. وقد وجد إستطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في 2013 أن 65 في المئة من الفلسطينيين الذين تزيد أعمارهم على 50 عاماً لا يزالون يفضّلون حل الدولتين، مقارنة مع 48 في المئة فقط من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و28 عاماً.
إن الدافع بين تلك الديموغرافية الشابة واقعي. في الاجتماع الأخير لنحو عشرة صحافيين إسرائيليين وفلسطينيين شباب عقدته منظمة مؤيّدة للسلام، سُئلَ المشاركون عما إذا كانوا يؤيدون حل الدولتين. كان جميع الإسرائيليين من المؤيدين، على الرغم من أن بعضهم، عاكساً مخاوف العديد من الإسرائيليين اليهود، يعتقد أن الوضع خطير جداً لمتابعته في الوقت الراهن. على الجانب الفلسطيني، كان هناك مشارك واحد فقط دعم حلّ الدولتين. والبقية، مجموعة من الشباب المعتدلين، قالوا أنهم يفضّلون الحصول على الجنسية الإسرائيلية. “أنتم أيها الزملاء يمكنكم الصعود إلى سياراتكم، والتوجه إلى المطار، والصعود إلى الطائرة والقيام برحلة إلى باريس”، قال أحد الفلسطينيين موجهاً كلامه إلى الإسرائيليين. مضيفاً: “أما أنا فلا بدّ لي من تقديم طلب قبل أشهر عدة، والمرور على نقاط التفتيش، والحصول على أذونات خاصة من وكالات الإستخبارات الإسرائيلية. إن إسرائيل لن تسمح لنا بإقامة دولة، ولكن يمكنها أن تعطينا حقوقنا. أريد أن أكون مثلكم”.
بالنسبة إلى الشباب الفلسطينيين الذين نشأوا في ظل السلطة الفلسطينية، فإن زوال تلك الدولة الزائفة الفاسدة والمستبدّة وضم الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى المؤسسات الإسرائيلية لن تمثّل خسارة كبيرة. وأوضح خبير الإستطلاعات الفلسطيني خليل الشقاقي (60 عاماً) وجهات النظر المختلفة لصحيفة “نيويورك تايمز” في العام 2014: “فقط إسأل إبني. سوف يقول لك أن جيلي قد فشل ويجب عليه الخروج من المسرح ويأخذ أدبياته السائدة، والحل القائم على دولتين، معه”.
ويضيف: “تشكّلت آراء جيلي خلال ذروة الحركة الوطنية الفلسطينية؛ أما الجيل الشاب فقد تمّ تشكيل وجهات نظره خلال سنوات فشل أوسلو [عملية السلام التي بدأت في العام 1993]، وأيام إدراك الفساد والطغيان السلطة الفلسطينية، وإنتشار شبكة الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية. نحن جيل واقعي؛ وجيلهم مثالي. نحن نطالب بالإستقلال والسيادة. وجيلهم يطالب بحقوق متساوية”.
ليس منذ السنوات التي تلت الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1948 شهدت السياسة الفلسطينية مثل هذه الفجوة الصارخة بين الأجيال. في ذلك الوقت، أنشأ الناشطون الفلسطينيون الشباب، مثل ياسر عرفات وجورج حبش، حركات وأحزاب التحرير، وسرقوا زمام القيادة من كبار السن المهزومين. اليوم، من المرجح أن تثير موجة جديدة من القادة صراعاً بين حركة التحرير (منظمة التحرير الفلسطينية) وجهاز بناء الدولة (السلطة الفلسطينية)، واحدٌ ربما تخسره الأخيرة.
حل السلطة الفلسطينة سوف يعيد السياسة الفلسطينية مرة أخرى إلى أوقات ما قبل أوسلو، عندما تبنّى المسؤولون عقلية حركة التحرير بدلاً من دولة واحدة قيد الإنتظار. سوف تبقى السلطة مع من يسيطر على أكبر حزب سياسي، حركة “فتح”. لكن “فتح” نفسها سوف تضعف، لأنها ترتبط بشكل وثيق بالسلطة الفلسطينية، التي وفّرت لها القيادة منذ البداية. للإعتراف بأن السلطة الفلسطينية كانت تجربة فاشلة سوف يكون إعترافاً بأن أكبر إستثمار لأكبر حزب سياسي فلسطيني كان فاشلاً.
خرجت حركة “حماس” كحزب سياسي مناهض للسلطات الحاكمة في خضم الإنتفاضة الأولى، (الإنتفاضة الفلسطينية التي بدأت في العام 1987). وعندما قادت عملية أوسلو إلى إنشاء حكومة فلسطينية لدولة في الإنتظار، عارضت “حماس” بشدة ذلك. وبحلول العام 2006، كانت حماس قد قررت قبول ما آلى إليه أوسلو بما فيه الكفاية لخوض الإنتخابات والفوز بالسيطرة على قطاع غزة. ولكن لم تكن “فتح” على إستعداد أو لديها أي نية لترك غزة تذهب إلى منافستها، وكانت النتيجة الحرب الأهلية في 2007. الحقيقة أنه إذا إنهارت السلطة الفلسطينية، فإن مسؤولي “حماس” سيصطفون للتعبير عن فرحتهم عن بئس المصير إلى بقرة حلوب لم يستطيعوا أبداً السيطرة عليها.
إن العودة إلى المرحلة القومية الفلسطينية ما قبل أوسلو قد تحوّل أيضاً منظمة التحرير الفلسطينية مرة أخرى إلى حكومة ضعيفة تعتمد على جيرانها والجهات الراعية، تماماً كما كانت خلال معظم وجودها. بعض الجهات الراعية الإقليمية الممكنة للفلسطينيين، مثل مصر والأردن وبعض دول الخليج، سيجد صعوبة في التخلي عن السلطة الفلسطينية وحل الدولتين، لأسباب ليس أقلها أنهما كانتا بمثابة ورقة التوت لتطبيع علاقات هذه الدول مع إسرائيل خلال العقود القليلة الماضية. وبالنسبة إلى أخرى، أي الدول الرافضة، مثل قطر وتركيا، فإن التخلي عن السلطة الفلسطينية وحل الدولتين لصالح حملة الحقوق المتساوية قد تسمح لهما بتحويل الدعم من “حماس” – حبيبتهما المدللة الراهنة – إلى منظمة التحرير الفلسطينية.

حل الدولة الواحدة

إن منظمة تحرير فلسطينية ليس لديها هَمّ تشغيل وإدارة السلطة الفلسطينية، مدعومةً من الوطنيين الفلسطينيين الشباب، وتتلقى مساعدة مُكتَشَفة حديثاً من جهات راعية إقليمية لن تؤدي فقط إلى تغيير الديناميكية على الأرض في الأراضي المحتلة، بل ستولّد أيضاً ضغطاً دولياً حقيقياً على إسرائيل. حتى الآن، فقد فشلت التهديدات الخارجية في تغيير حساب التفاضل والتكامل لدى إسرائيل. وعلى الرغم من أن بعض أهل اليسار الإسرائيلي قد أعرب عن أمله في أن يؤدي شبح العقوبات الأوروبية بشأن بناء المستوطنات إلى إقناع حكومة تل أبيب بتجديد وإنعاش حل الدولتين، فإن ذلك لا يبدو مرجَّحاً الآن. كان تدخل أوروبا على هذه الجبهة في حده الأدنى نسبياً، مستهدفةً المستوطنات في حين تجنّبت الضغط على الإقتصاد الإسرائيلي داخل حدود العام 1967.
في إنتخابات العام 2015، حاول اليسار الإسرائيلي إقناع الناخبين بأن إسرائيل تواجه تهديداً خطيراً على الساحة الدولية، من عقوبات إقتصادية إلى إدانات رسمية إلى إعترافات رسمية بدولة فلسطينية. لكن الناخبين لم يتقبَّلوا أو يقتنعوا بهذا الكلام، لأن خوفهم من تنازلات أرضية في الضفة الغربية تغلّب على خوفهم من أي تدابير جديدة مناهضة للإستيطان صيغت في بروكسل. في غياب أي تقدّم نحو حل الدولتين، مع ذلك، فإن النقاش الدولي حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني يمكن أن يبدأ بالإنزلاق نحو واقع الدولة الواحدة، ومن المرجح أن يبدأ العالم مطالبة إسرائيل بمنح الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية المساواة في الحقوق. عند تلك النقطة، فإن الإسرائيليين سيجدون أن التهديد الدولي أكثر إثارة للخوف من تكلفة إقامة دولة فلسطينية.
هذا التوجّه سوف يستغرق بعض الوقت، خصوصاً في ظل الشخصيات الحالية الموجودة على الساحة الدولية. الرئيس أوباما الذي يدرس الآن محاولة أخيرة لإنقاذ حل الدولتين، قد يسمح لكيري بمحاولة جديدة واحدة، على الرغم من أن الجولة الأخيرة من محادثات السلام إنطلقت تحت الذريعة عينها. ولكن مع “كيمياء” سيئة بين عباس ونتنياهو، الزعيمان اللذان يتشاركان فقط الرغبة في البقاء في السلطة وفي خيبة أمل شديدة من إدارة أوباما، من غير المرجح أن تحقق أي محادثات جديدة شيئاً. إن جولة جديدة ربما تنهار أسرع من آخر واحدة.
إن تحوّل الجهد نحو تحقيق حملة الدولة الواحدة سوف يخلق معضلة صعبة بالنسبة إلى إسرائيل، حيث أن المسؤولين فيها لن تكون لهم القدرة على مجابهتها والمحاججة ضدها من خلال حجج أمنية. خلال سنواته الست في منصبه، رفض نتنياهو التحرك نحو إقامة دولة فلسطينية بحجة أن أي أرض يخليها الجيش الإسرائيلي ويسلّمها إلى السلطة الفلسطينية سوف تستولي عليها فوراً حركة “حماس”، أو “حزب الله”. من جهته قضى عباس كامل وقته في السلطة يحاول (ويفشل) إقناع الإسرائيليين بأن قواته الأمنية يمكن أن تقمع العناصر الأكثر عنفاً في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن منذ الحرب الأهلية في العام 2007، لم يكن سرده قادراً على التغلب على هزيمة “فتح” المذلّة على يد عناصر “حماس” والطرد لاحقاً لكامل قيادة “فتح” من قطاع غزة. لذا تمتع نتنياهو بفرصة سهلة للتأكيد على أن الدولة الفلسطينية قد تكون تهديداً بالنسبة إلى إسرائيل. ومع ذلك سيكون أصعب بكثير عليه أو على أي رئيس وزراء إسرائيلي في المستقبل ليقول لا لجيل جديد من الفلسطينيين يدعو إلى الحصول على الجنسية الإسرائيلية وحقوق التصويت ولكن من دون تغيير في الهيكل الأمني القائم.
ان إستراتيجية إسرائيلية مضادة أكثر وضوحاً لحملة الدولة الواحدة سوف تكون خطوة لوضع الفلسطينيين على طريق إقامة دولة فلسطينية. ولأن الفلسطينيين سوف يحصلون على دولة، يُمكن لرئيس وزراء إسرائيلي أن يجادل، لن تكون هناك حاجة إلى منحهم الجنسية وحقوق التصويت. لكن القيادة الإسرائيلية الحالية ترفض وضع حجر الأساس لهذه الدولة، معطيةً في بعض الأحيان حججاً معقولة (مثل المخاوف الأمنية وعدم وجود نظام حكم فلسطيني قابل للحياة) وتارة أخرى إصرارها على الحجج الدينية حول حق إسرائيل في الأرض (وهذه حجج غير معقولة). في مرحلة ما، فإن المجتمع الدولي سيتساءل عما اذا كانت السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية هي في الحقيقة مؤقتة، ووضعها سيحل قريباً، وإذا لم يكن الأمر كذلك، ماذا ينبغي القيام به نحو مليوني من البشر الذين يعيشون فيها؟
إن منح إسرائيل حقوق التصويت للفلسطينيين الذين يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية يعني نهاية الدولة اليهودية، وليست هناك إمكانية في أن يقبل الإسرائيليون ذلك. ويمكن لحملة الدولة الواحدة، مع ذلك، إلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل، أكبر بكثير مما حملته وتحمله الحملات المعادية لتل أبيب أو المؤيّدة للفلسطينيين. لقد أعطى كيري إسرائيل طعم الإمتعاض الذي قد تواجهه علناً عندما حذّر في جلسة خاصة في العام الماضي أنه من دون إتفاق سلام، فإن إسرائيل يمكن ان تصبح “دولة فصل عنصري”. وعلى الرغم من أن كلماته قد أغضبت المسؤولين في تل أبيب فإن أعضاء من الجالية اليهودية المنظمة في الولايات المتحدة، وحتى وزير دفاع نتنياهو السابق والمقرب منه، إيهود باراك، قد أبدوا تحذيراً مماثلاً.

المسار المتناقض للسلام

كل هذا يشير إلى أن النتيجة الأكثر ترجيحاً لحملة الدولة الواحدة الوشيكة هي تنفيذ حل الدولتين. وسيكون ذلك الوسيلة الواضحة بالنسبة إلى إسرائيل لإسكات منتقديها وقتل أي مطالب من أجل الحقوق المدنية الفلسطينية. إن موقفاً إسرائيلياً يرفض منح الجنسية أو حقوق التصويت للفلسطينيين ولكن يقبل بمنحهم حقاً واضحاً بإقامة دولة فلسطينية على الضفة الغربية والقدس الشرقية (وغزة) سيلقى الكثير من الإستحسان.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، بعبارة أخرى، فإن الوسيلة المرجَّحة لتحقيق دولة مستقلة هي، للمفارقة، التخلّي عن محاولة الحصول على واحدة. فقط عندما يجعل الفلسطينيون الإسرائيليين يعترفون بأن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية ووصل إلى شيء يعتبره الإسرائيليون عزيزاً أكثر من السيطرة على الضفة الغربية – تهديد إسرائيل كدولة يهودية – سوف يبدأ الإسرائيليون رؤية حل الدولتين خيارهم الأقل سوءاً. ولكن اذا وصلت الامور في نهاية المطاف إلى هذا المنعطف، فإن الدولة التي سوف تُمنَح للفلسطينيين قد لن تكون تلك الواحدة التي طالبوا بها على مدى العقدين الماضيين. بدلاً من إتباع حدود العام 1967، سوف يستند المخطط على أمن إسرائيل والمخاوف الديموغرافية. في الجولة الأخيرة من محادثات السلام، كان نتنياهو على إستعداد لمناقشة إقامة دولة فلسطينية على ما يقرب من 90 في المئة من مساحة الضفة الغربية، مع تبادل أراضٍ محدودة. إذا قررت إسرائيل في أحد الأيام دعم قيام دولة فلسطينية من أجل قتل دولة واحدة بثنائية قومية، فإن النتيجة هي أكثر عرضة لكي تكون كنسخة نتنياهو.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة فلديها عدد قليل من الخيارات للتصدي لحملة الدولة الواحدة، ولكن أحدها، يقول الخبراء، قد يكون العودة إلى الصيغة التي إستخدمها بوش في العام 2004. في تلك السنة، في مقابل الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، بعث الرئيس الأميركي السابق برسالة إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون لطمأنة إسرائيل عن دعمه لموقفها في المفاوضات المستقبلية مع الفلسطينيين. في الرسالة، قام بوش بالتمييز بين المستوطنات الإسرائيلية في عمق الضفة الغربية، والتي من المتوقع أن يتم إخلاؤها في أي إتفاق مستقبلي عموماً، والمستوطنات الكبيرة الأقرب إلى حدود العام 1967، والتي من المتوقع أن تكون جزءاً من إسرائيل في المستقبل . في الواقع، لقد فصل بوش حدود العام 1967 عن عملية السلام. كانت إحدى خطوات أوباما الأولى بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الإبتعاد والتراجع عن خطاب بوش والتأكيد على أهمية حدود العام 1967. ويقول بعضهم بأن الرئيس الأميركي المقبل قد يجد هذا التراث المنسي من بوش وشارون مفيداً لتحقيق تقدم في عصر الأحادية الإسرائيلية والفلسطينية، ولكن هل سيقبل الفلسطينيون بذلك؟
في مثل هذه الحالة، علاوة على ذلك، يمكن أن تُعرَض هذه النتيجة (بعد قبولها من الفلسطينيين) على الناخبين الإسرائيليين بمصداقية وليس كقرار من المحكمة العليا أو البرلمان (أو حجج لا تلقى صدى) ولكن باعتبارها عملاً صعباً للحفاظ على الذات. لقد قال دوف فايسغلاس، الذي كان مدير موظفي مكتب شارون خلال مفاوضات فك الإرتباط مع غزة، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق عرض الإنسحاب على الناخبين الإسرائيليين ب”طلاقة ليكودية”. فهو لم يستحضر أوهام السلام الدائم”؛ لقد أطّر القرار بأنه ضروري لبقاء إسرائيل. إن إنسحاباً من الضفة الغربية والقدس الشرقية يحتاج الى شرح الأمر بعبارات مماثلة. عندها فقط سوف تتوقف التهديدات التي تعرقل الفرص المفترضة لإتفاق سلام ما زال بعيد المنال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى