الجزائر: لماذا لا تستخدم جيشها لإيقاف الخطر الآتي من ليبيا ومالي؟

في نواح كثيرة، تجد الجزائر نفسها في موقف تُحسَد عليه إقتصادياً، لا سيما بالمقارنة مع جيرانها الإقليميين. فهي تتمتع برابع أكبر إحتياطات نفطية وثاني أكبر إحتياطات من الغاز الطبيعي في أفريقيا. وقد سمحت لها إيرادات المواد الهيدروكربونية الوافرة من توجيه رؤوس الأموال إلى برامج الإنفاق العام على البنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم والسكن الاجتماعي والإعانات. ومع ذلك، فإن الأحداث الدموية التي تحوم حول حدودها في مالي وليبيا تهدد الوضع الداخلي، فهل هناك إستراتيجية للحكومة لمواجهة هذا الخطر؟

أحداث الإسلاميين في تسعينات القرن الفائت: ما زالت في الأذهان
أحداث الإسلاميين في تسعينات القرن الفائت: ما زالت في الأذهان

الجزائر – محمد الحلّاج

يبدو أن عواصف “الربيع العربي” لم تلفح الجزائر برياحها الثورية حتى الآن. إلى الشرق منها، إنهارت ليبيا إلى حرب أهلية، وعانت تونس من تصاعد الإرهاب الذي يشكل خطراً على إنتقالها الديموقراطي والإنتعاش الإقتصادي. إلى الجنوب، إستطاعت مالي أن تبقى بالكاد صامدة، وذلك بفضل قوات تحقيق الإستقرار التي تقودها فرنسا. ولكن خلال كل هذه الفترة، ظلّت الجزائر محصّنة — اذا لم تكن أيضاً شيئاً من لغز.
في نواحٍ كثيرة، تُعتبّر الجزائر دولة ديموقراطية روتينية. وقد أجرت إنتخابات عدة التي إعتبرها المراقبون الدوليون حرة ونزيهة، والتي كانت مدعومة بوفرة الأحزاب السياسية. لديها حرية صحافة وحركة عمالية ناشطة ودؤوبة. وتعجّ وزاراتها بالتكنوقراط المختصين؛ بيروقراطيتها تفرض بروتوكولاً على نحوٍ وافٍ . وكما قالت جوان بولاشيك، سفيرة الولايات المتحدة في الجزائر، أخيراً: “الحياة هناك طبيعية حقاً. الناس يخرجون بشكل طبيعي للنزهة والتسوّق ويذهبون إلى المطاعم”. وحتى التلفزيون الفرنسي قد ركّز على هذا الشعور: سلسلة تلفزيونية مُقبلة ستركّز على عدد من الجزائريين الذين يعيشون حياة عادية: إمرأة غطّاسة في البحر، طاهٍ هاجسه النضارة، ودليل للطبيعة يقود طالبات المدارس إلى الهتاف: “من دون طبيعة، لا يوجد مستقبل”.
لكن الجزائر هي أيضاً مختلفة إلى حد كبير عن بلدان أخرى. إنها لا تزال “تغار” وتخاف بشكل ملحوظ على الوضع الطبيعي الذي تعتبره العديد من الدول الأخرى أمراً مفروغاً منه. هذا الشعور متجذِّر جرّاء الصدمات النفسية الأخيرة: خلال تسعينات القرن الفائت، إنقلب الوضع في الجزائر بسبب تمرّد الإسلاميين. لقد تأثر تقريباً كل فرد في البلاد بسبب العنف المروع والعشوائي أو عرف شخصاً آخر عانى من ذلك. إختفت الحياة العامة، كما دور السينما والمقاهي، وحتى توقفت إشارات السير الضوئية، لأن السيارات التي تتوقف عند التقاطعات أصبحت أهدافاً مثالية للمسلحين. فيما هذه وغيرها من صفات الحياة الطبيعية عادت والتي رحب الجزائريون بها، ولكن مع بعض التردد – لكي لا تنسى البلاد ما حدث لها خلال عقدها المظلم.
بالنسبة إلى الجزائريين، إن سياسة “النأي بالنفس” هي هدية ثمينة يجب حمايتها. وهذا ما يفسّر لماذا أعرب الجزائريون العاديون القليل من الإهتمام في “الربيع العربي”. على الرغم من أن بعض المراقبين جادل بأن جمود الشعب كان بسبب اليد الثقيلة للدولة، التي قلّصت إهتمامهم بالثورة، فإن الأسباب الحقيقية تكمن في مكان آخر: الجزائريون كانوا خائفين من الفوضى. لقد تمنّوا الخير لجيرانهم وحذّروهم من أن الطريق إلى الأمام لن يكون سهلاً. وبعد ذلك ذهبت الجزائر في مسارها الخاص.

قوات على الارض؟

حتى فيما تتذوّق الجزائر طعم الإستقرار، فإنها لا تزال تتصارع مع الماضي – ويتجلّى النضّال في الوقت الحاضر في كثير من الأحيان بشكل متناقض. إن السياسات الجزائرية هي مبهمة إلى حدّ تبدو غامضة. القيادة السياسية لم تنتقل بشكل كامل من جبهة التحرير الوطني السرية في خمسينات القرن الفائت إلى منظمة منفتحة تدير دولة قومية حديثة مع مجلسين تشريعيين ونظام سياسي متعدّد الأحزاب. الحقيقة أن عدداً قليلاً جداً من الجزائريين يعرفون كيفية حصول القرارات السياسية. بدلاً من ذلك، تبدو السياسات مثل تموّجات على سطح مياه بعد رشقه بحجر – ما عدا أن لا الحجر ولا قاذفه شاهدهما أحد على الإطلاق.
من ناحية أخرى، بسبب عدم وجود أدلّة حاسمة، فقد إعتاد المحللون على القول بأن من يدير الجزائر هي “القوى الحاكمة” التي لا تبدو مؤكدة العضوية وسلطتها لم يتم التحقق منها. ولكن عندما يتم الضغط لمعرفة من هو في الواقع في هذه “القوى الحاكمة” وما هي قدرتها، ينهار المفهوم ويصبح الوضع سيلاً من التكهنات.
الجزائر بلد مستقل بشكل “محتدم” أيضاً. ربما كتعبير لإلتزامها الثابت للحياد- تتولى الجزائر حالياً رئاسة حركة عدم الانحياز الدولية – فإن البلاد تتجنب تبادل “الطعن بالظهر” الذي هو شائع جداً في الديبلوماسية. فهي قلقة من الدخول في إتفاقات وعلاقات من شأنها أن تُلزمها الرد عليها بالمثل وهذا من شأنه أن يحد من الخيارات المتاحة أمامها في المستقبل. وعلى الرغم من أن الجزائر ليست بمعزل كلياً عن الدورة الدولية، إلا أنها تُقدِم على إتصالاتها الخارجية على مضض وفي كثير من الأحيان تُهمل الفوائد الفورية من أجل تخفيف المخاطر في المدى الطويل.
الجمع بين التعريفين السياسيين المميَّزين في الجزائر– تعلق عميق بالحياة الطبيعية وعملية صنع سياساتها المبهمة – ينمو متقلباً فيما مخاطر الأمن تتزايد حول جميع حدودها. هذه التطورات أدت إلى إعلان مواقف ديبلوماسية في كثير الأحيان متناقضة. على الرغم من أن الجزائر لا تزال ملتزمة بالحفاظ على الإستقرار الذي تحقق داخل حدودها مهما بلغت التكاليف، فإن نهجها بالنسبة إلى مقاربة الأزمات الخارجية يهدّد بالسماح سهواً لهذه الأزمات أن تتفاقم وتتسرب وأن تصبح أكثر إشكالية بالنسبة إلى الجزائر في نهاية الأمر.
على الرغم من أن الجزائر لا تُشجِّع الدول الأخرى على إستخدام القوة، وخصوصاً عبر الحدود، فقد إستخدمت قواتها العسكرية بسهولة في داخل البلاد. في العام 2013، أنهى الجيش الجزائري بسرعة المواجهة مع الإرهابيين على منشأة للغاز في عين أمناس، وتحرير أكثر من 700 رهينة، من بينهم أكثر من 100 أجنبي. نشرت الحكومة أيضاً القوات البرية حيث قضت تقريباً تماماً على الجماعة المتطرفة “جند الخلافة”، المجموعة الإسلامية المتحالفة مع تنظيم “الدولة الإسلامية”. لقد أعلنت تلك المنظمة الإرهابية إنطلاقتها في أيلول (سبتمبر) 2014؛ وبحلول كانون الاول (ديسمبر) كان الجيش قد قضى عليها وقتل قادتها الرئيسيين.
ولكن بدلاً من إتباع نهج مماثل بالنسبة إلى تهديدات المتطرفين في أماكن أخرى، فإن الجزائر دافعت عما في كثير من الأحيان تبدو أنها ديبلوماسية “فطيرة في الفضاء” مع فرص غير مؤكدة إلى حد كبير للنجاح. لقد كانت هذه هي إستراتيجيتها تجاه الأزمات الجارية في مالي وليبيا. في كلتا الحالتين، تصدرت الجزائر المفاوضات التي تهدف إلى شمل أكبر عدد ممكن من أصحاب المصالح ووجهات النظر المختلفة على قدر الإمكان، وبالتالي المخاطرة بمناقشات لا نهاية لها التي لن تغيِّر شيئاً على أرض الواقع – معالجة غير فاعلة وعدم التطرق للأسباب التي فجّرت الأزمة في المقام الأول.
في مالي، على سبيل المثال، بدأت الجزائر محادثات لتسوية النزاع بين الحكومة والجماعات الإنفصالية، والميليشيات المتحالفة مع الحكومة في كانون الثاني (يناير) 2014. وأدى الحوار إلى جمع ما لا يقل عن ثماني حركات فاعلة مختلفة (بما في ذلك إثنتان من الحركات المتمردة، الحركة الوطنية لتحرير أزواد وحركات التنسيق لقوى المقاومة الوطنية)، وأربع حكومات (بوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر)، وخمس منظمات متعددة الأطراف. وعلى الرغم من أن المحادثات حققت تقدماً متفاوتاً فقط على مدى أكثر من 14 شهراً، لا تزال الجزائر ملتزمة بالحفاظ على إستمراريتها.
وبالمثل، في ليبيا، دعمت الجزائر المفاوضات المتعددة الجوانب التي تشمل مسؤولين في نظام القذافي القديم و”الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية” (منظمة إرهابية تم استيعابها في نهاية المطاف من قبل تنظيم “القاعدة”)، وكذلك تسع دول أخرى. ووضعت الجزائر خطاً أحمر فقط بالنسبة إلى الجماعات التي أدرجتها الأمم المتحدة على لائحتها الإرهابية. وكانت الجولة الأخيرة من المفاوضات في الجزائر العاصمة في الشهر الفائت تحت مراقبة البعثة الداعمة للأمم المتحدة في ليبيا. مما يعكس ربما بطءاَ أليماً في المحادثات، أن لهجتها أصبحت يائسة على نحو متزايد، مع ممثل الامم المتحدة الخاص يتوسل أنه “لا يجب أن يُقتل المزيد من الليبيين”. مع ذلك، فإن الجزائر لا تزال راسخة في دعمها الثابت للعملية.
تبرر الحكومة الجزائرية نهجها بالقول أنه ليس هناك سوى هذا النوع من العملية الشاملة التي يمكنها بناء سلام مستقر. وتستشهد أيضاً بأسباب إيديولوجية لرفضها إستخدام جيشها في الخارج، والحفاظ على إلتزامها بحقوق السيادة المصونة للدول الأخرى. المتشككون ينتقدون مثل هذه التفسيرات كقناع للجبن ومحاولة لإظهار أخلاق عالية. مع ذلك يصر الجزائريون على هذا الخطاب بكل فخر وإعتزاز، حيث لا يرون أي تناقضات في وجهات نظر حكومتهم بالنسبة إلى إستخدام القوة العسكرية. من الناحية العملية، مع ذلك، فإن موقفهم يصبح أصعب من أن يجادل مع مرور الأيام: إذا كان إستخدام القوة فعّالاً جداً محلياً، لماذا يجب ألّا يُعتبر كذلك في الخارج، خصوصاً عندما تكون أكبر التهديدات التي تواجهها الجزائر تنبع من خارج حدودها؟
في الواقع، إن طرح هذه الأنواع من الأسئلة في البلاد، مع ذلك، لا يزال من المستحيل تقريباً. لا يوجد مجالٌ كبير للنقاش بين صناع القرار. الأحزاب السياسية في السلطة لا تجلس أبداً مع المعارضة لمناقشة سبل للمستقبل، والمفاوضات التي تحدث دائماً تقريباً تشمل المحاورين عينهم: مكتب رئيس الوزراء، المنظمات العمالية، وجمعيات أصحاب الأعمال. حتى ذلك الحين، يتم إتخاذ القرارات النهائية في نهاية المطاف من قبل مجموعة ضيقة وغالباً غير معروفة. ومن المؤكد أن هناك أعضاء في المعارضة ينشطون ويعبرون بشكل متكرر عن إنتقاداتهم للحكومة — ولكن لم تؤدِّ جهودهم إلى أي تغيير حقيقي.
ومن المرجح أن تصبح الأشهر المقبلة أول إختبار حقيقي للإختيارات الإستراتيجية التي حققتها الجزائر حتى الآن. لم يحدث قط أن واجهت البلاد مثل هذه التهديدات الخطيرة مباشرة على حدودها. إن إزدياد حدة النزاع في مالي تقزِّم الثورات السابقة في الشمال، ويبدي القتال إمكانية واضحة بالانزلاق الى الجزائر. وبالمثل، في مستنقع ليبيا الخطير، إن المقاومة الاسلامية تنمو أكثر جرأة يوماً بعد يوم. في الوقت الحالي، مع ذلك، يبدو أن الجزائر عازمة على التمسك بنهجها التقليدي، الدفع لإيجاد حلول سياسية للأزمات الخارجية في حين تحشد وتضمن أمنها الداخلي لحماية نفسها اذا فشلت هذه الحلول من أن تتحقق. لكن المشكلة مع هذه الإستراتيجية هي أنها تتطلب الكثير من الجزائريين العاديين، الذين يمكن لهم أن يأملون فقط بأن هذا النهج هو أفضل طريقة للحفاظ على الحياة الطبيعية التي يعتبرونها عزيزة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى