المارد الإيراني قد يصحو إقتصادياً

بقلم البروفسور جاسم عجاقة*

أين إيران اليوم من الإمبراطورية الفارسية التي إمتدت من أفغانستان وباكستان شرقاً إلى لبنان ومصر غرباً مروراً بالعراق وسوريا وقطر والكويت والإمارات وتركيا؟ نعم لم تستطع إيران اليوم إحياء أمجاد الإمبراطورية الفارسية والسبب يعود إلى فقدانها لقوتها الإقتصادية. فهل يصحو المارد الإيراني إقتصادياً؟
يختصر المؤرخون تاريخ الإمبراطورية الفارسية بأمجاد بدأت في القرن السابع حيث إستطاع الفرس إخضاع الأتراك والعرب في العراق وسوريا ووصلوا إلى فلسطين ومصر. لكن هذه الأمجاد بدأت بالإضمحلال مع خسارة الفرس معاركهم ضد هرقل أمبراطور الروم في آسيا الصغرى (622-627). هذه الخسارة دفعت إلى تقهقر الحكم الكسري حيث تعاقب على حكم الإمبراطورية 15 حاكماً في ظرف 9 سنوات. وهذا ما دفع العرب إلى هزيمة الإمبراطورية في حركة الفتح التي قاموا بها. لكن إجتياح جنكيزخان لإيران أدّى إلى تدمير البنية الإقتصادية وعلى رأسها نظام قنوات الري الشهير كما والمدن التي كانت تعيش في ظل حركة إقتصادية مزدهرة. وإزدادت قوة الأتراك السنّة في إيران خلال الفترة الممتدة من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، ما دفع الفرس تحت راية إسماعيل الأول إلى الثورة وفرض التشيّع بالقوة على الأتراك. لكن هذه الإرادة الفارسية لإستعادة البلاد باءت بالفشل مع إجتياح القبائل الأفغانية التي ما لبثت أن تقهقرت على يد قبيلة أفشار. وعاشت إيران بعدها حروباً عدة بين القبائل للسيطرة على الحكم، وإستمر الوضع على هذا الحال إلى حين وصول القوى الإستعمارية الروسية والبريطانية. هذه الأخيرة إستغلت الإنقسام بين القبائل لتؤجج الخلاف وتستفيد من موارد البلاد.
خلال كل هذه الفترة، كان الإقتصاد الإيراني يقوم بالدرجة الأولى على الزراعة الغنية التي تتميز بها إيران. لكن إكتشاف البترول في محافظة خوزستان في العام 1908، زاد من مطامع البريطانيين الذين أتوا بشاه إيران إلى السلطة. والجدير بالذكر أن هذا الأخير سعى إلى تطوير الإقتصاد الإيراني عبر تطوير القطاع الصناعي وذلك بفضل مداخيل النفط.
أدّت الثورة التي قام بها الإمام الخميني في 1979 إلى لجم التطور في قطاعي الصناعة والنفط. والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى العقوبات التي بدأت بفرضها الدول الغربية على الجمهورية الإسلامية والذي يستمر حتى يومنا هذا.
يتميز الإقتصاد الإيراني بسيطرة الدولة على مجمل القطاعات وعلى رأسها الصناعة والنفط اللذين يُعتبران مع الزراعة الأسس للإقتصاد الإيراني. إلا أن العقوبات منعت من تطور هذه القطاعات وجعلت الإقتصاد غير الرسمي – أي لا يدخل ضمن آلية الضبط الحكومي – ينتشر بنسبة كبيرة. ويُقدّر الإقتصاد الإيراني بـ 500 مليار دولار أميركي مع تضخم برقمين وبطالة تفوق الـ 13% ودين عام يُقارب الـ 20% من الناتج المحلّي الإجمالي.
وتسعى إيران إلى تطوير إقتصادها عبر دعم الإستثمارات في القطاع الصناعي والتكنولوجي كصناعة السيارات، الإلكترونيات، الصناعة الكيميائية، والتكنولوجيا النووية والفضائية. إلا أن العقوبات تحدّ من طموحات الجمهورية الإسلامية عبر حرمانها من الرساميل الأجنبية. ومن أكثر القطاعات المُتضررة، قطاع النفط الذي يحتاج إلى عشرات المليارات من الدولارات لتطويره مع الأخذ بعين الإعتبار أن مداخيل إيران الأساسية تأتي من هذا القطاع خصوصاً أنها تمتلك 10% من إحتياط العالم من النفط وثاني أكبر إحتياط غاز بعد روسيا.
لذا ومن هذا المنطلق وفي ظل سريان العقوبات الدولية على إيران، قامت الحكومة الإيرانية بالبحث عن وسيلة لتصدير نفطها وغازها حيث وقّعت مع باكستان على معاهدة لمدّ هذه الأخيرة بالغاز الإيراني. وهذه المعاهدة تأتي في وقت تحتاج فيه إسلام آباد إلى الغاز وهي التي تُعاني أزمة نقص حادة في المحروقات تتسبب في قطع الكهرباء عن أكبر المدن الباكستانية.
وتنص المعاهدة على إنشاء أنبوب غاز إسمه “أنبوب السلام” بطول 1750 كلم لنقل الغاز من عسلويه‎ في إيران إلى نوابشاهه في باكستان. ودفع التوصل المبدئي إلى إطار الإتفاق النووي الإيراني إلى تسريع العمل على هذا المشروع حيث طلبت باكستان من الصين الشروع بإنشاء الجزء الباكستاني من الأنبوب والبالغ طوله 750 كلم بكلفة تتراوح بين 1,5 و1,8 مليار دولار.
وتكمن أهمية هذا الأنبوب في فتح أسواق شرق-جنوب آسيا للغاز الإيراني. وهذه الأسواق معروف عنها إستهلاكها المُفرط للطاقة التي تواكب نمو إقتصاداتها وخصوصاً الهند. وإيران التي تتمتع بثروة غازية تبلغ 34 تريليون متر مكعب، وثروة نفطية مُقدّرة بـ 154 مليار برميل، تستطيع سد حاجات هذه الأسواق بشرط حصولها على إستثمارات مالية كبيرة لن تحصل عليها إلا إذا ما أظهر النظام الإيراني الليونة اللازمة في ما يخص برنامجه النووي.
وفي ظل سيناريو قبول طهران بطلبات المجتمع الدولي في ما يخص برنامجها، من المُتوقع أن يفوق نمو الاقتصاد الإيراني، نمو الاقتصاد الصيني في العقدين الماضيين. وهذا سيكون له تداعيات إيجابية كبيرة على المجتمع الإيراني وخصوصاً من ناحية الرخاء والتطور التكنولوجي.
لكن الأمر لا يقتصر على هذه الفوائد فقط، فإيران وبفضل حجم إقتصادها (ثالث إقليمياً وراء تركيا والسعودية) قد تُصبح أول إقتصاد إقليمي خصوصاً مع نسب نمو برقمين. كما أن هناك فرصاً إقتصادية أخرى قد تخلق من جراء فتح الاقتصاد الإيراني على العالم ومن بينها النقل البري عبر إيران والقطاع الزراعي الذي قد يجعل من إيران خزاناً غذائياً للعديد من دول العالم.
ويبقى السؤال عن خيار الحكام الإيرانيين في ما يخص سيناريو البقاء في الوضع الحالي أو سيناريو المارد الاقتصادي الذي قد يصحو من سباته. وما الليونة التي يبرزها اليوم حكام إيران إلا دليل على فهمهم للبعد الاقتصادي الإستراتيجي الذي قد تلعبه بلادهم في حال تخلّت عن طموحها النووي.
• خبير إقتصادي وإستراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى