محكمة الشعب؟

إنضمت فلسطين أخيراً إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما تسبب بخلاف كبير بين السلطة الفلسطينية من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. أستاذ القانون في جامعة إنديانا تيموثي وليم ووترز يناقش هذه الخطوة وتداعياتها.

بنيامين نتنياهو: لا يريد دولة فلسطينية
بنيامين نتنياهو: لا يريد دولة فلسطينية

بقلم تيموثي وليم ووترز*

في غرة نيسان (إبريل) الجاري، قبلت فلسطين إختصاص المحكمة الجنائية الدولية، أو، بعبارة أخرى، المحكمة الجنائية الدولية قبلت أن تصبح فلسطين من إختصاصها. هذه الصيغة الأكثر حرجاً هي أكثر دقة، لأن ما يهم ليس سعي فلسطين المثالي إلى الإنضمام إلى محكمة لاهاي، ولكن إعتراف المحكمة الجنائية الدولية بعضويتها.
إن المطالبات الفلسطينية لإقامة دولة ليست شيئاً جديداً. ما الذي تغيَّر هو أن فلسطين تسعى الآن إلى (والحصول على) عضوية في المنظمات الدولية. ولكن لأن فلسطين لا تتمتع سوى بعدد قليل جداً من صفات دولة حقيقية، فإن هذا التوجه يعِدُ بالكثير من الإضطرابات والمتاعب – للمحكمة الجنائية الدولية، وإسرائيل، وفلسطين نفسها. وهذا تذكير بأنه في عالم الدول، فإن مسائل وشروط إقامة دولة هي مهمة جداً. بالنسبة إلى الفلسطينيين، إن الدولة ما زالت وهماً يستحق التحقيق، والوصول إلى ذلك يستحق كل المتاعب.
حالة اللعبة
إنضمت فلسطين إلى نظام روما الأساسي، الميثاق التأسيسي للمحكمة الجنائية الدولية، وأصدرت إعلاناً بقبول إختصاص المحكمة، وهو أمرٌ لا يمكن أن تقوم به سوى دولة. حاولت فلسطين أولاً أن تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009؛ وقد رُفِض طلبها بعد تأخير دام ثلاث سنوات، مع إعطاء المحكمة يومها تبريراً بأن “الأجهزة المختصّة” في الأمم المتحدة لم تعترف بعد بدولة فلسطينية. كان هذا القرار غير منطقي بالنسبة إلى خبراء القانون: لا شيء يفرض على المحكمة الجنائية الدولية، أن تتنازل عن معايير الأمم المتحدة، التي ليست مرادفة للدولة. يبدو أن المحكمة التي ما زالت شابة، لم ترغب في الخوض في واحدة من أقدم النزاعات في العالم، فجيّرت المسؤولية إلى الأمم المتحدة.
لبعض الوقت، أبقى قرار لاهاي الموضوع خارج الأجندة. ولكن بعد بضعة أشهر، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، قبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين كدولة مراقب غير عضو. وعبر منطق لاهاي الخاص المركِّز على الامم المتحدة، يمكن لفلسطين الآن الإنضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية. لذا عندما طلبت فلسطين مرة أخرى في كانون الثاني (يناير) الفائت الإنتساب، تم قبولها بسرعة.
تأمل فلسطين من المحكمة أن تحاكم القوات الإسرائيلية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة. مهما كانت مزايا هذا الطلب، فإنه يمكن أن يسبّب حالة ورطة حقيقية للمحكمة الجنائية الدولية. من جهتها قدمت الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل، بالفعل إحتجاجاً، بحجة أن فلسطين ليست دولة. واشنطن ليست طرفاً في المحكمة – وقّعت للإنتساب إليها ولكن لم تصادق على نظام روما الأساسي- لكنها يمكن أن تفعل الكثير لتقويضها، بما في ذلك من خلال دعم الدول الأفريقية الساخطة التي تهدد بالتخلي عن المحكمة تماماً. الواقع أن المحكمة الجنائية الدولية هي مؤسسة ضعيفة، ومقاضاة إسرائيل يمكن أن يكون أمراً قاتلاً.
هناك الكثير من المضاعفات التي يمكن أن تُعطي المحكمة مخرجاً. إتفاقات أوسلو الثاني، التي وقعت في العام 1995، أكّدت على “الولاية القضائية الجنائية الوحيدة” لإسرائيل على الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية، لذلك فقد تكون فلسطين في الواقع ليست لها ولاية قضائية لمنحها. وهناك أيضاً أسئلة عما يشكّل أراضٍ فلسطينية، وتحديد حدود فلسطين سيعني تعريف حدود إسرائيل. وبما أن إسرائيل ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية فإن المدّعي العام للمحكمة قد يقرّر أن القضية تستند فقط على إختصاص فلسطيني الذي من شأنه أن يُخاطر بالتجاوز التفسيري. وأخيراً، هناك موضوع الدعوى نفسها: مدّعي المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن يخلص إلى أن الأدلة هي ببساطة ليست قوية بما فيه الكفاية للمتابعة.
ولكن عدم متابعة قضية يمكن أيضاً أن يعرّض المحكمة للخطر. تواجه لاهاي بالفعل إنتقادات حادة لملاحقتها حصراً الحالات الأفريقية، والذي هو السبب أن الكثير من تلك الدول تفكر في الإنسحاب. ويعتبر معظم دول العالم تصرفات إسرائيل في حرب العام 2014 في غزة وإحتلالها للضفة الغربية إنتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. لذا إذا نُظِر إلى المحكمة بأنها تتجنب قضية مشروعة ضد إسرائيل، يمكن أن تصبح هذه المؤسسة غير ذي صلة.
مهما كان الخطر بالنسبة إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن المشكلة المحتملة لإسرائيل – ملاحقة قواتها في فلسطين – هي أكثر وضوحاً. يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تعلّل بأن فلسطين لم تكن قادرة على المساومة بعيداً من إلتزامها بملاحقة جرائم دولية خلال مفاوضات أوسلو. ويمكن للمحكمة أن تؤكد على أن ولايتها تتغلغل في أعماق الدولة الإسرائيلية: تعتبر إسرائيل القدس أراضٍ سيادية، ولكن العديد من البلدان تعتبرها محتلة. وإذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية إتهامات ضد جندي أو سياسي إسرائيلي، فيجب عندها أن تخطط تسليمه بعناية: 122 من البلدان الأخرى، بما في ذلك معظم أوروبا، هي أطراف في نظام روما الأساسي، الذي يُلزمها تسليم أي شخص توجِّه إليه المحكمة الإتهام.
هناك إعتراضات معقولة لهذه السيناريوهات، ولكن الآن بعدما صارت تتمتع بإختصاص وولاية في فلسطين، فإن المحكمة الجنائية الدولية لديها القدرة على أن تقرر بنفسها إذا كان هناك ما يبرر التحقيق. في الصورة الذاتية كمحكمة مهنية، أو حاجتها إلى إثبات أهميتها، قد تُجبر المحكمة على أخذ أي شكوى ضد إسرائيل على محمل الجد. وفي كلتا الحالتين، فإن القرار ليس إسرائيلياً. وهذا، بعد كل شيء، هو النقطة والهدف.
تدويل القضية
الإنضمام إلى المحكمة هو جزء من إستراتيجية فلسطينية أكبر لتدويل النزاع مع إسرائيل. إنضمت فلسطين أخيراً إلى مجموعة من المعاهدات المتعددة الأطراف، بما في ذلك الإبادة الجماعية وإتفاقات جنيف، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإتفاقات فيينا –كلها جزء من جهد وصفه أحد كبار المسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية ب”الإنتفاضة الديبلوماسية”.
الهدف من هذه الإستراتيجية هو للهروب من فخ التفاوض فقط مع إسرائيل. رسمياً يؤيد قادة إسرائيل حل الدولتين، إلا أن هذا الموقف كان دائماً نظرياً أكثر منه واقعياً. (في الإنتخابات التي جرت في البلاد أخيراً، عارض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قيام دولة فلسطينية، إلا أنه تراجع عن قوله بعد أيام). وتستفيد إسرائيل بشكل هائل من العلاقة غير المتكافئة مع الفلسطينيين، مصرّةً على الإعتراف بحق اسرائيل في الوجود –وطابعها اليهودي — شرطاً أساسياً لإجراء محادثات، في حين أنها تعالج إقامة دولة فلسطينية كعنصر للمساومة.
وتعني الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة أيضاً تجاوز الولايات المتحدة: رغم كل التنافر بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ونتنياهو، لا تزال سياسة أميركا تميل غريزياً إلى الجانب الإسرائيلي. وعلى الرغم من دعمها لفترة طويلة حل الدولتين، فإن الإدارات من كلا الطرفين لم تهتم بالسماح فعلاً بأن يحقق الفلسطينيون إقامة دولة. في خطاب أمام الكونغرس في العام الماضي قالت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة سامانثا باور أن واشنطن ما زالت “تصر بشكل مطلق” على أن فلسطين يجب ألّا تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، لأن ذلك سيكون “مدمّراً لعملية السلام”.
نظرياً، هذه المقاومة تنبع من الإعتقاد بأن ليس هناك إختصار من جانب واحد لتسوية تتم من طريق التفاوض. ولكن هذه هي سفسطة وتعامل ذاتي: كل ما تفعله “كونها دولة” أنها تجعل صفقة إسرائيل المفضّلة أكثر صعوبة. تكييف دولة يجعل الشروط المحتملة لأي صفقة أكثر ملاءمة لإسرائيل — بما في ذلك لا صفقة، والتي قد تكون التفضيل الحقيقي لنتنياهو. هذا هو اللا تماثل أو اللا تناسق الذي ترغب اسرائيل وحليفتها الرئيسية الحفاظ عليه، والذي تهدد الإستراتيجية الجديدة الفلسطينية الإنقلاب عليه.
لذلك ليس من المستغرب أن المتاعب قد بدأت فعلياً بالنسبة إلى الفلسطينيين. فقد حجبت إسرائيل 120 مليون دولار من عائدات الضرائب الشهرية التي تجمعها نيابة عن السلطة الفلسطينية. وواشنطن، في الوقت عينه، أوقفت تمويل المنظمات الدولية التي تسمح لفلسطين بالإنضمام الى صفوفها.
اللعبة المزعومة
عقابية بحد ذاتها كما قد تبدو، فإن هذه النكسة لها معنى: المطالبة الصريحة لفلسطين لا تجعل منها دولة حيث لا توجد الشروط المطلوبة لإقامة دولة.
هناك وجهتا رأي لإقامة دولة في القانون الدولي. الرأي السائد، المنصوص عليه في إتفاقية مونتيفيديو في العام 1933، هو ما يُسمَّى نظرية تعريف الدولة: كيان مع أراضٍ، وسكان، وحكومة، وقدرة على إقامة علاقات هو دولة إذا إعترف به الآخرون أم لا. ورأي الأقلية ويدعى النظرية التأسيسية: الإعتراف يصنع دولة. كلما تلقت إعترافاً أكثر، تصبح دولة أكثر.
المشكلة مع فلسطين هي أنها ليست دولة حسب الرأي الأول. لا يمكن لفلسطين أن تكون دولة من حيث التعريف، لأنها لم ولا تسيطر أبداً على مواردها المالية الخاصة، والحدود والبحار، أو المجال الجوي. ولكن من غير المرضي على حد سواء أن نفترض إعتراف 135 بلداً بفلسطين يجعل منها دولة. هناك سبب لكون النموذج التأسيسي هو رأي الأقلية: الإعتراف يمكن أن يكون طموحاً، مما يعكس الرغبة في رؤية الدولة التي ليست في الواقع هناك. بعد كل شيء، إن إعترافاً واحداً فقط يهمّ وله معنى حقاً، ورئيس وزراء إسرائيل أدلى به للتو وأوضح أن هذا لم ولا يحدث.
لذا جاءت إستراتيجية فلسطينية جديدة، يائسة قليلاً: فيما صمد القادة الإسرائيليون في خطهم، أخذ الفلسطينيون القضية إلى المجتمع الدولي، حيث يمكن لهذه الإعترافات ال135 أن تترجم إلى عضوية في المنظمات المتعددة الأطراف. تمنح العضوية فلسطين بعض السلطات التي تمارسها أي دولة بشكل طبيعي، من دون الحاجة إلى إنتظار إسرائيل المتمردة والممانعة لمنحها.
ولكن العضوية لا تجعل الحياة أفضل للسكان الفلسطينيين؛ التصديق على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على سبيل المثال، لن ينهي الإحتلال. حتى أنه يمكن أن تصبح الأمور أكثر سوءاً: إن المحكمة الجنائية الدولية قد لا تجيز أبداً وضع الإسرائيليين فعلاً في خطر قانوني، ولكن يمكن أن تحاكم مواطنين فلسطينيين عن إنتهاكاتهم الخاصة. المحاكمة بتهمة إرتكاب جرائم حرب هي ليست وسيلة جدية لإثبات أنك دولة، ولكن إذا إستمرت حماس في إطلاق الصواريخ على إسرائيل فإن الفلسطينيين قد يحاكمون في المحكمة.
السؤال الأكبر هو ما إذا كانت الدولة تهمّ أو لها أهمية حقاً على الإطلاق. إن مطاردة السيادة لا تجعل الفلسطينيين أسياد مصيرهم أكثر مما هم عليه الآن. ولعلّ قيام دولة هو مجرد حزمة من الوظائف. تشارك فلسطين بالفعل في دورة الالعاب الاولمبية، والصليب الأحمر؛ عضويتها الأخيرة ببساطة تضاف إلى غيرها من القدرات. وبعض الوظائف هو محلي: يدفع القادة الفلسطينيون إلى بناء المؤسسات المحلية لجعل فلسطين عضواً منافساً – وما سماه الجيل الإسرائيلي السابق “واقع عملي على الأرض”. من الممكن أن يؤدي كيان الدولة إلى لا شيء أكثر من إضافة إلى تلك الحقائق.
المشكلة هي أن الأفرقاء الأكثر صخباً وإعتراضاً للمنحى الجديد لفلسطين للحصول على الإعتراف بها كدولة لا تملكها هم الأفرقاء عينهم الذين يقفون بنشاط في طريق الفلسطينيين لخلق الحقائق التي من شأنها أن تجعل الدولة ممكنة. لهذا السبب، رغم جميع المتاعب التي قد تخلقها إستراتيجيتها الجديدة، إن إقدام فلسطين على خطوتها هي صحيحة ومحقّة، والولايات المتحدة مخطئة لمعارضتها. إن دولة فلسطين إما أنها تغيّر توازن القوى، أو تظهر أنه لم يتغير. الدولة هي إما مجموعة من القوى العملية، أو فانتازيا يعتقد بها الناس حقاً، أو كليهما. وفي كلتا الحالتين، لكي تكون دولة – معترف بها كدولة، في طريقة لها معنى- عليك أن تدّعي أنك واحدة. حتى لو كنت، مثل فلسطين، لست بعد.
• تيموثي وليم وولترز، أستاذ ومدير مشارك في مركز الديموقراطية الدستورية في كلية مورير للقانون بجامعة إنديانا الأميركية. وهو رئيس تحرير تقرير “محاكمة ميلوسيفيتش: تشريح القضية”.
• كُتِب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى