تلفزيونات لبنان في أزمة

من العادة عندما تكون هناك أحداث وحروب تنتعش محطات التلفزيون في العالم إخبارياً وإعلانياً، ولكن يبدو أن هذه القاعدة لا تسري على لبنان، بدليل أن محطاته الثماني تواجه تهديداً وجودياً. فلماذا كان هذا؟

تحسين خياط: يعمل جاهداً على خط قطر.
تحسين خياط: يعمل جاهداً على خط قطر.

بيروت – جوزف قرداحي

شهدت بيروت في الأسابيع المنصرمة أزمة كبرى بين رؤساء مجالس إدارة التلفزيونات اللبنانية وأصحاب كابلات توزيع الصحون اللاقطة، كادت أن تحرم اللبنانيين مشاهدة قنواتهم المحلية، بعدما حرمتهم الأزمات السياسية والأمنية والإقتصادية المتلاحقة، الكثير من المتطلبات التي تجعلهم يعيشون كمواطنين ينتمون إلى وطن يحكمه رجال دولة، وليس مزرعة يديرها تجار وسماسرة.
الأزمة بدأت تتفاعل وتأخذ منحاها التصاعدي، منذ أن بدأت المحطات الثماني اللبنانية تعاني الشحّ في مداخيلها الإعلانية، ولعل أكثرها تعرضاً للخسائر هي محطة المؤسسة اللبنانية للإرسال “أل بي سي” التي كانت تستأثر وحدها بمداخيل السوق الإعلانية، في وقت كانت تغرّد منفردة على أنقاض “تلفزيون لبنان” الرسمي، الذي صدر القرار النهائي بإعدامه في العام 2000 على يد وزير إعلام تلك الحقبة غازي العريضي، بإيعاز من الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي كان يخوض معركته الإنتخابية ويطمح إلى إسكات كل الأصوات التي تنشِّز عليه ومنها “تلفزيون لبنان” الذي كان الفريق السياسي المناوىء للحريري يستخدمه لشن حملة ترويجية ضد محدلته الإنتخابية التي إجتاحت كل القوى والزعامات التقليدية في بيروت وضواحيها، ولا سيما أنه كان يسعى إلى الإستئثار بجمهور التلفزيون الرسمي لصالح تلفزيون “المستقبل” الذي كان هو الآخر يواجه منافسة شرسة أمام ال”أل بي سي”، للتأثير في جمهورها الواسع ومحاولة سحب سجادة المداخيل الإعلانية من تحت أقدام بيار الضاهر، عبر الإغراءات المالية لإستمالة أنطوان شويري صاحب “مجموعة شويري للإعلان”، والذي كان يعتبر أحد أباطرة الإعلانات في لبنان والعالم العربي، وخصوصاً بعد أن ضم إليه مجموعة “تهامة” السعودية.
كان الهواء التلفزيوني وعلى الرغم من غبار الحروب والأزمات والإغتيالات الذي يعكّر صفاءه، يدر على ال”أل بي سي” مداخيل خيالية كافية لتوسيع إستوديوهاتها، وتطوير معدّاتها، وتحسين مستوى إنتاجها الذي إرتقى إلى مستوى البرامج العالمية. وفي المقابل، أفرزت المحاصصات الطائفية إبتداءً من العام 1996 محطات تلفزيونية إلى جانب “المستقبل”، كانت تكتفي ذاتياً من التمويل السياسي الذي توفره بعض الدول او الجهات السياسية المدعومة منها. مثل تلفزيون “أن بي أن” التابع للرئيس نبيه بري، وتلفزيون “أم تي في” التابع لشقيق الرئيس ميشال المر، ثم لينشأ لاحقاً في العام 1998 تلفزيون “المنار” التابع لـ”حزب الله” ومن بعده تلفزيون “تيلي لوميير” الذي تشرف عليه البطريركية المارونية، ولينشأ في العام 2000 تلفزيون “الجديد” بعد صراع قضائي للفوز برخصة البث، وهو مموَّل ظاهرياً من رجل الأعمال تحسين خياط، الناشط بقوة في قطر والمقرّب من أهل الربط والقرار في الدوحة. ومع عودة العماد عون من منفاه الفرنسي في العام 2005، حصل “التيار الوطني الحر” على رخصة بث تلفزيوني على قاعدة المحاصصة السياسية والطائفية، حيث بدأ بثه التجريبي في العام 2006، وليتقاسم في ما بعد مع التلفزيونات الأخرى الجمهور اللبناني المتنوع الأذواق والإتجاهات السياسية، والمصطف طائفياً تبعاً لتحالفات زعمائه السياسية.
كانت الحصة من موازنة الإعلانات حتى ذلك التاريخ تكفي محطة ال”أل بي سي” قبل أن تتخبط في قضاياها القضائية مع الدكتور سمير جعجع العائد إلى نشاطه السياسي بعد أحد عشر عاماً من الإعتقال في سجن وزارة الدفاع ، وبالتالي قبل أن تدخل هذه المحطة في صفقات مالية مع الوليد بن طلال، أسفرت عن المزيد من الخيبات بعدما تبين أن أموال الأمير السعودي ليست أكثر من ودائع في سوق المراهنات على شاشات البورصة العالمية، قد يلجأ إلى بيعها في أي لحظة تلوح أمامه فرصة الأرباح الطائلة، الأمر الذي تسبب في خسارة مئات الموظفين وظائفهم بلمحة بصر، جراء تصفية شركة “باك” بطريقة غامضة ومن دون أية تعويضات.
في المقابل، كانت الصفقات على مستوى التلفزيون الرسمي قائمة على قدم وساق، حين صدر مرسوم إعادة تنظيم شركة “تلفزيون لبنان” في العام 2002، وأخذت الزعامات السياسية تتقاسم قالب الجبنة في أروقة هذا التلفزيون المنكوب على قاعدة الإنتفاع والمحسوبيات. فتم تعيين أكثر من ثلاثمئة موظف ينتمون إلى تلك الزعامات والأحزاب، الأمر الذي أغرق “تلفزيون لبنان” بمزيد من الإنهيار إلى درجة أنه خسر كل جمهوره المتبقي من زمنه المجيد، وليزداد عجزه المادي تفاقماً أمام إحتكار السوق الإعلانية للتلفزيونات الباقية.
بقي التنافس على أشده ما بين تلفزيوني “المستقبل” و”أل بي سي” حتى العام 2005، وتحديداً يوم إستشهاد الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط (فبراير)، فكان الموظفون في قناة “المستقبل” محل حسد زملائهم في باقي المحطات المحلية، بسبب ما كان يُشاع عن رواتب مغرية يوفرها لهم الحريري، فضلاً عن الكثير من الحوافز والمكافأات. وذلك طبعاً من دون أن ننسى دور المدير التنفيذي لتلفزيون “المستقبل” في ذلك الحين علي جابر، وقبل إنتقاله في وقت لاحق إلى إدارة قناة “دبي” ثم رئيساً لكلية الإعلام في دبي، ثم مديراً عاماً لقنوات “أم بي سي”. فساهم جابر في تطوير البرامج وإدخال مؤثرات الغرافيكس على البث اليومي وبمواصفات تلتقي مع التلفزيونات العالمية، الأمر الذي حفز تلفزيون ال”أل بي سي” الأعرق تجربة وخبرة، لكي يستقدم إليه خبرات جديدة في عالم التقنيات الجديدة، وبالتالي تدريب فريقه المتمكن على تفكيك أكثر البرامج تعقيداً في عالم الغرافيكس. إنه بيار الضاهر، العقل المدبر لكل نجاحات ال”أل بي سي” منذ رؤيتها النور في العام 1985 على يد الشعبة الخامسة في “القوات اللبنانية” برئاسة د. سمير جعجع وإشراف كريم بقرادوني.
أدى إستشهاد الرئيس الحريري في العام 2005، إلى إختلال البنية التحتية لتلفزيون “المستقبل”، نتيجة إقالة أو إستقالة العديد من كادراته الأكفياء، بعد الخلل المالي في موازنته، والتي كان يكفلها ويحميها الرئيس الراحل. فبعد سلسلة من الإداريين، تولّى سمير حمود مقاليد إدارة “المستقبل”، بتكليف من الرئيس سعد الحريري الذي سلمه مفاتيح الحل والربط، وذلك في محاولة لإيقاف الهدر المالي في تلك المحطة التي لا مصدر مالياً لها سوى ما يوفره لها سعد الحريري من أمواله الخاصة، ومن بعض المساعدات السعودية التي بدأت تخف تدريجاً، نتيجة التراجع في أسعار النفط، والذي أثر سلباً في مستوى خزينة المملكة التي وجدت نفسها تلجأ إلى عصر النفقات. لكن الإستعانة بمهارة سمير حمود، أعطت نتيجة معاكسة لما كان يطمح إليه الحريري الإبن، وكان من نتائجها خلافه مع أبرز قيادات التلفزيون أمثال: عمر مشرفيّة مدير العمليّات، ليلى وهبي مديرة التسويق، عبدالفتاح أمهز المدير التقني، ديانا عرب مديرة الترويج، رينا قرانوح مديرة الغرافيكس، المنتجة منى صعيدون، المنتجة كريستين جمّال، والمخرج دافيد لطيف. الأمر الذي أدى إلى رحيل هؤلاء إلى محطات أخرى في دول الخليج إستفادت من خبراتهم.
وفي دراسة كان أعدّها الباحث أدهم صبري حول الإعلام وتأثيره في عصر الأنترنت، كشف أن إنحدار نسبة المشاهدة وفقدان التأثير من تلفزيون “المستقبل” ورحيل الكفاءات بديهيّا، أدى إلى تدهور مالي حقيقي وخطير تجسّد أولاً في توقف التلفزيون عن دفع مستحقات شركات الإنتاج التي تتعامل معه، مما أدّى إلى تخفيض إنتاجها لـ”المستقبل” ومن ثم التوقف كلياً عن الإنتاج ومطالبتها بالمال، أو العودة إلى أسلوب المقايضة بتأجير استديوهات “المستقبل” لشركات الإنتاج، بدلاً من دفع مستحقاتها، لتستغل البنية التحتية للتلفزيون لصالح فضائيّات أخرى مقابل شطب بعض الديون المتراكمة على “المستقبل” كبديل إستثمار معقول يعوضها بعض الخسائر.
ويلفت الباحث صبري إلى أنه منذ فرّط سمير حَمّود في كفاءات التلفزيون وهو في مأزق كبير: “إنه يدير مؤسسة إعلاميّة كبرى وعريقة وهو لا علاقة له بالإعلام من قريب أو بعيد ومن دون أي خبرة أو تجربة سابقة. يضاف إلى ذلك، أن التلفزيون وبعدما كان الرئيس الشهيد هو صاحب الرؤية والقرار الأخير لم يعد يعرف أحد مرجعيّة واحدة عليا تتعامل معها في صف الوراثة. الأمر الذي أدّى إلى البطء في اتخاذ القرارات الحاسمة، أو عدم اتخاذها على الإطلاق!
ويقول أحد المراقبين بأن الحالة التي وصل إليها تلفزيون “المستقبل” (وذلك بحسب إحدى الدراسات الصادرة أخيراً) بات يدفع ثمنها موظفو التلفزيون والمشاهد العربي واللبناني الذي تعلق بأيام مجد المحطة الذهبيّة. فالمشكلة الأكثر فداحة، أن ما من أحد في الإعلام اللبناني يتحدث عن هذه الأزمة وإمتدادتها، ولا أحد داخل التلفزيون أو خارجه يتحدث عن حلول.
في المقابل، تعيش أروقة التلفزيونات اللبنانية الأخرى مثل: “الجديد” و”أم تي في” و”أو تي في” وبصورة أخص القناة التي كانت شمسها تشرق ولا تغيب وأعني بها الـ”ال بي سي”، حالاً من الترقّب والقلق والتخبط المالي الذي ظهرت مؤشراته واضحة حين اتحدت إدارات تلك المحطات على الرغم من اختلافاتها العميقة، وشكلت تجمعاً يضم رؤساء مجالس إداراتها، لمواجهة الواقع المالي المتدهور، والتفتيش عن مصدر تمويل ثابت قد ينقذ هواءها من التبخر في خضم المنافسات الكبيرة التي تواجهها من جهات متعددة، وأهمها الفضائيات العربية بشكل رئيسي والتي تتمتع بقدرات إنتاجية خيالية، وبالتالي من وسائل التواصل عبر الأنترنت، التي جذبت إليها أكثر من سبعين في المئة من نسبة المشاهدين.
وفي هذا السياق يشير الباحث أدهم صبري في دراسته، إلى أن المحطة اللبنانية الأولى “أل بي سي” تودّع من دون رجعة الفترة الذهبية التي حظيت في خلالها بمتابعة من المشاهد الخليجي عموماً، والسعودي خصوصاً، بعيد إنطلاقتها الفضائية في العام 1996 بعدما ساهمت برامج جماهيرية وحوارية عديدة وعلى سبيل المثال لا الحصر كـ “الليلة ليلتك” و”ستار اكاديمي” و”حوار العمر” و”الحدث” و”الشاطر يحكي” “وستوديو الفن” وغيرها من البرامج الرائدة. وتتابع الدراسة إلى التأكيد على أن عوامل متعددة إجتمعت وساهمت في إنتشار “ال بي سي” اللبنانية السريع في السوق السعودية أبرزها توقيت خروجها المبكر الى الفضاء شبه الخالي من منافسة جديّة ، وتحالف الضاهر مع “قيصر” الإعلان الراحل انطوان الشويري الذي لعب دوراً أساسياً في إعطاء “ال بي سي” مجموعة عقود اعلانية ضخمة وتجيير علاقاته لصالحها ما خوّلها شراء مسلسلات وحقوق برامج عالمية عمدت القناة الى تعريبها وأعطتها دفعاً كبيراً على حساب المحطات المنافسة على ندرتها، وبالطبع الجرأة التي اتسمت بها البرامج اللبنانية المنوعة يضاف اليها عوامل نجاح داخلية، فقد كان يحيط بالضاهر فريق يضم نخبة من الاداريين والمتخصصين من ذوي الخبرة (بينهم الإعلامي الكبير إيلي صليبي) ومن انتماءات متعددة لبنانية وعربية إستطاع من خلالهم تأمين التوازن بحده الادنى بحيث أديرت عدد من الازمات بحنكة وحكمة جنبت المحطة السقطات الكبرى.
ولكن ما الذي تغيّر، لكي يلجأ الشيخ بيار الضاهر إلى لحس المبرد واللجوء إلى تهديد أصحاب الصحون اللاقطة وموزعي الكابلات الهوائية في لبنان، وفرض حصة مقتطعة عن كل مشترك تناهز الستة آلاف ليرة لبنانية، وإلا لجأ إلى خطوات تصعيدية مع تجمع رؤسات مجالس أدارة التلفزيونات في لبنان، التي قد تنتهي إلى قطع بث المحطات المحلية عن الهواء الفضائي، وبالتالي حرمان اللبناني المزيد من حقوقهم البديهية في زمن الفضائيات، وأقلها مشاهدة محطاتهم المحلية، بعدما حُرموا منها أرضياً نتيجة سعي أصحاب المحطات التلفزيونية إلى توفير مصاريف البث الأرضي الذي يحتاج إلى موازنات كبيرة، وفرتها عليهم الكابلات الفضائية.
في الخلاصة من المستفيد في حال وصلت جميع الحلول بين المحطات المحلية وموزعي الكابلات إلى حائط مسدود؟! في قراءة متأنية لما ورد أعلاه من حقائق وواقع خطير وصلت إليه حال الإعلام في لبنان، ندرك أن محطاتنا المحلية التي تزايد عددها عن الحجم المطلوب لجمهور لبناني لا يزيد عن الأربعة ملايين نسمة، تعيش هذه الأيام أزمة مصير من خلال علامات الاستفهام المطروحة في هذا المجال، مقابل إرتفاع مشاهدة قنوات أخرى فضائياً، تتمتع بكافة القدرات الإنتاجية الضخمة، من شأنها أن تتسبب في المزيد من إبتعاد المشاهد اللبناني عن قنواته العاجزة، وبالتالي قد تعيد خلط أوراق الكثير منها، للتفكير جدياً بالدمج في ما بينها، وتسخير قدراتها المالية في سبيل إعادة العصر الذهبي للإعلام اللبناني، وإن بأسماء مختلفة وكميات أقل، ولكن بنوعية عالية بالتأكيد!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى