لا يمكن تجاهل تحذير الرئيس تمام السلام

بيروت – رئيف عمرو

في الشهر الفائت، في خطاب بمناسبة الذكرى السنوية الأولى على الفراغ الرئاسي في لبنان، قال رئيس الوزراء تمام سلام تعليقاً متسماً بالتبصّر والإدراك والقلق.
لقد حذّر من أن عدم إنتخاب رئيس للجمهورية قد يسبّب بضرر لصيغة التعايش الطائفي في البلاد، وربما يهدد وجود لبنان بالذات.
قد يكون قد غاب عن بال رئيس الحكومة نقطة مهمة هي أن أولئك الذين يعرقلون الإنتخابات، أو يعملون على إدامة الفراغ الرئاسي، لا يهتمون في الحفاظ على النظام كما هو. في حين أن العماد ميشال عون هو المُذنب الرسمي من خلال رفضه أن يأذن لبرلمانييه بالذهاب الى المجلس النيابي وإنتخاب شخص آخر غيره كرئيس، فإن “حزب الله” قد دعمه بقراره. ومن المرجح جداً أنه قد فعل ذلك لأنه يريد أن يرى إنهيار إتفاق “الطائف” لضمان أن الشيعة سوف يفوزون بمزيد من السلطة السياسية.
مع نظام بشار الأسد يبدو أكثر ضعفاً وعرضة يوماً بعد يوم، فإن حاجة “حزب الله” إلى حماية مصالحه السياسية في لبنان آخذة في الإرتفاع. ولكي يحدث هذا يحتاج الحزب إلى تغيير “الطائف” بطريقة تسمح للشيعة، ومعهم “حزب الله” السيطرة على حصة أكبر من السلطة في البرلمان والحكومة. بالنسبة إلى كثيرين، إن عدم رغبة “حزب الله” في المساعدة على كسر الجمود لإنتخاب رئيس تهدف حقاً إلى تآكل “الطائف”.
يدفع هذا السلوك منطق السلطة والمزايدة الطائفية المختلفة جداً عن مفاهيم التعايش الطائفي والتسوية في قلب الميثاق الوطني اللبناني. إن أي جهد لإصلاح النظام السياسي لإعادة تشكيل التوازن الطائفي لمصلحة طائفة واحدة معينة يتحدّى المبادئ التي بُني عليها لبنان.
يجسّد لبنان ما أطلق عليه المؤلف فيليب مانسيل “المشرقية”. فقد ألّف كتاباً متفاوتاً جداً حول هذا الموضوع في العام 2010، ولكن مقدمته قدمت لمحة قيّمة عن خصائص المدن المشرقية التاريخية (وبالتالي عن البلدان المشرقية)، خصوصاً المدن الثلاث التي ركّز عليها: سميرنا (إزمير حالياً) والإسكندرية وبيروت.
بالنسبة إلى مانسيل إن المدن المشرقية هي المدن التي نشأت في شرق البحر المتوسط ​​على الشريط الحدودي بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا، بين الشرق والغرب. لأن هذه المدن كانت تتميز بإختلاط الثقافات والأديان، كان جوهرها عالمياً كوزموبوليتانياً ومرناً. “يمكن أن تكون هربت من سجون الجنسية والدين. في تلك المدن بين العالمين، يغيّر الناس هوياتهم بسهولة كما يغيرون لغاتهم”، كتب مانسيل. المشرق “وضع الصفقات قبل المُثُل” وصار بالنسبة إلى العالم “مركز التحوّلات والتنازلات”، على حد قوله.
هذه الصفات هجرت إلى حد كبير سميرنا والإسكندرية، فيما المدينتان إستسلمتا إلى تأثير أشكال متعصّبة من الطائفية والقومية. بيروت، على الرغم من نزاع إستمر 15 سنة حيث وُضعت متانة التعايش الطائفي مراراً وتكراراً في موضع شك، مع ذلك فقد تجاوزت كل شيء وبرزت من جديد مع نظام لا يزال قائماً من تقاسم السلطة. إنتهت الحرب في لبنان مع صيغة توافقية طائفية جديدة، ممثلة ب”الطائف”، وعلى الرغم من إستياء البعض، فقد كان هذا الإتفاق قادراً على الإستمرار. ولكن إلى متى؟
لعل أفضل سؤال هنا هو لماذا بعض المجتمعات يتخلّى بسهولة عن التعايش لصالح مُثُل التجانس التي هي أقل إثراء وأقل أهمية؟ إن التنوع يجلب الرخاء ومسرّات التباين. ما هو الشيء المحفّز والمرغوب فيه من العيش على الدوام معزولاً ومع ذاته؛ مع أولئك الذين يعتقدون، إعمل، تناول الطعام وإلعب مثلنا؟ الألفة هي بلا شك أقل تهديداً، ولكنها أيضا تخلو من التحديات، من كل ما هو آسر.
في حين أن معظم العالم إحتضن التنوع الثقافي، فإن العالم العربي هو رائد في الإتجاه المعاكس. إن الشرق الأوسط ما بعد الحرب العالمية الأولى ينهار إلى مجتمعات طامحة في دويلات طائفية أو عرقية طائفية التي تخنق كل إختلاف. عندما، أو إذا، تتشكل هذه الدويلات وتتقاطع المنطقة من خلال هذه الكيانات الكئيبة، عندها ماذا؟ هل سوف يكون طموحها أن تعيش في إكتفاء ذاتي؟ بالتأكيد لا. إنها ستكون مضطرة إلى التعاون مع جيرانها، والإنخراط في التجارة، وتعزيز التبادل الثقافي، كل هذه الأمور التي تحتاجها إليها المجتمعات لكي تتطور.
بعبارة أخرى هذه الدويلات الصغيرة سوف تعترف بسهولة بفوائد التفاعل مع الدول أو المجتمعات المختلفة عنها. لماذا، إذن، هذا التنوع مقبول، حتى مرغوب فيه، عندما يحدث خارج الحدود الوطنية، ولكن ليس داخل تلك الحدود؟ ببساطة لا توجد هناك إجابات مقنعة.
وهو ما يقودنا مرة أخرى إلى “حزب الله” والتهديد المحتمل الذي يشكّله على نظام “الطائف”. والحزب لا يسعى إلى إنشاء دويلة شيعية في لبنان، لذا، علناً، لم يتخلَّ عن التعايش. ولكن ما يفعله قد يكون أكثر ضرراً. إذا كان يسعى إلى تعزيز قوة الشيعة (والدفاع عن مصالح راعيه الإقليمي، إيران) فإن “حزب الله” يخاطر بقطع جسر التعايش الذي يربط التواصل بين كل الطوائف الدينية اللبنانية.
بمجرد بدء اللعب على نغم التوازن الطائفي، فإن الجميع سيرغبون في دخول المباراة. سوف يصرّ الموارنة والسنة والدروز أيضاً على إدخال تعديلات إلى نظام تقاسم السلطة بطرق تمنحهم شريحة أكبر من الكعكة. ومثل هذه الخلافات لن تؤدي إلى توازن جديد، لأنه لا يوجد توازن يمكنه أن يلبي الرغبات المتنافسة من جميع الطوائف، ولكنها قد تدمر بشكل جيد أسس نظامنا السياسي.
هناك بعض المرونة تُركت في التعايش الطائفي اللبناني. أحد الأسباب الذي كان قادراً على أن يجنّب البلاد المشاكل الطائفية حتى الآن التي عرفتها دول عربية أخرى في السنوات الأربع الماضية هو أنه منذ فترة طويلة إإعترف اللبنانيون بواقع الإنقسامات الطائفية وبنوا نظاماً للتصدي لها. إن ردود فعل الحل الوسط متأصلة فينا، بغض النظر عن الإستقطاب في كل مكان حولنا.
هل يجنّب هذا لبنان من الأسوأ؟ لا أحد يمكن أن يعرف. لكن شيئاً واحداً يجب أن يُقلقنا هو تلك الأحزاب أو الطوائف التي، في محاولة لتقوية نفسها من جانب واحد، قد تهدم صرح التعايش على رؤوس جميع اللبنانيين.
إن الرئيس سلام كان على حق لكي يقلق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى