العالم العربي إلى أين؟

من أين بدأت منطقة الشرق الأوسط وإلى أين هي ذاهبة؟ يحاول الخبير الإستراتيجي الدولي جورج فريدمان الذي يرئس مؤسسة “ستراتفورد” للإستخبارات والمعلومات الإجابة عن ذلك من خلال تقييم الوضع في المنطقة العربية منذ البداية حتى وصول تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).

الرئيس فلاديمير بوتين: الخوف من وصول فكر "الدولة الإسلامية" إلى بلاده
الرئيس فلاديمير بوتين: الخوف من وصول فكر “الدولة الإسلامية” إلى بلاده

بقلم جورج فريدمان*

أصبح مُصطلح “الشرق الأوسط” مرناً بشكل كبير. لقد نشأ هذا الإسم مع وزارة الخارجية البريطانية في القرن التاسع عشر، عندما قسّمت المنطقة إلى الشرق الأدنى، المنطقة الأقرب إلى المملكة المتحدة ومعظم شمال أفريقيا؛ والشرق الأقصى، الذي كان شرق الهند البريطانية؛ والشرق الأوسط، الذي كان بين الهند البريطانية والشرق الأدنى. وكان هذا النموذج مفيداً لتنظيم وزارة الخارجية البريطانية ومهمّاً بالنسبة إلى المنطقة أيضاً، لأن البريطانيين – وإلى حد أقل الفرنسيين – لم يقوموا بتعريف أسماء المنطقة فقط ولكن أيضاً بتقسيم وتحديد الدول التي ظهرت في الشرقين الأدنى والأقصى.
اليوم، إن مصطلح الشرق الأوسط، الذي بات إلى حد ما يعني أي شيء، يشير إلى الدول التي تقطنها غالبية مسلمة غرب أفغانستان وعلى طول الشاطئ في شمال أفريقيا. وبإستثناء تركيا وإيران، فإن المنطقة تسكنها غالبية عربية ومعظم سكانها من المسلمين. أنشأ البريطانيون داخل هذه المنطقة كيانات سياسية كانت على غرار الدول القومية الأوروبية. حوّل البريطانيون شبه الجزيرة العربية، التي كانت تقطنها قبائل تشكّل تحالفات معقّدة، إلى المملكة العربية السعودية، دولة تقوم على واحدة من هذه القبائل، آل سعود. كما أنشأت بريطانيا أيضاً العراق وجعلت مصر ملكية موحّدة. أما تركيا وإيران، المستقلّتان تماماً عن بريطانيا، فقد شكّلتا دولتيهما على أساس قومي علماني.
وهذا الواقع يعرِّف عن خطين من خطوط الصدع في الشرق الأوسط. الأول كان بين العلمانية الأوروبية والإسلام. وقد سرّعت الحرب الباردة، عندما تورط السوفيات بعمق في المنطقة، في تشكيل هذا الصدع. كان جزء من المنطقة علمانياً إشتراكياً ترعرع ونشأ حول الجيش. وجزء آخر، تركّز بشكل خاص في شبه الجزيرة العربية، كان إسلامياً تقليدياً وملكياً. وكان هذا الأخير موالياً للغرب بشكل عام، والسابق – وخصوصاً الأجزاء العربية – كان موالياً للإتحاد السوفياتي. إن الأمر كان، بطبيعة الحال، أكثر تعقيداً من هذا، ولكن هذا التمييز يعطينا إطاراً معقولاً للفهم.
وكان خط الصدع الثاني بين الدول التي تمّ إنشاؤها والواقع الكامن في المنطقة. إن الدول في أوروبا كانت متطابقة ومتوافقة عموماً مع تعريف الدول في القرن العشرين. أما الدول التي “إخترعها” الأوروبيون في منطقة الشرق الأوسط لم تكن كذلك. كان هناك شيء على المستوى السفلي وعلى المستوى العلوي. في المستوى السفلي كانت القبائل والعشائر والجماعات العرقية التي لم تكن تعيش فقط في الدول “المُخترَعة” ولكن أيضاً كانت تقسّمها الحدود. وكان المستوى العلوي يتمثل بولاءات دينية واسعة للإسلام وبالحركات الرئيسية للإسلام، الشيعة والسنة، حيث إشترطت مطالبة عَابرة للوطنية للولاء. إضافة إلى ذلك كانت هناك حركة القومية العربية التي أطلقها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي جادل بأن الدول العربية يجب أن تتوحّد إلى أمة عربية واحدة.
لذا فإن أي فهم للشرق الأوسط يجب أن يبدأ بإنشاء وتطور الجغرافيا السياسية الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى التي كانت مفروضة على الواقع الإجتماعي والسياسي المختلف جداً من جهة، ومحاولة الحدّ من سلطة المجموعات الإقليمية والعرقية على نطاق أوسع من جهة أخرى. إن الحل الذي إتبعه العديد من الدول كان تبني العلمانية أو التقليدية وإستخدامهما كأدوات لإدارة كل من التجمعات دون الوطنية ومطالبات التديّن الأوسع. كانت هناك نقطة واحدة موحِّدة هي إسرائيل، التي عارضها الجميع. ولكن حتى هذا كان وهماً أكثر منه حقيقة. الدول الإشتراكية العلمانية، مثل مصر وسوريا، عارضتا إسرائيل بقوة. الدول الملكية التقليدية، التي كانت مهدَّدة من قبل الإشتراكيين العلمانيين، رأت في إسرائيل حليفاً.

هزّات إرتدادية منذ إنهيار الإتحاد السوفياتي

بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وما ترتب عنه من إنهيار الدعم للدول الإشتراكية العلمانية، صعدت قوة الملكيات التقليدية. لم يكن ذلك مجرّد مسألة مال، على الرغم من أن هذه الدول تملك المال. كان أيضاً مسألة قيم. الحركة العلمانية الاشتراكية فقدت دعمها ومصداقيتها. وحركات مثل حركة “فتح”، المبنية على أساس علماني إشتراكي – والدعم السوفياتي – فقدت القوة لصالح الجماعات الناشئة التي تبنت الإيديولوجية الوحيدة المتبقية: الإسلام. كانت هناك تيارات عابرة هائلة في هذه العملية، ولكن أحد الأشياء الذي ينبغي تذكره هو أن العديد من الدول العلمانية الإشتراكية التي كانت قد بدأت مع وعود كبيرة صمدت وواصلت البقاء، وإن كان من دون قوة وعد لعالم جديد. حكام مثل الرئيس حسني مبارك في مصر، الرئيس السوري بشار الأسد في سوريا والرئيس العراقي صدام حسين في العراق ظلوا في مكانهم. والحركة التي قدمت سابقاً وعداً مع قادة فاسدين كانت، بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، ببساطة حركة فاسدة.
أدّى إنهيار الإتحاد السوفياتي إلى تنشيط وإنعاش الإسلام، لأن المجاهدين هزموا السوفيات في أفغانستان، ولأن البديل من الإسلام تُرك في حالة يرثى لها. علاوة على ذلك، وقع الغزو العراقي للكويت بالتوازي مع الأيام الأخيرة للإتحاد السوفياتي. كلا البلدين هما من مخلّفات الديبلوماسية البريطانية. الولايات المتحدة، بعد وراثتها الدور البريطاني في المنطقة، تدخلت لحماية “إختراع” آخر بريطاني – المملكة العربية السعودية – وتحرير الكويت من العراق. من وجهة النظر الغربية، كان هذا ضرورياً لتحقيق الإستقرار في المنطقة؛ لأنه إذا ظهرت قوة إقليمية مهيمنة وتُرِكت من دون منازع، فإن العواقب ستكون هرمية. لقد ظهرت “عاصفة الصحراء” على أنها عملية عسكرية بسيطة ومنطقية جامعة بين التحالف المناهض للسوفيات مع الدول العربية.
إن تجربة هزيمة السوفيات في أفغانستان وفقدان الأنظمة العلمانية شرعيتها فتحا الباب لعمليتين. في واحدة، وصلت التجمّعات دون الوطنية في المنطقة إلى رؤية وقناعة بأن الأنظمة القائمة قوية ولكنها غير شرعية. في الأخرى، جلبت الأحداث في أفغانستان إلى الواجهة فكرة إنتعاش وقيامة إسلامية. وفي العالم السني، الذي إنتصر في الحرب في أفغانستان، ودينامية إيران الشيعية – التي إغتصبت مركز المتحدث السياسي -العسكري بإسم الإسلام الراديكالي – قدمتا زخماً للعمل واضحاً.
كانت هناك ثلاث مشاكل. أولاً، السلفيون المتطرفون يريدون نشر الإسلام في سياق تاريخي. السياق كان الخلافة العابرة للحدود الوطنية، وهي كيان سياسي واحد يلغي الدول القائمة ويوائم الواقع السياسي مع الإسلام. عاد هؤلاء المتطرفون إلى الحروب الصليبية المسيحية للسياق التاريخي، وصارت الولايات المتحدة – التي يُنظر إليها على أنها القوة المسيحية الأكبر بعد حملتها على الكويت – هدفاً. ثانياً، يحتاج عموم الإسلاميين للإثبات بأن أميركا كانت على حد سواء معرَّضة وعدوة الإسلام. ثالثاً، كان عليهم إستخدام مجموعات دون الوطنية في مختلف البلدان لبناء تحالفات لإسقاط ما كان يعتبرونها أنظمة إسلامية فاسدة، في كل من عوالم العلمانيين والتقليديين.
كانت النتيجة تنظيم “القاعدة” وحملته لإجبار الولايات المتحدة على شن حرب صليبية على العالم الإسلامي. كان تنظيم “القاعدة” يريد أن يفعل ذلك من خلال تنفيذ عمليات تُظهر الهشاشة الأميركية وإكراه الولايات المتحدة على الرد. إذا لم تتحرك واشنطن، فهذا من شأنه أن يعزز صورة الضعف الأميركي؛ وإذا قامت بالرد، فسوف يثبت ذلك بأنها كانت صليبية معادية للإسلام. إن الرد الأميركي، في المقابل، سوف يشعل الثورات ضد الدول الإسلامية الفاسدة والمنافقة، التي سوف تكتسح جانباً من الحدود الأوروبية المفروضة وتمهّد الطريق للإنتفاضات. كان ذلك مفتاحاً لإثبات ضعف الأنظمة وتواطئها مع الأميركيين.
وقد أدى هذا إلى هجمات 9/11/2001 (في أميركا). في المدى القصير، بدت العملية أنها فشلت. وكان رد الفعل الأميركي على الهجمات واسعاً، ولكن لم تحدث إنتفاضة في المنطقة، ولم يطح بأيٍّ من الأنظمة، والعديد من الأنظمة الإسلامية تعاون مع الأميركيين. خلال هذا الوقت، كانت أميركا قادرة على شن حرب عدوانية ضد تنظيم “القاعدة” وحلفائه “طالبان”. في هذه المرحلة الأولى، نجحت الولايات المتحدة. ولكن في المرحلة الثانية، أصبحت أميركا، في رغبتها في إعادة تشكيل العراق وأفغانستان – وغيرها من البلدان – داخلياً، مُحاصَرة بالصراعات دون الوطنية. لقد تورط الأميركيون في إيجاد حلول تكتيكية بدلاً من مواجهة المشكلة الإستراتيجية، وهي أن شن الحرب كان يسبب في إنهيار المؤسسات الوطنية في المنطقة.
في تدميرهم تنظيم “القاعدة”، خلق الأميركيون مشكلة أكبر من ثلاثة أجزاء: أولاً، أطلقوا الجماعات دون الوطنية. ثانياً، إنهم حيث قاتلوا فقد خلقوا فراغاً لم يتمكنوا من ملئه. أخيراً، في إضعافهم الحكومات وتمكين الجماعات دون الوطنية، فقد خلقوا حجة مقنعة للخلافة بإعتبارها المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تحكم العالم الإسلامي بشكل فعّال والأساس الوحيد لمقاومة الولايات المتحدة وحلفائها. بعبارة أخرى، حيث فشل تنظيم “القاعدة” في إشعال إنتفاضة ضد الحكومات الفاسدة، فقد تمكنت أميركا من تدمير أو إيجاد حل وسط لمجموعة من الحكومات نفسها، فاتحةً الباب للإسلام العابر للحدود الوطنية.
كان إعتبار “الربيع العربي” إنتفاضة ديموقراطية ليبرالية ناشئة مثل تلك التي حدثت في 1989 في أوروبا الشرقية خاطئاً. أكثر من أي شيء آخر، كان إنتفاضة حركة إسلامية عامة فشلت إلى حد كبير في إسقاط الأنظمة وحملت إلى سوريا حرباً أهلية طويلة. هذا الصراع له مكوّن دون الوطني – الفصائل المتعددة منقسمة على بعضها البعض الأمر الذي يُعطي تنظيم “الدولة الإسلامية” المستمدّ من تنظيم “القاعدة” مكاناً للمناورة. كما قدّم دفعاً ثانياً إلى المثل الأعلى للخلافة. ليس فقط أن عموم الإسلاميين يناضلون ضد الصليبية الأميركية، لكنهم كانوا أيضاً يقاتلون “الزنادقة” الشيعة – في خدمة الخلافة السنية. لقد توصل تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى النتيجة التي كان يسعى إليها “القاعدة” في العام 2001، بعد ما يقرب من 15 عاماً، بالإضافة إلى سوريا والعراق، مع حركات قادرة على القتال في بلدان إسلامية أخرى.

الإستراتيجية الأميركية الجديدة وتداعياتها

في هذا الوقت، إضطرت الولايات المتحدة إلى تغيير إستراتيجيتها. كان الأميركيون قادرين على تعطيل تنظيم “القاعدة” وتدمير الجيش العراقي. ولكن قدرة أميركا على إحتلال وتهدئة الأوضاع في العراق أو أفغانستان كانت محدودة. والتحزّب عينه الذي جعل من الممكن تحقيق أول هدفين جعل التهدئة مستحيلة. العمل مع فريق واحد نفّر آخر في التوازن المستمر الذي ترك القوات الأميركية معرَّضة لبعض الفصائل المتحمّسة لخوض حرب بسبب دعم الولايات المتحدة لفريق آخر. في سوريا، حيث تقوم الحكومة “العلمانية” بمواجهة مجموعة من القوى العلمانية والدينية ولكن ليست متطرفة، جنباً إلى جنب مع تنظيم “الدولة الإسلامية” الناشئ، لم يتمكن الأميركيون من تكوين قوات من فصائل، من غير تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتحويلها إلى قوة فعالة إستراتيجية. وعلاوة على ذلك، لم تتمكن الولايات المتحدة أن تصنع السلام مع حكومة الأسد بسبب سياساتها القمعية، وكانت غير قادرة على مواجهة “الدولة الإسلامية” بواسطة القوات المتاحة.
بطريقة ما، إن قلب الشرق الأوسط قد تم تجويفه وتحوّل إلى دوامة من القوى المتنافسة. بين الحدود اللبنانية والإيرانية، كشفت المنطقة أمرين: أولاً، أظهرت أن القوات دون الوطنية هي الواقع الفعلي للمنطقة. ثانياً، في طمس الحدود بين سوريا والعراق، خلقت هذه القوى لا سيما تنظيم “الدولة الإسلامية” العنصر الأساسي في الخلافة – قوة عابرة للحدود، أو بدقة أكثر، واحدة تتجاوز الحدود.
أصبحت الإستراتيجية الأميركية تغييراً بلا حدود أكثر تعقيداً من سياسة الرئيس رونالد ريغان في ثمانينات القرن الفائت: السماح للقوات المتحاربة أن تتحارب. حوّل تنظيم “الدولة الإسلامية” المعركة إلى حرب على الشيعة وعلى الدول القومية الراسخة. وتحيط بالمنطقة أربع قوى رئيسية هي: إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا. كل دولة قاربت الوضع بشكل مختلف. كلٌّ من هذه الدول لديها فصائل داخلية، إلا أن كل دولة كانت قادرة على العمل على الرغم من ذلك. بعبارة أخرى، ثلاث منها هي قوى غير عربية، وقوة عربية واحدة، المملكة العربية السعودية، ربما كانت الأكثر قلقاً بشأن التهديدات الداخلية.
بالنسبة إلى إيران، إن خطر “الدولة الإسلامية” هو أنه يعيد حكومة فعّالة إلى بغداد يمكنها أن تهدّد إيران مرة أخرى. وهكذا، فقد حافظت طهران على دعم الشيعة العراقيين وحكومة الأسد، في حين تحاول الحد من سلطة الأسد.
بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، التي تحالفت مع قوى راديكالية سنية في الماضي، يمثل تنظيم “الدولة الإسلامية” تهديداً وجودياً. إن دعوته إلى حركة إسلامية عبر الوطنية لديها القدرة على إيجاد من يصغي إليها لدى السعوديين من التقليد الوهابي. إن الرياض، جنباً إلى جنب مع بعض أعضاء مجلس التعاون الخليجي الأخرى، والأردن، تخاف من تنظيم “الدولة الإسلامية” العابر للحدود الوطنية، ولكن أيضاً من القوة الشيعية في العراق وسوريا. تحتاج السعودية إلى إحتواء “الدولة الإسلامية” من دون أن تتخلى عن الأرض للشيعة.
بالنسبة إلى الإسرائيليين، فإن الوضع كان ممتازاً ومرعباً في وقت واحد. فقد كان ممتازاً لأنه حرّض أعداء إسرائيل ضد بعضهم البعض. دعمت حكومة الأسد في الماضي “حزب الله” ضد إسرائيل. ويمثل تنظيم “الدولة الإسلامية” تهديداً في المدى الطويل لإسرائيل. طالما هم يتقاتلون، سيتعزز أمن إسرائيل. المشكلة هي أنه في النهاية سوف يفوز فريق في سوريا، وبأن ذلك الفريق قد يكون أكثر خطورة من أي شيء قبل ذلك، وخصوصاً إذا إنتشرت إيديولوجية “الدولة الإسلامية” إلى فلسطين. في نهاية المطاف، إن الأسد هو أقل خطورة من تنظيم “الدولة الإسلامية”، مما يشير إلى مدى سوء الإختيار الإسرائيلي في المدى الطويل.
إن الأتراك — أو على الأقل الحكومة التركية التي تعرّضت لإنتكاسة في الإنتخابات البرلمانية أخيراً– هم أصعب على الفهم. فهم معادون لحكومة الأسد – لدرجة أنهم يرون تنظيم “الدولة الإسلامية” على أنه أقل تهديداً. هناك طريقتان لشرح وجهة نظرهم: واحدة هي أنهم يتوقعون من أن يُهزَم “الدولة الإسلامية” من قبل الولايات المتحدة في النهاية وهذا التورط في سوريا من شأنه أن يؤكد النظام السياسي التركي. والآخر هو أنهم قد يكونون أقل نفوراً من الآخرين في المنطقة لإنتصار “الدولة الإسلامية”. في حين أن الحكومة التركية قد نفت بشدة هذه الإتهامات والإشاعات عن دعمها لبعض فصائل “الدولة الإسلامية” التي لا تزال مستمرة، فإن الشكوك في العواصم الغربية ما زالت قائمة، وشحنات الأسلحة المزعومة إلى أطراف غير معروفة في سوريا من قبل وكالة الإستخبارات التركية كانت موضوعاً مهيمناً في الإنتخابات التركية. الواقع إن هذا غير مفهوم، إلّا إذا كان الأتراك يرون “الدولة الإسلامية” كحركة يستطيعون السيطرة عليها في النهاية وهذا سيمهّد الطريق أمام النفوذ التركي في المنطقة – أو إلّا إذا كان الأتراك يعتقدون أن المواجهة المباشرة من شأنها أن تؤدي إلى رد فعل عنيف من “الدولة الإسلامية” في تركيا نفسها.

دور “الدولة الإسلامية” في المنطقة

يمثل تنظيم “الدولة الإسلامية” إستمراراً منطقياً لتنظيم “القاعدة”، الذي أثار على حد سواء إحساساً بالقوة الإسلامية وشكّل أو صوّر الولايات المتحدة كتهديد للإسلام. أنشأ “الدولة الإسلامية” إطاراً عسكرياً وسياسياً لإستغلال الوضع الذي أنشأه تنظيم “القاعدة”. وكانت عملياته العسكرية مثيرة للإعجاب، بدءاً من إستيلائه على الموصل إلى أخذ الرمادي وتدمر. إن مرونة مقاتلي “الدولة الإسلامية” في ساحة المعركة والقدرة على توفير أعداد كبيرة من القوات في القتال تثير السؤال: من أين يحصلون على الموارد والتدريب؟
ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من مقاتلي “الدولة الإسلامية” ما زال محاصراً داخل مرجله، وتحيط به ثلاث قوى معادية ولغز. القوى المعادية تتعاون، ولكنها تتنافس أيضاً. الإسرائيليون والسعوديون يتحدثون. هذا ليس جديداً، ولكن بالنسبة إلى كلا الجانبين هناك حاجة ملحة الأن لم تكن موجودة في الماضي. البرنامج النووي الإيراني هو أقل أهمية للأميركيين من التعاون مع إيران ضد “الدولة الإسلامية”. وقد بنى السعوديون ودول الخليج الأخرى قدرة جوية عسكرية إستخددمت في اليمن والتي يمكن إستخدامها في أي مكان آخر إذا لزم الأمر.
من المرجح أن يبقى المرجل، طالما أن السعوديين قادرون على الحفاظ على الإستقرار السياسي الداخلي. ولكن تنظيم “الدولة الإسلامية” قد إنتشر فعلياً خارج المرجل – في ليبيا، على سبيل المثال. إفترض الكثيرون أن هذه القوات هي “الدولة الإسلامية” في الاسم فقط – إمتياز (فرانشايز)، إذا صح التعبير. ولكن “الدولة الإسلامية” لا يتصرف مثل تنظيم “القاعدة”. إنه يريد صراحة إنشاء خلافة، وهذه الرغبة ينبغي عدم رفضها أو نبذها. على أقل تقدير، إنه يعمل مع ذلك النوع من القيادة والسيطرة المركزية، على المستوى الإستراتيجي، الأمر الذي يجعله أكثر فعالية من القوات غير الحكومية الأخرى التي شهدناها.
يبدو أن العلمانية في العالم الإسلامي في تراجع نهائي. المستويان من الصراع في داخل هذا العالم هما، في الجزء العلوي، السنّة ضد الشيعة، وفي القاعدة، فصائل معقّدة ومتفاعلة. لقد قبل العالم الغربي الحلول مكان العثمانيين للهيمنة على المنطقة ومارسها عليها لمدة قرن تقريباً. الآن، تفتقر القوى الغربية الرئيسية إلى القوة لتهدئة الأوضاع في العالم الإسلامي. إن تهدئة مليار شخص هو أبعد من قدرة أي دولة. وقد إتخذ “الدولة الإسلامية” فكر تنظيم “القاعدة” ويحاول إضفاء الطابع المؤسسي عليه. الدول المحيطة لديها خيارات محدودة ورغبة محدودة للتعاون. ومن جهتها تفتقرالقوة العالمية إلى الموارد اللازمة على حد سواء لهزيمة “الدولة الإسلامية” والسيطرة على التمرد الذي سيتبع. دول أخرى، مثل روسيا، تشعر بالقلق من خلال إنتشار “الدولة الإسلامية” بين المسلمين من سكانها.
ومن المثير للإهتمام الإشارة إلى أن سقوط الإتحاد السوفياتي حرّك الأحداث التي نشهدها هنا. ومن المثير للإهتمام أيضاً أن نلاحظ أن الهزيمة الواضحة لتنظيم “القاعدة” فتحت الباب لخليفته المنطقي، تنظيم “الدولة الإسلامية”. والسؤال الذي يطرح نفسه، إذن، هو ما إذا كانت القوى الإقليمية الأربع يمكنها وتريد السيطرة على “الدولة الإسلامية”. وفي قلب هذا السؤال هو اللغز عن ماذا ستفعل تركيا، لا سيما فيما قوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تبدو أنها تنخفض.

• جورج فريدمان هو رئيس “ستراتفور”، وهي الشركة الأميركية التي أسسها في العام 1996 التي هي الآن رائدة في مجال الإستخبارات والمعلومات العالمية.
• كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وقد عرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى