هل تستطيع أبو ظبي أن تصبح مركزاً مالياً إقليمياً؟

تسعى دول الخليج، كل واحدة على حدة، إلى أن تكون مركزاً محورياً مالياً في المنطقة. بعد دبي، والبحرين وقطر وقريباً السعودية، ها هي أبوظبي تطمح في أن تصبح مركزاً محورياً مالياً إقليمياً منافساً لدبي وغيرها والذي بدأ يتشكّل من خلال سوق أبوظبي العالمية.

جزيرة الماريه: هنا ستقوم سوق أبو ظبي العالمية
جزيرة الماريه: هنا ستقوم سوق أبو ظبي العالمية

أبو ظبي – عمار الحلاق

في أواخر آذار (مارس) الفائت، قام كبار المسؤولين في سوق أبوظبي العالمية بزيارة إلى لندن لملء بعض الفراغات في أحدث محاولة في الإمارة لإقامة مركز محوري مالي متفوّق.
طُرحت الفكرة لأول مرة في أوائل العام 2013، ولكن حتى الآن كان هناك عدد قليل نسبياً من التفاصيل التي ظهرت أو عُرفت حول كيف ستعتزم بالضبط قيادة أبوظبي إطلاق مركز محوري مالي منافس في المنطقة. في شباط (فبراير) الفائت، نشرت سوق أبو ظبي العالمية المسودّة الأولى لجوهر إطارها القانوني والتنظيمي. ومع تقديم رئيس السوق أحمد الصايغ لمحات محيّرة للفكرة في مؤتمر لندن المالي في آذار (مارس) الفائت، هناك الآن كمية أكثر قليلاً من المعلومات التي يمكن أن توضّح فكرة المشروع.
في حين لا يزال هناك الكثير مما هو غير واضح عن الطريقة التي سوف تختلف فيها هذه السوق جوهرياً عن كلٍّ من منافسها في دبي، مركز دبي المالي العالمي، ناهيك عن سلفها المشؤوم في أبو ظبي، جزيرة السعديات – هناك الآن أدلّة دامغة على أن سوق أبو ظبي العالمية سوف تتوجه شرقاً بقوة، إلى آفاق شرق السويس. إن المركز الجديد يشكّل نفسه بصراحة على نماذج المحاور الآسيوية الرئيسية في هونغ كونغ وسنغافورة.
لا ينبغي أن يكون ذلك مفاجأة. إن تعيين ريتشارد تانغ رئيساً للقسم التنظيمي في سوق أبو ظبي “مكتب الخدمات التنظيمية المالية”، والذي كان يشغل دوراً مماثلاً في سنغافورة، كان تلميحاً وإشارة إلى المسار الذي تريد السوق السير عليه أو نحوه.
مع توقّع إفتتاح سوق أبو ظبي العالمية — أول منطقة حرة في الإمارة لديها الإطار القانوني والتنظيمي الخاص بها — أبوابها في وقت لاحق من هذا العام في جزيرة الماريه، هناك الآن مجموعة أوضح من المؤشرات إلى ما تحاول أبوظبي تحقيقه. إن التركيز الأولي سيكون على الخدمات المصرفية الخاصة، وإدارة الثروات، وإدارة الأصول، حيث تسعى القيادة إلى البناء على واردات ثروتها النفطية الهائلة لإنشاء مركز محوري للخدمات المالية الدولية على نطاق واسع.
ستقوم السوق لاحقاً أيضاً بإنشاء مركز لتجارة السلع التي ستبدأ مع النفط والغاز، ومن ثم التوسع في التجارة في السلع الأخرى. وهذا يشمل التعامل مع السلع المادية وجميع المعاملات المالية ذات الصلة.
الشركات التي تعمل إنطلاقاً من سوق أبو ظبي العالمية ستكون في نهاية المطاف قادرة على التجارة في السلع والعملات والسندات والمشتقات، وتقديم خدمات الوساطة والتسوية والمقاصة والإيداع، وتوفير التمويل الإسلامي والمنتجات المصرفية الأخرى والخدمات المالية. وفقاً لمذكرة صدرت في وقت سابق من هذا العام من قبل شركة المحاماة “لينك لايترز”، فقد يجوز لشركات السوق إجراء مجموعة من الأنشطة المرتبطة بالسلع، بما في ذلك التخزين والتجهيز والتسليم والتجارة والتداول، مما يجعل السوق التي توفّر بيع وشراء العروض لجميع أنواع السلع، بيع وشراء السلع (بما في ذلك المشتقات والعقود الآجلة والخيارات) والنقل والشحن، والعمل في مجال الصرف والسوق المالية للسلع (وعقود المشتقات المالية).
ومع ذلك، يقول مكتب المحاماة، إن سوق أبو ظبي العالمية سوف تحدّ من الأنشطة المرخّصة للخدمات المصرفية الخاصة وإدارة الثروات وإدارة الأصول في المرحلة الأولى من تطورها.
الواقع أن السلطات في أبوظبي عملت بجد لضمان أن يكون لديها المشهد القانوني الصحيح منذ البداية، من أجل ضمان ثقة المستثمرين العالميين في سوقها العالمية. وهذا يعني أنها ستكون مزوَّدة بالخدمات المالية المنظّمة الخاصة بها، ومسجّل الشركات والمحكمة الإبتدائية ومحكمة الإستئناف لحل المنازعات التي تنشأ في المنطقة الحرة. سوف يكون للسوق نظام قانوني مدني وتجاري خاص بها، على أساس القانون الإنكليزي ودمج جوانب منه، والذي سيتم تطبيقه ضمن منطقة جغرافية محدَّدة من المنطقة الحرة.
بالنسبة إلى تلك المجموعات من الخدمات المالية التي تتطلع إلى الدخول إلى أبوظبي، فمن شبه المؤكد بأنها سوف تُدفَع بإتجاه سوق أبو ظبي العالمية – وسوف يُطلب منها إنشاء وجود فعلي هناك.
من ناحية أخرى، هناك بعض التناقضات الظاهرة التي لا تزال بحاجة إلى تسويتها. في حين تُطبَّق مبادئ القانون الإنكليزي، على سبيل المثال، على العقود، والودائع، والإئتمان، والسندات، والإفلاس، وقانون الشركات، التي ستساعد على جعل سوق أبو ظبي العالمية موقعاً أكثر جاذبية حيث يتم من خلالها إجراء المعاملات المالية المعقّدة، فإن التملّك الحر للأراضي سوف يبقى خاضعاً لقوانين إمارة أبو ظبي.
ولكن كما أن طموحات سوق أبو ظبي مثيرة للإهتمام، فإن هناك حتى الآن بعض الأمور المحيّرة التي لن تقدم عليها. قبل كل شيء، قال الصايغ بشكل واضح أن سوق أبو ظبي العالمية لن تكون سويسرا جديدة في الخليج. كما قال في مؤتمر لندن في أواخر آذار (مارس)، أن السرية المصرفية من الطراز القديم قد ولّت وإنتهت. في الأساس، إن صفقات السرية المصرفية للعملاء الأغنياء جداً ليست الشيء الذي ستتخصص به أو تهدف إليه السوق الجديدة.
وبالمثل، سوف تحتاج سوق أبو ظبي العالمية إلى إنشاء هوية تختلف عن جارها الأكثر رسوخاً – والمنافس – مركز دبي المالي العالمي. ظاهرياً، لم يتم تصميم سوق أبو ظبي العالمية للتنافس على الأشياء عينها مع مركز تأسس منذ فترة أطول.
ولكن من الواضح، أن أبوظبي تريد أن تأخذ بضع أوراق من كتاب دبي. الدلالة تمثلت في أحد التعيينات الأساسية أخيراً الذي أعطى مهمة أساسية لجان بلادين، الرئيس التنفيذي للعمليات السابق لهيئة تنظيم مركز دبي المالي العالمي، حيث عُيِّن مستشاراً ورئيس برنامج سوق أبو ظبي العالمية في شباط (فبراير) الفائت.
من جهته، نما مركز دبي المالي العالمي بقوة في السنوات الأخيرة، مع زيادات كبيرة في إصدارات الأسهم والدخل الثابت. فقد أصدر “ناسداك دبي”، مقر تبادل مركز دبي المالي العالمي، 13 مليار دولار من الصكوك (سندات الدين الإسلامية) في العام 2014. وزاد في منطقة دبي الحرة المالية عدد الشركات المسجَّلة خمساً تقريباً في العام الماضي وحده، ليرتفع عدد الشركات الموجودة هناك إلى أكثر من 1225. ومع إستثمار صناديق الإستثمار الكبرى مثل مؤسسة دبي للإستثمار في التوسّع داخل مركز دبي المالي العالمي، فإن المركز المالي يبدو في مزاج واثق الآن.
لكن، يجب ألّا يؤدي هذا الأداء القوي لمركز دبي المالي العالمي إلى التشويش على إدارة سوق أبو ظبي العالمية أكثر من اللازم. كان شعار الصايغ منذ البداية أن هناك مجالاً لمركزين ماليين قريبين، والتركيز على إدارة الثروات ميزة تتمتع بها سوق أبو ظبي بما فيه الكفاية عن مركز دبي حيث لا تسبّب الكثير من الدوس على “أصابع القدم”. الطريق المثالي الذي يراه “تانغ” لسوق أبو ظبي العالمية، هو أن هناك تشابهاً بين الثنائي في دولة الإمارات وهونغ كونغ وسنغافورة – وكلاهما من المراكز المالية الآسيوية التي تكمل بعضها البعض بدلاً من التنافس على العملاء أنفسهم.
ومع ذلك، فإن هذا الأمر ما زال يترك سؤالاً أوسع حول ما إذا كان الشرق الأوسط يحتاج بعد إلى مركز خدمات مالية آخر. لقد تمتعت البحرين بوضع جيد وبمؤهلات ملائمة كمركز للأعمال المصرفية الخارجية (الأوفشور) لفترة طويلة، لكن كان عليها القتال بقوة أكبر من أجل الحفاظ على وضعها في السنوات الأخيرة ضد دبي. ثم هناك مركز مالي جديد في قطر، وتلوح في الأفق، محاولة المملكة العربية السعودية للحصول على وضع محوري مالي في مركز الملك عبد الله المالي، على شريحة كبيرة من الأراضي العقارية الرئيسية في العاصمة الرياض.
لم يكن سجل مركز قطر المالي مبشِّراً للغاية. فهو لم يسجّل نجاحاً كبيراً في جذب أعداد كبيرة من شركات التأمين وإعادة التأمين لإنشاء مركز لهذا النوع من الإستثمار. قد تثبت المملكة العربية السعودية أنها منافس أكثر إقناعاً لإمارة أبوظبي، وذلك تمشياً مع تحرك الرياض أخيراً لفتح سوق الأسهم السعودية للمستثمرين الماليين الأجانب المؤهلين.
من ناحية أخرى، هناك أوجه شبه كبيرة بين سوق أبو ظبي العالمي ومركز دبي المالي العالمي. إلى جانب القانون العام الإنكليزي، كلاهما له إدارة مستقلة خاصة به، تقدم التقارير إلى الحاكم / المجلس التنفيذي للإمارة ذات الصلة، كما يلاحظ مكتب المحاماة “لينك لايترز”. وكل مركز منهما لديه ثلاثة أجهزة رئيسية: منظّم خدمات مالية مستقل، ومسجِّل، ومحاكم.
مع ذلك، هناك منطقة واحدة حيث قد تتمتع بها سوق أبو ظبي وتميزها عن جارتها دبي هي في عدم وجود قيود للملكية الأجنبية داخل المنطقة الحرة، والتي ينبغي أن تحفّز مشغلي الخدمات المالية الأجنبية والإقليمية على إيجاد موطئ قدم هناك. ولكن حتى هنا، تنصح مكاتب المحاماة بالبحث عن كثب في التفاصيل الدقيقة، بما فيها مكتب “كلايد آند كو” الذي يفيد: التفاعل بين نظام قانون شركات سوق أبو ظبي العالمية ونظام دولة الإمارات العربية المتحدة المحلي القانوني لا بد من تحليله بعناية. على سبيل المثال، لا تملك سوق أبو ظبي العالمية السلطة لوضع قوانين جنائية ومخالفة القوانين التي ستؤدي بدلاً من ذلك إلى غرامات – ولكن ماذا سيكون تأثير قرار تنظيمي أو غرامة لسوق أبو ظبي العالمية بالنسبة إلى القوانين الجنائية الإتحادية في الإمارات والتي قد تنطبق على السلوك ذاته؟ وبالمثل، تشمل القوانين بنوداً عن السلطة المزعومة للمديرين على أساس قانون المملكة المتحدة – وهو مفهوم لا وجود له بموجب قانون دولة الإمارات العربية المتحدة. ومثل هذه القضايا يجب أن تؤخذ في الإعتبار وتشملها القوانين بوضوح.
إن قرار التراجع والإبتعاد عن السرية المصرفية التقليدية على الطراز السويسري – مفهوم في ضوء الحملات الإعلامية السلبية العلنية المحيطة بالإدعاءات الأخيرة حول أنشطة بعض البنوك الدولية- لا يعني أن سوق أبو ظبي العالمية لن تبحث عن جذب ثروات عملاء البنوك من القطاع الخاص. وإنما هي نيَّة وهدف لإعادة توجيه السحب الجغرافي إلى منطقة الخليج، بدلاً من جنيف أو لندن. ومع صناديق الثروات السيادية الضخمة والأذرع الإستثمارية الموجودة في أبوظبي – من “مبادلة” إلى “هيئة أبو ظبي للإستثمار” – التي عادة وبصورة منتظمة تتلقى وتلتقي مديري الأصول الدولية، فإن هذه الرؤية هي للتأكد من أن هؤلاء اللاعبين يسعون إلى خدمة الثروة في أبو ظبي.
إذا أظهرت المؤسسات الأجنبية الإستعداد لإقامة وجود مادي في سوق أبوظبي، يذهب التفكير، سوف يكون ذلك أسهل بكثير لمساعدة الهدف في المدى الطويل لتنويع خلق الثروة من غير النفط والغاز في الإمارة.
الواقع أن نجاح السوق يعتمد على مجموعة من العوامل، وكثير منها خارج سيطرتها؛ مثل ما إذا كان رأس المال الدولي يرى بأن أبوظبي هي المكان المناسب والجذاب للقيام بالأعمال التجارية، بالمقارنة مع مواقع بديلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما أن المؤسسات لا تملك كلها القدرة أو لديها الرغبة في الإنتشار في جميع المراكز المالية الخليجية المفترضة.
سيكون على أبوظبي أيضاً أن تواجه منافسة من أمثال دبي. إن توقيع محاكم مركز دبي المالي العالمي في 23 آذار (مارس) إتفاق مع المحكمة الجزائية الإتحادية للمنطقة الجنوبية من نيويورك سيوفّر الترتيبات اللازمة لإنفاذ أسهل للأحكام التجارية الأميركية في المنطقة الحرة في دبي. وهذا الإتفاق هو الأحدث في سلسلة من صفقات الإنفاذ التي وقعتها محاكم مركز دبي المالي العالمي مع السلطات القضائية الدولية الرائدة.
في وقت لاحق من هذا العام سيتم الإفتتاح الرسمي للسوق العالمية الجديدة في أبوظبي. وهذه الخطوة ستُعطي دفعة إيجابية لقطاع الخدمات المالية في الإمارة، لكنها سوف تعرف جيداً أن إقدام المملكة العربية السعودية على تفكيك معوقات الإستثمار الأجنبي وتسهيله هو الخطوة التي حشدت حقاً الإهتمام الدولي في سوق رأس المال الخليجية. إن التنافس مع السعوديين قد يثبت أيضاً أنه مهمة أصعب لسوق أبوظبي العالمية من سرقة الإهتمام والبريق من مركز دبي المالي العالمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى