لماذا لن تطول فترة التوسّع الشيعي

منذ الحدث الإيراني في 1979 برز الشيعة في الشرق الأوسط وفي العالم، قوة مادية، ووجوداً شعبياً عريضاً، وفكراَ سياسيِّاً متميزاً، حتى أطلق بعض الكتاب الغربيين على الفترة التي تلت قيام “الجمهورية الإسلامية” بـ”الحقبة الشيعية”، وهي تسمية قد تحمل الكثير من المعاني الباطنية، كما أنها تسمية مبالغ بها إلى حد ما، ولكن لا تخلو من حقيقة. فإيران قوة إقليمية، وشيعة العراق اليوم يتصدرون العملية السياسية، وفي البحرين فازت القائمة الشيعية، وفي لبنان يشكل الشيعة أهم عوامل المصير الذي ينتظر البلد، وفي الكويت بروز شيعي بعد غياب، وفي الخليج شيعة متمكنون ولهم علاقات وطيدة بالدولة. ولكن السؤال الذي يطرحه معظم الخبراء: هل من الممكن أن تطول فترة هذا الإنتعاش والتوسع الشيعي؟

"الحوثيون": أداة إيرانية أخرى للضغط على السعودية
“الحوثيون”: أداة إيرانية أخرى للضغط على السعودية

لندن – ميشال مظلوم

يمكن تحديد الصراع الطائفي في الشرق الأوسط بدقة بأنه بين فريقين: السنة والشيعة. أو هكذا يبدو. الواقع، كما تبيَّن، هو أكثر تعقيداً. فالوحدة السنية هي خرافة، حيث أن دول المعسكر السني منقسمة حول مجموعة متنوّعة من القضايا. والشيعة، على الرغم من نمو نفوذهم وقوتهم منذ أوائل تسعينات القرن الفائت فإنهم يعانون من قيود حتمية لكونهم أقلية.

التحدّي الديموغرافي

في الواقع، إن واحدة من أكثر الخصائص التي تحدّد المعسكر الشيعي هي أنه لا يضم سوى جزء صغير من المسلمين لا يتجاوز الربع، فيما ينتمي أكثر من ثلاثة أرباع جميع المسلمين في العالم إلى الإسلام السني.
وفقاً لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث في أميركا في العام 2011، هناك أربعة بلدان فقط لديها غالبية شيعية: إيران وأذربيجان والبحرين والعراق. ولكن دولاً أخرى لديها أقليات شيعية بارزة أيضاً، بما في ذلك اليمن، الكويت، المملكة العربية السعودية، أفغانستان، باكستان، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، قطر، وسلطنة عُمان. ويشكّل الشيعة أيضاً أكبر مجموعة طائفية في لبنان وتصل نسبتهم إلى 20 في المئة من 180 مليون أو نحو ذلك من المسلمين في الهند.
مثل نظرائهم السنة، يتّسم الشيعة بالتنوّع داخلياً. هناك الطائفة الإثني عشرية التي تشكّل أكبر مجموعة، وهناك العديد من الأطراف الآخرين، بما في ذلك الإسماعيليون، والمعروفون أيضاً ب”السبعيين” (لأنهم إختلفوا مع باقي الشيعة حول الإمام السابع بعد موت الإمام السادس جعفر الصادق)؛ والطائفة الزيدية، والمعروفة أيضاً ب”الخمسية” (لإعترافها بـزيد بن علي كإمام خامس)؛ والعلويون المعروفون ب”النصيريين” (تيمناً بمؤسس طائفتهم محمد بن نصير)؛ والدروز. كل من هذه الطوائف الفرعية تختلف جغرافياً ولغوياً وسياسياً وإيديولوجياً.
تاريخياً، حكم الشيعة لفترات عدة لكن بشكل متقطع فقط، مع بعض الإستثناءات البارزة. على سبيل المثال، سيطر الفاطميون على الخلافة، وإتّخذوا القاهرة مقراً لها حيث تمدّدوا من المغرب إلى الساحل الغربي من شبه الجزيرة العربية، بدءاً من أوائل القرن العاشر إلى أواخر القرن الثاني عشر. وخلال الفترة ما بين 932 إلى 1055، حكمت الإمبراطورية البويهية الفارسية الإثني عشرية ما أصبح الآن إيران والعراق. وفي وقت لاحق، حكمت الدولة الإيلخانية، من مغول آسيا الوسطى، أجزاء من باكستان وأفغانستان وإيران والعراق وسوريا وتركيا. وفي سياقٍ أحدث، يتفاخر الزيديون، بإستمرار الإمامية في اليمن مابين 897 إلى 1962. كما كان العديد من الأنظمة السياسية الإسلامية الصغيرة في القرون الوسطى أيضاً من سلالات شيعية.
بالنسبة إلى الجزء الأكبر، مع ذلك، كانت فترات السيطرة الشيعية نادرة. فقد هيمن أهل السنة على الشيعة حتى القرن السادس عشر، عندما أعلنت الإمبراطورية الصفوية بأن الإسلام الشيعي هو دين الدولة الرسمي. ولكن بحلول هذا الوقت، كان جزء كبير من الشرق الأوسط وجنوب آسيا قد وقع تحت سيطرة إما العثمانيين أو المغول، وكلاهما من الإمبراطوريات السنية.

"حزب الله": أوصل إيران إلى البحر الأبيض المتوسط
“حزب الله”: أوصل إيران إلى البحر الأبيض المتوسط

34

تأسيس موطئ قدم

منذ ذلك الحين، تحوّلت القوة الشيعية إلى بلاد فارس. وفي العام 1979، دشنت الثورة الإيرانية رسمياً جمهورية شيعية، حتى أصبحت إيران الآن أكبر وأقوى بلد شيعي من الناحية العسكرية. وقد مكّنت هذه القوة رجال الدين في طهران من دعم المجتمعات الشيعية، وبالتالي تعزيز نفوذ بلادهم في العالم العربي. لكن توسيع نفوذ طهران لم يكن سهلًا على طول الخط.
بدورها حاولت إيران الإستفادة من أقليتها الأذرية، لإستغلال الغالبية الشيعية في أذربيجان لصالحها. وحتى العام 1991، كانت أذربيجان ما زالت جزءاً من الإتحاد السوفياتي وعلى هذا النحو دولة علمانية. بيد أن علمانيتها في المقابل جعلتها مرنة في التعامل مع المبادرات الشيعية.
كما تمّ خنق النفوذ الإيراني في أماكن مثل جنوب آسيا. ذلك أن الدول القوية، مثل: الهند وباكستان، ناهيك عن الحرب في أفغانستان، جعلت التوسع شرقًا صعبًا جدًا على طهران. ومع إنغلاق شمال غرب البلاد وشرقها إلى حد كبير، كان الإتجاه الآخر الوحيد لإيران هو التوسّع غربًا نحو العالم العربي.
ورغم الحلقة الآثمة من القتال التي وقعت خلال الحرب الإيرانية – العراقية في أوائل ثمانينات القرن الفائت، كانت طهران قادرة على إيجاد موطئ قدم لها في العراق؛ وهو ما أصبح ممكنًا بفضل العداء بين النظامين في بغداد ودمشق. بل أصبحت سوريا في الواقع حليفاً إيرانياً منذ وقت مبكر؛ ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى حقيقة أن النظام هناك كان علوياً ويحكم غالبية سنّية. كما ساعد حكام سوريا الجمهورية الإسلامية في تطوير قدرات “حزب الله” في لبنان ليصبح قوة سياسية وعسكرية كبيرة.
إلى جانب ذلك، هناك حدثان آخران لعبا دوراً أساسياً في توسيع النفوذ الإيراني الإقليمي، هما:
(1) في العام 1989، وضعت الحرب الإيرانية – العراقية أوزارها، وتوصلت الحرب الأهلية اللبنانية – بالمصادفة إلى حد ما – إلى تسوية؛ وكانت النتيجة أن أصبح “حزب الله” – وكيل إيران- أكبر كيان سياسي في لبنان.
(2) بعد سنوات قليلة، غزا العراقُ الكويتَ، ما أشعل حرب الخليج الأولى. بالنسبة إلى إيران، كانت الحرب مفيدة للغاية؛ لأنها أضعفت حكومة بغداد، التي كانت من قبل تحمي مجلس التعاون الخليجي من التعدّيات الإيرانية.

342

إكتمال الهلال

وفي وقت لاحق، بدأ أكراد العراق والشيعة، الذين دعمتهم طهران لسنوات، إستغلال الضعف المتزايد في النظام العراقي. بحلول الوقت الذي هزمت الولايات المتحدة صدام حسين في العام 2003، كان العراق أينع وصار جاهزاً للوقوع تحت السيطرة الإيرانية. وووقع فعلياً، مانحاً الدولة الفارسية هلال نفوذ من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط.
لكن سرعان ما توقف التوسّع الإيراني، حتى لو لم تتوقف تطلعات طهران للهيمنة. وبإفتراضها أن حدودها الغربية باتت آمنة، رأت طهران أن “الربيع العربي” يمثّل فرصة للتوسع في شبه الجزيرة العربية- معقل السعودية؛ منافستها الإقليمية. على وجه التحديد، كانت طهران تأمل في إستخدام الإنتفاضة الشيعية في البحرين لصالحها.
لكن الرياض، بمساعدة حلفائها في مجلس التعاون الخليجي، سحقت الإنتفاضة، وبالتالي آمال إيران في الحصول على مكانة بارزة في هذه الدولة الخليجية.
بعد ذلك بفترة قصيرة، تلقى الطموح الإيراني ضربة أخرى في سوريا، حيث تطوّرت إحتجاجات “الربيع العربي” في نهاية المطاف إلى حرب أهلية واسعة النطاق. صحيح أن الحكومة العلوية لا تزال في السلطة وقد أصيبت بالضعف، لكن الإطاحة بها سيكون كارثيًا بالنسبة إلى إيران: ستقطع التواصل السري الخارجي الموصول بين طهران وحلفائها في “حزب الله”، وتترك الشيعة العراقيين مكشوفين في مواجهة نظام سنّي في سوريا.ط وهكذا يزول العجب من دعم إيران لنظام الرئيس السوري بشار الأسد بهذا الحماس.

37

خطوط حمراء كثيرة

حاليًا، تبدو إيران والشيعة أفضل حالًا من المملكة العربية السعودية والسنّة. لقد ساعد “حزب الله” والميليشيات الشيعية والعلوية الأخرى الأسد على البقاء في السلطة. ومنحت المعركة ضد الجماعات المتطرفة، مثل “جبهة النصرة” وتنظيم “الدولة الإسلامية” وقتًا لإيران كي تعيد تنظيم صفوفها، وتدير المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. علاوة على ذلك، إنشغل السعوديون بالتمرّد الحوثي في اليمن.
ومع ذلك، يبدو أن هذا الربيع الشيعي لن يدوم. ذلك أن المكاسب التي حققها الشيعة جاءت إلى حد كبير نتيجة ضعف السنة وتنافرهم. بيدَ أن بعض التطورات الأخيرة يشير إلى أن أهل السنة بدأوا يستعيدون مكانتهم، ولو مؤقتًا. فقد سيطر المتمرّدون على الأراضي الحاسمة في سوريا، لا سيما في محافظة إدلب، ودخلت المملكة العربية السعودية وتركيا في تحالف للإطاحة بالأسد من السلطة.
الأهم من ذلك، ببساطة أن عدد السنّة يفوق عدد الشيعة. وهناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن السنّة لن يقبلوا بالخضوع للحكم الشيعي. ففي لبنان، فشل “حزب الله” في السيطرة على الحكومة، على الرغم من حجم ونفوذ هذه الجماعة المسلحة. وفي اليمن، قد تبرز الحركة الزيدية وكأنها النسخة اليمنية من “حزب الله”، لكنها لن تستطيع أن تفرض إرادتها على بقية المناطق الواقعة خارج نطاق السيطرة الزيدية. وفي العراق، لا يزال تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) – رغم وحشيته – يمثّل جماعة سنية قوية، حتى في المناطق التي يسيطر عليها الشيعة.
وبينما يمثل الجهاديون، في الواقع، تهديداً لإيران وحلفائها الشيعة، فإنهم يمثّلون أيضاً فرصة. فهذه المقاربة الجهادية تؤدي إلى إضعاف الدول السنية وموقفها، وتدفع الرأي العام الدولي إلى الميل نحو طهران.
ويأمل الإيرانيون من جهتهم أن تتراجع المملكة العربية السعودية. فمن وجهة نظرهم، يمكن للزخم الحوثي في اليمن أن يساعد على إندلاع إنتفاضة مماثلة بين الإسماعيليين في محافظتي جازان ونجران السعوديتين، المتاخمتين لليمن. كما يُمكن للمجتمع الإثني عشري في المنطقة الشرقية السعودية أن ينتعش- وهو تطورٌ، بإمكانه أن يخلق- إلى جانب البحرين- منصة مهمة للنفوذ الإيراني في المملكة العربية السعودية.
من ناحية أخرى، هناك ببساطة عددٌ لا يُحصى من الخطوط الحمراء لأهل السنّة في المنطقة. حتى في السيناريو المُستبعَد – القائم على أن تضعف المملكة العربية السعودية كثيرًا لدرجة أن تفرض إيران سيطرتها الفعلية على شبه الجزيرة العربية – فإن السكان السنّة لن يسمحوا بأن تسقط المدينتان المقدّستان، مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، تحت السيطرة الشيعية. وببساطة، لا يوجد ما يكفي من الشيعة لفعل أي شيء حيال ذلك؛ نظرًا إلى أنهما محاطتان بالسنّة، كإحاطة السوار بالمعصم.
بالإضافة إلى الإعتبارات الدينية، هناك أيضًا الإعتبارات العرقية التي تحول دون إنتشار الحكم الشيعي. فالقيادة الشيعية الآن هي في أيدي الفرس، وليس العرب. وعلى الرغم من إصطفاف الشيعة العرب مع طهران، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بدافع الضرورة حيث أنهم يشعرون بالغبن والضعف في بلادهم. وهذا الأمر يحدّ من مدى الإعتماد الإيراني عليهم في خدمة أغراض طهران وأهدافها.
وعلى الرغم من إتحاد الشيعة في العالم العربي إلى حد كبير، فإن بعض خلافاتهم سيكون من الصعب جدًا تجاهله. فالمنافسة لا تزال قائمة بين المراكز اللاهوتية العراقية، التابعة لمدرسة النجف التي يهيمن عليها العرب ومدرسة قمّ. وقد حاولت طهران جاهدة لزيادة نفوذها في النجف، ويأمل القادة الإيرانيون أن يمكّنهم فراغ السلطة في العراق من نشر مذهب ولاية الفقيه. لكن بينما تمرّ الجمهورية الإسلامية نفسها بتحوّلات سياسية خاصة، فقد أصبحت التوتّرات بين الفصائل الليبرالية والمحافظة – وبين الفصائل الديموقراطية والثيوقراطية، بالنظر إلى صعود الرئيس الإيراني حسن روحاني، وبدء إعادة التأهيل المحلي- أكثر حدة. تلك التوترات يمكن أن تُشغل إهتمام طهران، على حساب طموحاتها
الدولية.
وبالتالي، بقدر ما ترغب إيران في مواصلة إستغلال نقاط الضعف الحالية لأهل السنّة، فإن التغييرات الجارية في طهران قد تُحبط طموحات قيادتها الإقليمية.. كما يمكن أن يكون للخلافات الداخلية بين الشيعة، وتطورات الأزمة السورية، الأثر عينه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى