فيروز وعلى الأرض حرب وسلام وحب وخصام!

ما أسعد القلم وأعظم فرحته حين يطلق العنان لمداده، مسطّراً مشاعر نابعة من الروح والقلب. ما أسعد هذا القلم الذي يكتب عن فيروز ولصوت فيروز، فإنه يضمن المجد مرتين؛ مرة حين يسيل مداده على ورق “نجمة الكتب”، ومرة ثانية حين يعيش اللحظة الفيروزية موثقة كإحدى مراجع البحث والتنقيب عن حياة وأعمال تلك الأيقونة الآتية من زمن الأساطير.

بيروت – جوزف قرداحي

ما أسعد قلم الإعلامية المخضرمة ريما نجم، الذي دوّن سيرة فيروز بأسلوب أكاديمي علمي ينهج إلى التوثيق في كتاب من الحجم الكبير، وبتجليد فني فاخر، تضمّن 330 صفحة من الورق الملوّن المصقول، وغلاف تميّز برسم أيقوني نافر للسيدة فيروز صممه الخطاط المعروف وجيه نحله، حمل عنوان: “فيروز، وعلى الأرض السلام” صاغته الأديبة ريما نجم، بلغة إرتقت إلى مستوى السهل الممتنع أعطاه قيمة أدبية مضافة إلى ما كُتب عن فيروز وما نشِر عن سيرة حياتها بدءاً من تفتح أحلامها في بيت الطفولة في منطقة “زقاق البلاط” مروراً بمراهقتها وإكتشافها أولاً على يدي محمد فليفل الذي تعهدها في فرقة الإنشاد التابعة لإذاعة “الشرق الأدنى”، ومن ثم لقائها بحليم الرومي الذي أطلق عليها إسم فيروز قبل أن يعرّفها إلى عاصي الرحباني الذي شكّل معها في ما بعد الأسطورة اللبنانية التي إنتشرت في العالم العربي، بعدما إنضم إليهما شقيق عاصي منصور الرحباني. لتحدث المعجزة وتتحقق الأغنية اللبنانية في أبهى صورها.
جمعت الأديبة ريما نجم في كتابها الشامل هذا، أرشيفاً نادراً من الصور العائلية والفنية، والتي شملت أحداثاً وأعمالاً ولقاءات وصلت إلى أكثر من ألف صورة تم التقاطها على مدار أكثر من ستين عاماً إختصرت أهم المحطات في حياة السيدة فيروز: مراهقتها، زواجها، أمومتها، عائلتها، حفلاتها، رحلاتها، لقاءاتها النادرة بالفنانين والأدباء والشعراء الكبار أمثال: أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، أحمد شوقي، سعيد عقل، ميراي ماتيو، وغيرهم. بالإضافة إلى تبويب الكتاب إلى أكثر من ثلاثين فصلاً، تناولت معظم أعمالها المسرحية والسينمائية والغنائية، ضمن معالجة لمسرحياتها مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وتحليل تراوح ما بين البعد الفلسفي والسياسي والجمالي والإجتماعي والتاريخي واللاهوتي الديني.
ففي البعد الإجتماعي لمسرح الأخوين رحباني وفيروز كتبت ريما نجم: “يصعب الفصل في كثير من الأحيان بين الفلسفة والإجتماع والسياسة والتاريخ. ذلك أن ثمة ترابطاً وثيقاً بينها جميعاً. فالعلاقات الإجتماعية هي وليدة السياسة والفلسفة وأم لهما في آن. وإستطاع مسرح الرحابنة أن يغوص في جوهر العلاقات الإجتماعية ويعرض لشرائح عدة من المجتمعات الضيقة والعريضة، إنطلاقاً من مجتمع القفرية الصغير، الذي سرعان ما يمتد ويتسع ليشمل الكرة الأرضية ولا يخفى على أحد مثل هذا النفس الأممي في الطرح. وكم سلّط هذا المسرح من أضواء على التراتبية في العلاقات، على الظلم الحاصل، على الإستغلال، على البطالة والبطالة المقنَّعة، على خطورة الفقر والحرمان، على التحجر والتسلط، على العدائية والتسلق على الوفاء والخيانة، على الكراهية والحب، على العدالة الإجتماعية ودور المرأة أماً وأختاً وعاملة وفلاحة، وحاكمة”.
وفي البعد السياسي للمسرح الرحباني، أكّدت نجم: “إن المسرح الرحباني مسرحٌ سياسي، وإن لم يكن مباشراً في تطرقه السياسي، فلا تكاد تخلو مسرحية من الوقوف على علاقة الحاكم بالمحكوم، ورجل الأمن بالشعب، والطرائق المثلى لإدارة البلاد، وعلى تأكيد الحرية والديموقراطية وتكافؤ الفرص، والعدالة الإجتماعية، ورفع الظلم، وعلى محاسبة مستغلي الحكم لمصالحهم الشخصية، والمستزلمين، وعلى ضرورة التطور في أساليب الحكم، وفصل القضاء عن السياسة، وعلى أهمية الإستقلال والنضال من أجل نيله، بلا مساومة أو تسويف. ويبرز هذا المسرح المفهوم الشعبي الموروث الراسخ والقائل إن الفرد يبقى “آدمي وكوّيس” حتى يصير إبن حكومة أو يعتلي الكرسي، فيصبح واحداً آخر، وكأننا أخذنا شخصاً وأتينا بآخر لأن السلطة بالمفهوم المتداول هي سلطة الضرائب والجباية والمحسوبيات والسمسرات، فلا معاملة تُنجز ولا ختم يصل إلا مقابل إكرامية ورشوة”.
تغوص ريما نجم في الكثير من أسرار فيروز والعائلة الرحبانية، وتضيء على أكثرها حساسية ووجعاً في حياة السيدة فيروز، التي وصفت بـ”سيدة الصمت والوجع”، وهي علاقتها الوجدانية بابنها المقعد هلي، نقطة ضعفها وضعف العائلة، فتروي كيف أن فيروز وبدافع الأمومة فوّتت موعد الطائرة المقلعة الى لوس أنجليس، من أجل أن تشتري له كرسياً كهربائياً متحركاً بعجلات، “حين رأت إحداهن تقود كرسياً مماثلاً، في أثناء رحلتها الى أميركا”.
وفي العلاقة الزوجية بين فيروز وعاصي وبالتالي الخلافات التي أدت إلى الإنفصال الفني النهائي مع منصور بعد رحيل عاصي، توضّح ريما نجم أن لا خلافات زوجة بسبب فيروز، وأن ما جعل تلك العلاقة متصدعة ناتج من تأثيرات متراكمة منها ما يعود إلى تعدد المسؤوليات الفنية، ومنها إلى أسباب بقيت مبهمة، أو هكذا شاءت ريما نجم أن تغلف معالجتها لهذا الموضوع بالشاعرية والغموض الرومانسي. فقاربت مسألة الإنفصال العائلي بكتابة أقرب الى الوجدانيات والنثر الشعري منها الى الواقعية الأكاديمية والبحث الجاد. مستعينة ببعض المواقف العاطفية والأغنيات المتماهية مع مرض عاصي الرحباني الذي انفجر دماغه نتيجة الإجهاد والتوتر والمعاناة. مثل أغنية: “سألوني الناس عنك يا حبيبي” التي كتبها شقيقه منصور ولحنها ابنها زياد، وهو مأخذ يُسجل على ريما نجم في هذا الكتاب الغني والدسم والذي يعتبر مرجعاً موثوقاً للباحث عن سيرة هذه العائلة الرحبانية التي قلبت وجه التاريخ الموسيقي في الشرق العربي. وفي هذا السياق تقول ريما بنص ملتبس وغامض، تحاول من خلاله قدر الإمكان أن توجه ضرباتها تارة إلى الحافر وتارة إلى المسمار للتخفيف من وجع الواقع الذي انتهت اليه علاقة فيروز بعاصي أولا ومن بعده بمنصور:
بإسقاط هذه المعادلة على العلاقة بين رجل وإمرأة تشدهما بوادر حب جديدة او أواصر حب قديم، نجد أن النفور والتضاد والتناحر والصراع مآل تلك العلاقة ومصيرها الحتمي. هل سيغادر الزوج بيت الزوجية بابتسامة يرسمها لزوجته أو قبلة محبة يطلقها؟ (… ) هل سيعود مساء مكللاً بالشوق ومدججاً بالحنين للقائها؟ لا نظن ذلك البتة. وليست سوى القسوة من عنوان لمثل تلك العلاقة وتبادل الشتائم ما لم نقل الضربات المادية والمعنوية والهجر والانفصال والطلاق والتشرد بأشكاله كافة، والهروب والضياع والخيانة والإزدواجية!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى