هل تُعلَن “الدولة العلوية” مجدداً في بلاد الشام؟

بعد خسارة نظام الرئيس بشار الأسد لمعظم الأراضي السورية لصالح تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”فتح الإسلام” الذي تسيطر عليه”جبهة النصرة”، و”الجيش السوري الحر”، بدأ خبراء يتوقعون بأن يسعى النظام في نهاية الأمر إلى العمل على إعادة خلق “الدولة العلوية”. والمعروف أنه كان تم إنشاء “دولة علوية”، شملت إسكندرونة، في 29 أيلول (سبتمبر) 1923، وسُمِّيت لاحقاً في 22 أيلول (سبتمبر) 1930 سنجق اللاذقية والذي كانت الأخيرة عاصمته. كان الكيان يُحكم بشكل مستقل في ظل الإنتداب الفرنسي بين 1920 و1930 وكجمهورية بين 1930 و1936. ولكن هل هذا قيد التنفيذ حقاً؟ وما هو وضع وموقف العلويين في هذه الأزمة؟

الرئيس بشار الأسد: فضل التعامل مع التجار على حساب العلويين
الرئيس بشار الأسد: فضل التعامل مع التجار على حساب العلويين

دمشق – محمد الحلبي

“العلويون إلى القبر والمسيحيون إلى بيروت!”، هذا الشعار المُقلق رُدِّد خلال الإنتفاضة ضد نظام الرئيس بشار الأسد في ربيع 2011؛ من كان وراء هذا الهتاف؟ سؤالٌ يبقى مثيراً للجدل. من جهتها أعلنت المعارضة السورية أن من كتب الشعار كانوا أفراداً من أجهزة المخابرات السورية الذين تسلّلوا إلى المظاهرات. ووفقاً لهذا الرأي، فإن عملاء الحكومة السورية كانوا يسعون إلى التصوير ونشر الإعتقاد بأن دافع المعارضة الأساسي طائفي وأن السلفيين يسيطرون عليها وذلك من أجل تخويف الأقليات وأولئك الذين يرغبون في العيش في سوريا العلمانية.
الواقع إنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الهتافات المضادة للعلويين هي نتيجة تدخل أجهزة الإستخبارات أو كانت تعبّر عن المشاعر التي يحملها جزء من المعارضة السورية. ولكن مما لا شك فيه هو أن سوريا منذ ذلك الحين طغت عليها حرب أهلية بين السنة والعلويين، وأصبحت تلك الأقليات الأخرى ضحايا الجانبيين. إن وقوع سوريا في صراع بين الطوائف يشبه الحرب الأهلية اللبنانية، وفي الآونة الأخيرة، التفتت العرقي الطائفي في العراق.

الأصول

ولدت العقيدة العلوية أو “النصيرية” (تيمناً بإسم مؤسسها محمد بن نصير) في العراق في القرن الحادي عشر. ومثل كل الشيعة، يقدّس العلويون الإمام علي. وتُعتبر طائفتهم من الشيعة الجعفرية الإثني عشرية، حيث تتميز عن بقية الإثني عشرية بإيمانها بالدعوة الباطنية، وهي سرية تعليم وممارسة العبادة، والتي يرى العلويون أنها نشأت عندهم لأسباب سياسية غير دينية، وذلك لحمايتهم في ظل الأخطار المحيطة. ويميّزهم الإيمان بكون محمد بن نصير النميري أحد نواب الإمام المهدي في فترة الغيبة الصغرى، في حين يُجمِع سواهم من الإثني عشرية على كونه مدّعياً منحرفاً. ويضاف إلى ذلك عدم إعتماد العلويين على نظام المرجعيات الدينية (الذي يعد أساسياً عند سواهم)، وكذلك وجود القليل من الكتب في الفقه والحديث تميّز هذه الطائفة. وهي تعتمد بشكل أساسي على الكتب الشيعية وعلى رأسها الكتب الأربعة ومصنّفات أخرى كثيرة يشتركون فيها مع بقية الاثني عشرية. وبسبب سرية هذه الفرقة فقد وُجِّه إليها زخم كبير من الإتهامات تاريخياً؛ فوصفها بعض الشيعة بالغلو، ووصفها أهل السنة بأنها فرقة تستر وتخبّىء عقائد باطنية كفرية. ويتواجد العلويون اليوم في الجبال الساحلية السورية، ويختلفون عن علويي المغرب والزيديين في اليمن أو تركيا.
وقد ساهمت هذه العقيدة وسرية الدين، فضلاً عن عدم إستخدام العلويين للمساجد والتسامح بشأن الكحول، وحقيقة أن النساء العلويات غير مُحجَّبات، إلى إنتشار أساطير تحقير بحقهم. في الماضي، أدان بعض علماء أهل السنة العلويين، مثل ابن تيمية، الذي أعلن في فتوى شهيرة قضت “بأن النصيريين كانوا كافرين حتى أكثر من المُشرِكين وأعلن الجهاد القانوني ضدهم”. وقد إعتُرف بالعلويين رسمياً بأنهم مسلمون في تموز (يوليو) 1936 بفضل الفتوى التي أصدرها مفتي فلسطين في حينه، الإمام الحاج أمين الحسيني. وفي العام 1973، أعلن الإمام موسى الصدر، زعيم الطائفة الشيعية في لبنان، بفعل الضغوط التي مارسها عليه الرئيس حافظ الأسد، بأن طائفة العلويين هي رسمياً جزء من المجتمع الشيعي. ومع ذلك، لم تُقنِع هاتان الشهادتان “الإسلاميتان” البعض بوجوب وجود العلويين في “دار الإسلام”، ناهيك عن حكم سوريا.

kk2

سكان مدينة يعملون من أجل الدولة

يبلغ عدد العلويين نحو 10 في المئة من سكان سوريا (2،300،000 نسمة)، مقارنة مع 15 في المئة في العام 1980. وهم يقطنون أساساً في المنطقة الساحلية، وطنهم الأصلي، ولكن كثيرين منهم أيضاً يعيشون في دمشق، حيث جاؤوا بأعداد كبيرة منذ ثورة البعث في العام 1963 للإنضمام الى الجيش أو العمل في الخدمة المدنية. كما أن هناك أيضاً مجتمعات علوية في الريف الشرقي من حمص وحماه حيث أنه في القرن التاسع عشر أُجبر العديد منهم على مغادرة المنطقة الساحلية المكتظّة للعمل كمزارعين في العقارات الجديدة التي أنشأها ملّاك الأراضي الداخلية.
حتى حلول الإنتداب الفرنسي (1920-1945)، واقعياً لم يكن هناك علويون يعيشون في المناطق الحضرية. مع ذلك، فقد إنتقلوا منذ ذلك الحين إلى المدن وأصبحوا سكاناً في المناطق الحضرية، كما غيرهم من السوريين، وصارت دمشق الآن المدينة العلوية الرائدة في سوريا. يمثّل العلويون غالبية السكان في المدن الساحلية مثل جبلة، طرطوس، بانياس، واللاذقية – أكبر مدينة ساحلية والميناء الرئيسي في سوريا. أما حمص، ثالث أكبر مدينة في البلاد، فتسكنها أقلية علوية كبيرة، تشكل نحو 25 في المئة من السكان. ومع ذلك، فقد إنخفض عدد المجتمع العلوي في حلب بسبب إستهداف أعضائه خلال إنتفاضة “الإخوان المسلمين” في أوائل ثمانينات القرن الفائت. وغادر كثيرون من العلويين، بمن في ذلك عدد كبير من القرويين من ريف إدلب، إلى اللاذقية في ذلك الوقت. وقد عاد هذا النمط عينه من الهجرة إلى الظهور منذ بداية الحرب الأهلية الدائرة.
إن الهجرة الناجمة عن المجاعة في القرن التاسع عشر قد أدّت أيضاً إلى إنتقال العلويين للإستقرار في سنجق الإسكندرونة وعلى سهل أضنة في تركيا. في العام 1939، كان العلويون يشكّلون نحو 40 في المئة من سكان محافظة الإسكندرونة. مع ذلك، فإن العلاقات بين العلويين في تركيا والعلويين في سوريا محدودة. لقد تمّ كسر روابط المجتمع من خلال سياسة “التتريك” وإغلاق الحدود السورية – التركية لعقود طويلة. كما بدأ العلويون الهجرة إلى شمال لبنان في القرن التاسع عشر، وهو إتجاه تسارع بين عامي 1950 و1960. في طرابلس يتركّز السكان العلويين في منطقة جبل محسن.
وفي العام 2005، أدّى إنسحاب الجيش السوري من لبنان إلى تجدد القتال في تلك المدينة بين الحي السني في باب التبانة وجبل محسن، وتستمر الإشتباكات بشكل متقطع بين هذه المجتمعات في الحرب الأهلية السورية المتمدّدة الحالية.
التراجع النسبي للسكان العلويين في سوريا منذ ثمانينات القرن الفائت يعود للتحوّل الديموغرافي المتسارع الذي عانت منه جميع الأقليات — العلوية، المسيحية، الدرزية، والإسماعيلية. في 2011، إنخفض عدد السكان غير السنة في سوريا إلى نحو 20 في المئة، مقارنة مع 30 في المئة في العام 1980. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تحسين وضع النساء وسهولة وصولهن إلى التعليم وإدماجهن في الحياة المهنية. قبل خمسين عاماً، عندما كان يشهد العلويون إرتفاعاً في معدّلات الفقر والأمّية، كان معدل الخصوبة لديهم أيضاً عالياً، ولكنه إنخفض بشكل حاد فيما تحسّنت أحوالهم المعيشية وزادت فرص الحصول على التعليم والوظائف الإدارية. وعلاوة على ذلك، فإن العلويين، على عكس أهل السنة، ليسوا مجبرين أن ينجبوا ذكوراً فقط. وفي حين أن معدل الخصوبة لديهم قد إنخفض، فإن معدل الإنجاب لدى نظرائهم السنة بقي فوق ثلاثة أطفال لكل امرأة، حتى في الطبقات الإجتماعية العليا. هذا التراجع الديموغرافي تحدّى علاقات القوة داخل المجتمع السوري. مع مرور الزمن، على سبيل المثال، إنخفضت نسبة العلويين في الجيش وأجهزة الإستخبارات. وفي الوقت الذي بدأت الحرب الأهلية، كان السنة يشكّلون غالبية الجنود في الجيش السوري، على الرغم من أن العلويين إحتفظوا بحصة كبيرة غير متناسبة من الوظائف التي يشغلها كبار الضباط. مع ذلك، منذ بداية الصراع تغيّرت تركيبة الجيش، وصار العلويون الغالبية على جميع المستويات. هذا هو السبب الذي جعل من الصعب جداً على الجيش السوري هزيمة المتمرّدين ولماذا صار نظام الأسد يعتمد بشكل كبير على دعم “حزب الله” وإيران والميليشيات العراقية الشيعية. والواقع أن المجتمع العلوي غير قادر على توفير ما يكفي من الجنود للقتال ضد المتمردين الكثر القادمين من الخارج أو من السكان السنة الذين يشكّلون الأكثرية في البلاد.

أثر الحرب الأهلية في المجتمع العلوي

يتمتع العلويون بإمتياز الوصول إلى التوظيف في الدولة وذلك بفضل إندماجهم في عمق شبكات السلطة السورية. وقد تسبب التمييز الواضح في التوظيف في القطاع العام بالإحباط في أوساط أهل السنة، ولكن حقيقة أن العلويين كانوا عادة أكثر ضماناً للحصول على وظائف رسمية، فإن ذلك لا يعني أن لديهم مستوى أعلى من المعيشة لأن رواتب موظفي الحكومة منخفضة نسبياً. لقد إستخدم حافظ الأسد المجتمع العلوي لبناء نظامه السياسي، لكنه لم يسعَ إلى تحقيق الرخاء والرفاهية للعلويين لأنه كان يعرف أن ولاءهم للنظام يستند في معظمه على التبعية الإقتصادية.
ظهرت طبقة وسطى علوية مع نمو الخدمة المدنية، وعلى مدى العقد الفائت أدّى تجميد التوظيف في القطاع العام إلى التأثير في المجتمع العلوي أقل من أي فئة أخرى لأن العلويين محميون من نظام المحسوبية السياسية. ولكن تجميد التوظيف أدى إلى إرتفاع معدل البطالة بين الشباب العلوي في المنطقة الساحلية الأمر الذي كانت له عواقب سياسية وخيمة على بشار الأسد، لأن أكثر من 80٪ من المجتمع العلوي يعمل لصالح الدولة. في الواقع، منذ وصوله إلى السلطة، دعم بشار المجتمع العلوي أقل من والده، لأنه إعتبره أنه سيكون لزام عليهم دعمه على أي حال من أجل الحفاظ على إمتيازاتهم. بدلاً من ذلك، جعل الأولوية لإدماج النخب الإقتصادية السنية والمسيحية في دائرته الداخلية حيث تبادل معها فوائد التحرير الإقتصادي.
لم يُقدِّم المجتمع العلوي دائماً دعمه الكامل للنظام. في ثمانينات القرن الفائت، جذبت حركة المعارضة الماركسية الرئيسية، “حزب العمل الشيوعي”، العديد من الشبان العلويين. في الثورة المستمرة، لم تستطع الإحتجاجات الضخمة ضد النظام تعبئة المجتمع العلوي، ولكن إنضم بعض العلويين إلى المظاهرات، كما ضمّت المعارضة العديد من الشخصيات العلوية (مثل عارف دليلة، وهو أكاديمي قضى 10 سنين في السجن لإنتقاده الحكومة). مع ذلك، في آذار (مارس) 2011، عندما بدأت المظاهرات في بانياس، لم تدعم الغالبية العظمى من العلويين أئمة السنة، الذين كانوا يسألون عن المدارس ذات الجنس الواحد لإعادة التوازن المجتمعي للتوظيف في القطاع العام “الذي صادره العلويون”.
من ناحية أخرى لم تؤدِّ الإحتجاجات في المنطقة الساحلية إلى تصعيد العنف، كما حدث في حمص، لأن الجيوب السنية المتمرّدة هناك سيطر عليها الجيش بسرعة. وقد وجدت الإحتجاجات أرضاً خصبة في حمص لأن العلويين يمثلون أقلية من سكان المدينة والمناطق الريفية المحيطة بها. في ربيع 2011، كان التوتر في حمص بين المجتمعات واضحاً. لقد رفضت سيارات الأجرة نقل الركاب من المناطق السنية إلى مناطق العلويين، وإنتشرت الإشتباكات على طول الحدود بين هذه المناطق. كما تم الإبلاغ عن عمليات خطف وإغتيالات لأسباب دينية. تم إستهداف الأحياء العلوية برصاص القناصة وقذائف الهاون من المناطق السنية المتمردة. وقارن العديد من المراقبين أعمال العنف الجارية في حمص مع تفكك بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.
وقد أجبر النزاع مئات الآلاف من الناس على الهجرة، وعادت عائلات علوية كثيرة إلى قراها في سلسلة الجبال الساحلية. وقد إستقر الفارين من العائلات المسيحية في المنتجعات الساحلية كمشتى الحلو وكفرون – قرب طرطوس- على الرغم من أن الرجال المسيحيين واصلوا العمل في حمص. كما أن العلويين في دمشق لم يتركوا إلى الساحل لأن معظمهم يعيش بعيداً من مناطق التمرد (مثل دوما) ومن معسكرات الجيش في الضواحي. ولكن إذا سقط النظام، فإن المنطقة الساحلية يمكن أن تصبح ملاذاً لمئات الآلاف من العلويين الذين سيهربون من دمشق ومن تطهير الجيش والإدارة الذي من المرجح أن يتبع – والأمر يختلف هنا عمّا تعرّض له أهل السنة في العراق بعد سقوط صدام حسين.

kk3

إنقسام العلويين

مع تقهقر قوات النظام أمام “داعش” وأخواته بدأت علامات التوتر تتزايد داخل الدوائر المقرّبة من بشار الأسد حيث ظهرت لأول مرة في آب (أغسطس) 2014 عندما دعا إبن عم الرئيس، دريد الأسد، إلى إستقالة وزير الدفاع السوري فهد جاسم الفريج، وذلك بعدما أعدم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) حوالي 120 جندياً سورياً في القاعدة الجوية في مدينة الطبقة. ووفقاً لوسائل الإعلام الحكومية، إستقال إبن خال الرئيس، حافظ مخلوف، رئيس الإستخبارات في دمشق، “طوعاً” من منصبه. وفي الوقت عينه، وصف الناشطون العلويون على طول المنطقة الساحلية للبلاد فهد جاسم الفريج بـ”وزير الموت” في حملة “صرخة ضد الأسد” التي إحتجوا فيها على عدد الوفيات المرتفع بين العلويين منذ بداية النزاع. وفي الشهر نفسه، إعتُقِل محامٍ موالٍ للنظام بعد إطلاقه “هاشتاغ” على موقع “تويتر” بعنوان “وَينن” للسؤال عن أسماء حوالي 120 جندياً من الجنود الذين تحتجزهم “داعش” أسرى لديها. ويدعو الناشطون العلويون على نحو متزايد إلى تغيير النظام، وذلك كما لوحظ في بيان صدر أخيراً عن جماعة تطلق على نفسها إسم “مجمع العلويين السوري”.
إن الإنقسام في مجتمع الطائفة العلوية ليس بالأمر الجديد، إذ يعكس مفعولاً رجعياً لمحسوبية الأسد تجاه ما يُسمى عشيرة الكلازية التي تنتمي عائلته إليها. فقد تمت حماية هذه العشيرة في محيطها الساحلي من أعباء الحرب في حين أُجبرت المجتمعات العلوية الأخرى مثل العشيرة الحيدرية على الخروج إلى الخطوط الأمامية ومحاربة المعارضة السورية. ويؤكد هذا الإستياء على التوترات الكامنة بين مختلف فئات المجتمع العلوي: فعائلات المسؤولين الحكوميين تعيش في ترف فيما تناضل الأسر من باقي المجتمع لإطعام أطفالها. كما يتمتع العلويون الذين يعيشون في العاصمة بروابط أكبر مع عائلة الأسد ويستفيدون بالتالي من المزيد من الإمتيازات ومن إمكانية الوصول إلى السلطة. وفي المقابل، إن أي مزارع أو صاحب متجر صغير عادي من المقيمين في جبال اللاذقية أو حتى في القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد، لا يتمتع بالكثير من النفوذ السياسي إلا إذا كان أحد أفراد أسرته يعمل لحساب النظام.
ومن المفارقة أن العلويين الذين عاشوا في دمشق لسنوات عديدة يميلون إلى التعريف عن أنفسهم كدمشقيين، إلا حين يكون من الضروري أو المفيد الإشارة إلى علاقتهم المتميّزة بالنخبة السياسية، إذ تمنحهم علاقات مماثلة فرصاً للحصول على خدمات قيّمة وعلى حرية أكبر في بعض الأحيان للتهرب من قوانين وقواعد البلاد، حتى تلك التي يحميها الدستور. وغالباً ما يكون كافياً التحدث باللهجة العلوية أو إدّعاء التحدث بها، بإعتبارها لهجة السلطة، في شوارع دمشق للإفلات فعلياً من أي عمل ولتخويف غير العلويين وإجبارهم على الخضوع.
ويظهر التقسيم الإجتماعي الإقتصادي واضحاً للغاية في المنطقة الجبلية في محافظة اللاذقية، إذ يمكن ملاحظة الفقر المدقع والثراء الفاحش في حي واحد، بما في ذلك مدينة القرداحة. وقد كان أفراد عشيرة الأسد وأصدقاؤهم وحلفاؤهم معروفين بالتفاخر بالفلل (الفيلات) والدراجات النارية والسيارات الفاخرة، التي غالباً ما كانت من دون لوحات، في إشارة إلى أنه تم تهريبها إلى داخل البلاد. وفيما كانوا يقودون هذه السيارات أمام الأطفال الحفاة الذين يعيشون في بيوت صغيرة مصنوعة من الطين ذات خدمات كهربائية ومياه رديئة، كانت هذه القلة من المحظوظين تتصرف مثل “الملوك”. أما اليوم، فإن هؤلاء القرويين المتواضعين هم الذين يدفعون ثمن الحرب الباهظ، فيما تستخدم حكومة الأسد أبناءهم وبناتهم كدروع بشرية في الخطوط الأمامية. وهم أيضاً الذين يثورون على النظام، ولكنهم في الوقت نفسه يفتقرون إلى القوة. في الواقع، إن الصور المُسرَّبة عن ضحايا التعذيب في سوريا، التي سُلِّمت خلسة إلى “متحف ذكرى الهولوكوست” في الولايات المتحدة من قبل عضو في الجيش السوري معروف بإسم “قيصر”، تُشكّل دليلاً أساسياً على أن أعضاء المجتمع العلوي هم أيضاً ضحايا وحشية الأسد.
بيد أن ظهور إنقسام داخل مجتمع الطائفة العلوية ما بين مؤيدين ومعارضين للأسد ليس بالضرورة عبارة عن نبأ جيّد بالنسبة إلى المعارضة السورية. على سبيل المثال، في خلال المظاهرات الأخيرة التي شهدتها محافظة طرطوس، دعا المحتجون العلويون إلى إسقاط المعارضة السورية والرئيس الأسد على حد سواء. كما يبدو من غير المرجح قيام إنقلاب عسكري ضد الأسد لأن البعض يفترض أنه، مع تزايد الإستياء في محيط الأسد الداخلي، فقد دبّر الإغتيالات التي وقعت في العام 2012 والتي شملت أعضاء خلية السيطرة على الأزمات الخاصة به، ومن ضمنهم صهره آصف شوكت.

kk4

مستقبل العلويين في سوريا؟

لقرون عدة، عاش العلويون في الجبال الساحلية وخرجوا من هناك فقط للعمل والإرتزاق كعمال لدى ملّاك الأراضي في اللاذقية وحمص وحماه وطرابلس (لبنان). لكن صعود حافظ الأسد إلى السلطة قدّم للمجتمع العلوي فرصة للترقّي. وحتى لو تمّ تغيير السياق الإقتصادي والسياسي منذ أيام إبن تيمية، فإن عملية “إعادة الأسلمة” الجارية حالياً داخل المجتمع السوري تثير مخاوف المجتمع العلوي، وخصوصاً منذ أن هيمن على المعارضة العسكرية تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”جبهة “النصرة”.
إذا تمت الإطاحة بنظام بشار الأسد، فمن المتوقع أن يختار العلويون تقسيم الأراضي والبلاد. ويمكن إعادة بناء الدولة العلوية السابقة التي تم إنشاؤها بين عامي 1920 و1936 من قبل فرنسا في المنطقة الساحلية، على الرغم من أن الدعم الخارجي الآن سيأتي من روسيا وايران.
لقد بدأ التمرد السوري للأسباب عينها التي أشعلت الثورة في تونس ومصر، ولكن أي مقارنة تتوقف هنا، إذ أننا نواجه في بلاد الشام الآن حرباً أهلية طائفية لا تشبه ما تكشّفت عنه الإنتفاضات في البلدين العربيين -الإفريقيين. وفقاً للمعارضة في المنفى، إن نظام بشار الأسد تلاعب على مخاوف الأقليات لتقسيم التمرد وبدء الحرب الأهلية الطائفية الجارية. ومع ذلك، لا تعكس هذه الرواية حقيقة ما يتكشّف حالياً في سوريا. إن الحرب الأهلية اللبنانية تذكّرنا بمدى السرعة التي يمكن أن تسرق فيها الطائفية توجّهات الصراعات السياسية والدمار والمآسي والتهجير التي يمكن أن تحدثها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى