إستبدال السياسة بالتجارة هل يعيد العلاقات بين إسرائيل وتركيا إلى سابق عهدها؟

بدأت العلاقات بين إسرائيل وتركيا في آذار (مارس) 1949 عندما أصبحت تركيا ثاني أكبر بلد ذات غالبية مسلمة (بعد إيران في العام 1948)، تعترف بدولة إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الدولة العبرية المورّد الرئيسي للسلاح لبلاد أتاتورك. وحققت حكومة البلدين تعاونًا مهمًا في المجالات العسكرية، والديبلوماسية، والإستراتيجية. كما يتفق البلدان حول الكثير من الاهتمامات المشتركة والقضايا التي تخص منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، يعاني الحوار الديبلوماسي بين البلدين الكثير من التوترات، والإنقطاع منذ أواخر العقد الفائت، فهل هناك من أمل لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه؟

رجب طيب أردوغان مع أرييل شارون: جاء ليكون وسيطاً للحل الفلسطيني
رجب طيب أردوغان مع أرييل شارون: جاء ليكون وسيطاً للحل الفلسطيني

أنقرة – محمد علي كمال

يكاد لا يمرّ أسبوع من دون أن تتبادل تركيا وإسرائيل بعض التعليقات اللاذعة أو الإهانات. من حهته يُبدي الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إزدراءً علنياً يومياً تقريباً من تل أبيب لحشد الدعم السياسي المحلي، على سبيل المثال، تأكيده على أن معاملة الدولة العبرية لقطاع غزة تفوق وحشية النظام النازي. إن الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. لقد شهدت تسعينات القرن الفائت ومعظم سنوات العقد المنصرم علاقات ديبلوماسية وسياسية حميمة بين إسرائيل وتركيا. ولكن في هذه الأيام يبدو أن هناك حالة من الجمود الديبلوماسي.
حتى مع ذلك، على الرغم من اللهجة القاسية ووقف التواصل الديبلوماسي على المستوى العالي، فقد نمت التجارة التركية -الإسرائيلية بنسبة 19 في المئة منذ العام 2009، في حين نمت التجارة الخارجية الإجمالية التركية في الفترة عينها بنسبة 11 في المئة. ولما كان من المرجح والمألوف بأن الدول التي تتمتع بعلاقات تجارية قوية لا تتصاعد بينها الصراعات إلى نقطة الدخول في حرب، فإن العلاقات التركية – الإسرائيلية الإقتصادية قد تكون إشارة إلى إحتمالات تحسين العلاقات الثنائية. مع التوقعات الإقتصادية والسياسية تبدو قاتمة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإن الخبراء والمراقبون يفيدون بأن الدولتين لهما أسباب أكثر من أي وقت مضى لحل الخلافات السياسية — أو على الأقل فصلها عن العلاقات الإقتصادية.

الإبتعاد عن إسرائيل

بدأت العلاقات الديبلوماسية بين تركيا وإسرائيل تتدهور في المنتدى الإقتصادي العالمي في كانون الثاني (يناير) 2009. في أثناء نقاش محتدم مع الرئيس الإسرائيلي في حينه شيمون بيريز حول الهجوم الإسرائيلي على غزة، إتّهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إسرائيل بالهمجية، قائلاً لبيريز: “عندما يتعلق الأمر بالقتل، أنتم تعرفون جيداً كيف تقتلون”. وفي أيار (مايو) 2010، هاجمت القوات الخاصة الإسرائيلية “مافي مرمرة”، سفينة المساعدات الإنسانية التركية التي حاولت كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، مما أسفر عن مقتل تسعة نشطاء أتراك على متن السفينة ودفع أنقرة إلى سحب سفيرها لدى إسرائيل. وساءت العلاقات بين البلدين أكثر في آب (أغسطس) 2013 عندما إتهم اردوغان إسرائيل بالضلوع في الإنقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس المصري السابق محمد مرسي. كما قال أردوغان في كانون الثاني (يناير) 2015 أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليس لديه الحق في المشاركة في مسيرة مكافحة الإرهاب في باريس بعد هجمات “تشارلي إيبدو” نظراً إلى الأنشطة الإسرائيلية في غزة. وقد أعاق دعم أردوغان ل”حماس” أيضاً العلاقات بين البلدين، والذي لم يقم بأي جهد يُذكَر من أجل تحسينها.
مع ذلك، لم يكن أردوغان دائماً مواجهاً وعدائياً. كرئيس للوزراء، فقد أيّد ودعم الجهود الديبلوماسية التركية لكي تكون “بمثابة وسيط للسلام في الشرق الأوسط”. وخلال زيارته للقدس في 2005 وإجتماعه برئيس الوزراء الاسرائيلي السابق أرييل شارون، أعلن أردوغان أنه جاء للمساهمة في عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وإستضاف أردوغان أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت في مقر إقامته في العام 2008، على أمل التوسط لإحلال السلام بين إسرائيل وسوريا. إلّا أن اردوغان رأى قرار أولمرت بشن عملية “الرصاص المصبوب” فقط بعد بضعة أيام على اللقاء خيانة، لا سيما بعد أن إفترض أن أولمرت قد أعطاه الضوء الأخضر عن إستعداد إسرائيل لبدء محادثات مباشرة مع سوريا. على الرغم من ذلك، حاول أردوغان رأب الصدع بعد نصف عام من خلال دعمه للمشروع الذي بموجبه ستقود إسرائيل مشروع إزالة الألغام على طول الحدود السورية–التركية، على الرغم من معارضة البرلمان.
على الرغم من أنه لم تعد هناك إرادة كبيرة إيجابية للتقارب في أيّ من البلدين، فقد دفعهما “الربيع العربي” إلى إعادة تقييم العلاقة بينهما. في العام 2013، إستجاب نتنياهو لإلحاح الرئيس الأميركي باراك أوباما لرأب الصدع، وأصدر إعتذاراً لتركيا. بعد ذلك، وافقت إسرائيل على دفع تعويضات لأسر تسعة نشطاء أتراك قتلوا خلال العملية العسكرية على متن سفينة المساعدات التركية. منذ الغارة على “مافي مرمرة”، وافقت إسرائيل أيضاً على رفع جزئي للحصار على غزة، الأمر الذي يجعل الدولتين أقرب إلى المصالحة في منطقة غير مستقرة على نحو متزايد، حسب بعض الخبراء.
للتأكيد، لا يزال هناك عدم ثقة بشكل كبير في إسرائيل تجاه الحكومة التركية، وأردوغان على وجه الخصوص. ويبدي وزراء حكومة نتنياهو إستياءهم وإنزعاجهم من تصريحات أردوغان الملتهبة؛ إن تصريحات الرئيس التركي المعادية لإسرائيل بعد الهجمات على “تشارلي إيبدو” في باريس، على سبيل المثال، دفعت وزير الخارجية الاسرائيلي في حينه أفيغدور ليبرمان إلى دعوة أردوغان بال”الجار الرهيب المعادي للسامية”. من حهته يبدو نتنياهو قلقاً من أنه إذا تم التوصل الى إتفاق حول القضية الفلسطينية سوف يستخدم أردوغان الأمر لتحقيق مكاسب محلية. الواقع أنه بعد إعتذار نتنياهو عن الغارة على السفينة التركية التي حدثت في أيار (مايو) 2010، نشر عدد من الصحف المطبوعة عناوين رئيسية تقول أن أردوغان “جعل إسرائيل تعتذر”. وحقيقة الأمر، بطبيعة الحال، هو أنه، من خلال وساطة أوباما أرسلت إسرائيل الإعتذار، الذي قبلته تركيا. في المقابل، أثار هذا الأمر أسئلة في إسرائيل حول مدى إهتمام تركيا حقاً لإصلاح العلاقة.

من بقي؟

إن تحسين العلاقات مع إسرائيل له جاذبية خاصة بالنسبة إلى تركيا الآن لأنها قد أحرقت جسورها مع العالم العربي. وقد أدى فشل سياسة أنقرة “صفر مشاكل مع الجيران” في أن تركيا تجد نفسها حالياً من دون سفراء في القاهرة أو دمشق أو طرابلس. وقد عيّنت فقط سفيراً في بغداد بعد أن تم إستبدال رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي بالدكتور حيدر العبادي في أيلول (سبتمبر) 2014. من جهتها علّقت سوريا إتفاق التجارة الحرة مع تركيا في كانون الأول (ديسمبر) 2011، عندما أصبح بشار الأسد العدو الرئيسي لأنقرة. ومنذ ذلك الحين، إنخفض التبادل التجاري بين سوريا وتركيا إلى نصف مليار دولار في العام 2014، من نحو ملياري دولار في العام 2011.
في مصر، أدّى رفض تركيا الإعتراف بعبد الفتاح السيسي كرئيس للجمهورية المصرية إلى أذى وضرر لمصالح أنقرة الإقتصادية. على سبيل المثال، فقد تقلّصت الصادرات التركية إلى مصر بنسبة 10 في المئة بين عامي 2012 و2014. وعلاوة على ذلك، فإن مصر لم تجدّد إتفاق الطريق التجاري الذي يسمح بعبور وسائل النقل التركية أراضيها، بعدما إنتهى في نيسان (إبريل)، مما يعوّق نقل البضائع بين الموانئ التركية والإسكندرية. هذا التحرك أدى إلى منع البضائع التركية من الوصول إلى الأسواق المربحة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج. علماً أن هذا الاتفاق يسمح أيضاً للشركات التركية الإلتفاف على الأراضي السورية التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”، في حين تتجاوز أيضاً قناة السويس، وبالتالي تقليل تكاليف النقل.
العلاقات التركية مع ليبيا، أيضاً، هي في حالة يُرثى لها. لقد إتهم رئيس الوزراء الليبي عبد الله الثني تركيا بتسليح تنظيم “الدولة الإسلامية” ومؤيديه في ليبيا، الأمر الذي أدى بالشركات والعمالة الوافدة التركية إلى الخروج من البلاد. والأهم من ذلك بأن أنقرة إعترفت ب”المؤتمر الوطني العام” الذي يسيطر عليه الإسلاميون ولم تعترف بحكومة الثني المنتخبة ديموقراطياً والمعترف بها دولياً الأمر الذي ألقى بظلاله على المصالح التجارية التركية في أجزاء كبيرة من البلاد.
من ناحية أخرى، نتجت عن عدوان روسيا في أوكرانيا تداعيات إقتصادية على تركيا أيضاً. على الرغم من موقف أنقرة الصامت على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والحجة أن هناك محوراً إقتصادياً روسياً-تركياً ناشئاً، فقد تراجعت الصادرات التركية إلى روسيا بنسبة 15 في المئة بين عامي 2013 و2014. وقد أدى إنخفاض قيمة الروبل أمام الدولار أيضاً إلى مشاكل لروسيا من جهة دفع الصادرات التركية والتي أصبحت بعد ذلك أكثر تكلفة. وإنخفضت الصادرات التركية الى أوكرانيا بنسبة 21 في المئة خلال الفترة نفسها، في حين أن السياحة الروسية والأوكرانية، التي تشكّل مصادر رئيسية للدخل بالنسبة إلى تركيا، ما زالت في إنخفاض.
قد لا تكون تل أبيب أكبر شريك تجاري لأنقرة، لكنها واحدة من الأكثر توازناً. تتمتع تركيا حتى بمعدلات تجارية مع إسرائيل، حيث تلقت 3 مليارات دولار من السلع المستوردة في حين قامت بتصدير ما يوازي الحجم المالي عينه من السلع التركية إلى إسرائيل في العام 2014 — علامة على التكافؤ المالي نادراً ما تشاهده أنقرة مع شركاء تجاريين آخرين. في العام نفسه، صدّرت تركيا 6 مليارات دولار من البضائع الى روسيا، في حين إستوردت 25 مليار دولار من السلع من بلاد بوتين، مما أدى إلى عجز تجاري ضخم. كما أن تركيا مرة أخرى أصبحت وجهة السفر المفضلة للمسافرين الإسرائيليين. وفقاً لرابطة وكالات السفر التركية، فقد زاد عدد الإسرائيليين المسافرين إلى تركيا بنسبة 125 في المئة، من 83,740 إلى 188,608 بين عامي 2012 و2014. وبإعتراف الجميع، هذا لا يزال بعيداً من نصف مليون سائح إسرائيلي توافدوا إلى تركيا في العام 2008، ولكن هذه علامة واعدة لإنتعاش إقتصاد السياحة بين البلدين.
مع ذلك، ينبغي للمرء أن يكون حذراً من الإفراط في التفاؤل. قد تكون العلاقات الإقتصادية التركية – الإسرائيلية منيعة على ما يبدو ضد السياسة، لكن المأزق الديبلوماسي الذي يواجه الدولتين يمكنه أن يمنع النمو في المستقبل، خصوصاًة إذا إستمرّ عدم الثقة والخطاب القاسي بين البلدين. ومع ذلك، مع إستمرار الزيادة في حجم التجارة الثنائية، فإن مصالح المشاريع ستعزل إلى حد ما العلاقات الإقتصادية عن المشاكل السياسية. وكان اردوغان سريعاً بالإعلان أن تركيا ستعلّق “العلاقات العسكرية والتجارية” مع إسرائيل بعد حادث “مافي مرمرة”. ومع ذلك، جاء في بيان له في اليوم نفسه يعلن فيه أن تركيا لن تفرض عقوبات تجارية على كل حال. من المرجح أن يكون أردوغان غيّر موقفه وتراجع عن خطته الاصلية بعد ضغوط من مجتمع الأعمال، ولكن ليس هناك وعد بأنه سوف يقدّم تنازلات مماثلة في المستقبل.
في الوقت الراهن، لا تُظهر العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل وتركيا أي علامات على التحسن، بإستثناء المصلحة المشتركة للحفاظ على عدم تدخل السياسة في الأعمال التجارية. وإعادة بناء العلاقات الديبلوماسية التركية – الإسرائيلية إلى مستويات التعاون التي كانت سائدة في منتصف تسعينات القرن الفائت لن تكون مجدية إلا إذا تم تحقيق المصالحة على الجبهة الفلسطينية. إن هجمات غزة في 2009 و2014، جنباً إلى جنب مع مقتل تسعة نشطاء أتراك على “مافي مرمرة”، عززت التعاطف التركي تجاه الفلسطينيين. ويضاعف من رغبة أردوغان للجوء إلى الخطاب المعادي لإسرائيل تحقيق مكاسب سياسية محلية، والقليل تم تحقيقه منذ العام 2009 لتعزيز الحوار الديبلوماسي بين أنقرة وتل أبيب.
مع ذلك، لا تزال التوقعات الاقتصادية بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط قاتمة، الأمر الذي يجعل السلام التجاري على الأقل مستداماً بين إسرائيل وتركيا وفرصته معقولة. في نهاية المطاف، ويعتقد الخبراء والمتابعون بأن الثقة المتبادلة الناجمة من العلاقات التجارية قد تساعد كلا البلدين على إيجاد موطئ قدم إقتصادي وسياسي في المنطقة المضطربة، وفتح الباب أمام “سماسرة” السلام المستقبلي في الأزمة الإسرائيلية-الفلسطينية، وإعطاء أنقرة فرصة لمواجهة التحديات الأمنية الإقليمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى