البعد الجيوسياسي للمفاوضات النووية مع إيران

في مقطع إستفزازي من كتاب، “سياسة الفوضى في الشرق الأوسط” (The Politics of Chaos in the Middle East)، الذي نُشر قبل إضطرابات “الربيع العربي”، قال الباحث الفرنسي “أوليفييه روي” بأن هناك ثلاث “صدمات” كانت لها آثار في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط العربي بين السويس وإيران. تمثّلت الصدمة الأولى بنظام الدولة الذي صمّمته أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى الذي أنهى حلم الشريف حسين بن علي الهاشمي لتحقيق مملكة عربية مسلمة مستقلة واحدة من الجزيرة العربية إلى الحدود الغربية لإيران. وكانت الصدمة الثانية هي إنشاء دولة إسرائيل في العام 1948، والهزائم المتكررة التي واجهها العرب على يديها. أما الصدمة الثالثة، يقول روي، فما زالت تتكشَّف وهي تقوم على تدمير التفوّق السياسي للعرب السنة في شرق السويس. ويجادل روي بأن هذه الصدمة جرت على مرحلتين: تمثلّت المرحلة الأولى بالثورة الإيرانية 1978-1979، والتي أسفرت عن تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران. وجاءت المرحلة الثانية من خلال سلسلة من الأحداث بدأت مع غزو الولايات المتحدة وحلفائها للعراق في 2003، الذي أدّى إلى هيمنة الشيعة على الدولة العراقية. وينبغي النظر إلى التفاوض النووي الإيراني في سياق هذه الصدمة الثالثة. إن العالم يرى أن مبرّر المفاوضات النووية الإيرانية يدخل في السياق العالمي للحفاظ على عدم الإنتشار النووي ومنع إنتشار الأسلحة النووية، والذي بالتأكيد هو كذلك. ولكن في الشرق الأوسط، يُنظَر إلى المفاوضات النووية على أنها مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بصراع أوسع يتعلق بالإشراف المشروع والهيمنة على المنطقة، وكذلك إلى موازين القوى الإقليمية.

الرئيس حسن روحاني: يسوّق للهيمنة الإيرانية بطريقة أفضل من المرشد الأعلى
الرئيس حسن روحاني: يسوّق للهيمنة الإيرانية بطريقة أفضل من المرشد الأعلى

لندن – ميشال مظلوم

في تقرير مهم أعدّته “مجموعة الأزمات الدولية”، في أيار (مايو) 2014، تحت عنوان “إيران ومجموعة 5 +1: حلّ مكعّب روبيك النووي”، جادل واضعوه بأن عزل المفاوضات النووية مع إيران عن سياق إقليمي أوسع نطاقاً (الحرب الأهلية في سوريا، وتورط إيران في العراق ولبنان واليمن) كان شرطاً مُسبقا ضرورياً لنجاح المفاوضات، وربما حتى لمشاركة إيران. وأكّدوا على أن “النجاح ممكن إذا كانت هناك إرادة سياسية لعزل هذه الصفقة عن سياقها الإقليمي المعقّد”. في الواقع، لم يكن التفاوض النووي أبداً معزولاً أو منفصلاً عن تصوّرات المشاركين لميزان القوى في المنطقة. مع ذلك، فإن موافقة مجموعة 5+1 للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن، إلى ألمانيا، على وضع القضايا الإقليمية خارج نطاق المفاوضات النووية في العام 2013، خلقت وضعاً محرجاً في المحادثات حيث أن أي نتيجة محتملة للتفاوض سيُنظَر إليها من قبل منافسي إيران على أنها ميل لميزان القوى الإقليمي لصالحها. لذلك، هذا الإتفاق النووي الإطار الذي أُعلن عنه أخيراً مع الجمهورية الإسلامية في لوزان من المرجح أن يؤدّي إلى تكثيف المنافسة على الأمن الإقليمي بدلاً من تخفيفها.
في إيران، كما يشير هنري كيسنجر، “تمت معالجة القضية النووية كأحد جوانب الصراع العام على النظام الإقليمي والتفوّق الإيديولوجي، وخاضت طهران مجموعة من الساحات والأقاليم بأساليب تغطّي طيف الحرب والسلام – عمليات عسكرية وشبه عسكرية، وديبلوماسية، وتفاوض دعائي رسمي وتخريب سياسي – في مزيج رشيق ومعزّز”. وفي مقابلة مع ديفيد ريمنيك من مجلة “نيويوركر” في 2014، أوجز الرئيس باراك أوباما رؤية الولايات المتحدة للنظام الإقليمي القائم على خلق توازن بين الدول السنية في المنطقة وإيران: “وعلى الرغم من أنه لن يحلّ المشكلة برمتها، فإذا تمكّنا من إقناع إيران بالعمل بطريقة مسؤولة – عدم تمويل المنظمات الإرهابية، وعدم قيامها بمحاولة لإثارة السخط الطائفي في بلدان أخرى، وعدم تطوير سلاح نووي – فسوف نرى توازناً يتطور وينمو بين دول الخليج السنية، أو ذات الغالبية السنية، وإيران حيث هناك منافسة، وربما شك، ولكن ليس حرباً ناشطة أو بالوكالة”. بعبارة أخرى، يتصوّر الرئيس الأميركي عملية قصيرة المدى من التودّد والتقارب الإجتماعي مع إيران التي سيكون لها تأثير تحوّلي في النظام الإقليمي.
في الأيام والأسابيع المقبلة، سيقوم الجمهور بتقييم تفاصيل إطار الإتفاق النووي الذي أُعلن عنه أخيراً مع إيران. سوف تتركّز المناقشات على عدد أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، وكمية اليورانيوم المنخفض التخصيب التي ستحتفظ بها وبأي شكل، وآلية التفتيش، وتاريخ إنتهاء صلاحية الإتفاق، وهيكلية رفع العقوبات. والغرض من هذه المناقشات سيكون من أجل تقييم نقاط القوة (والضعف) في الصفقة. هذا النقاش، المهم بالتأكيد، سوف يلقي بظلاله على العديد من الجوانب الأوسع للمفاوضات النووية مع إيران.
المفاوضات النووية بين مجموعة 5+1 للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن، الى ألمانيا، وإيران إرتبطت إرتباطاً وثيقاً بالصراعات التي تجتاح الشرق الأوسط اليوم. ومع ذلك، عندما تجدّدت المفاوضات وإستؤنِفت في العام 2013 بعد إنتخاب حسن روحاني رئيساً في حزيران (يونيو)، فإن “الخطة المشتركة للعمل” التي أُعلنت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، لم تتضمن معالجة دور طهران في النزاعات في جميع أنحاء المنطقة.
إستبعدت مناقشات مجموعة 5+1 للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن، إلى ألمانيا، القضايا الإقليمية من المفاوضات النووية مع إيران، وإختارت إستيعاب وقبول المطالبة من المفاوضين الايرانيين بأنهم ليست لديهم الولاية أو الصلاحية لمعالجة النشاط الإقليمي لبلدهم في إطار المفاوضات النووية. وكان هذا تنازلاً كبيراً من المفاوضين الدوليين لإيران من دون تلقّي أي شيء يتناسب في المقابل.
ويبدو أن عدم المعاملة بالمثل هذه تدعم فحوى حجة مايكل دوران في دراسته التي نشرها في شباط (فبراير) 2015 تحت عنوان “إستراتيجية أوباما السرية في إيران”. يقول دوران أن الولايات المتحدة تتبع إستراتيجية “سرية” طويلة الأجل تهدف إلى دمج إيران في النظام الديبلوماسي والإقتصادي الدولي كوسيلة لحث نظامها على الإعتدال السياسي وحسن السلوك الإقليمي. في كانون الثاني (يناير) 2015، نشر “مركز الأمن الأميركي الجديد”، قبل دراسة دوران، تقريراً بعنوان “الذوبان البطيء: إختبار إمكانات التعاون مع إيران بعد الإتفاق النووي”، والذي فسّر مؤلفوه ما يعتبرونه تأثير الصفقة النووية في السياسة الخارجية الإيرانية: “من ناحية، إذا كانت نتائج الصفقة النووية النهائية ستعيد دمج إيران ديبلوماسياً في المجتمع الدولي وتؤدي إلى تحسّن كبير في إقتصاد البلاد، فقد يوفر هذا للرئيس حسن روحاني والداعمين الواقعيين له زخماً سياسياً كبيراً. نتيجة لذلك، فقد يمنح خامنئي الرئيس روحاني نفوذاً أكبر في مجالات السياسة الخارجية الإيرانية بعد البرنامج النووي … إن فوزاً في “الملف النووي” قد يمكّن روحاني وظريف بإقناع خامنئي لمنحهما مزيداً من الحكم الذاتي والبدء بإستعادة جوانب إضافية من السياسة الخارجية الإيرانية من الحرس الثوري”.
من الصعب القول، نهائياً، ما إذا كانت إدارة أوباما إستبعدت عمداً المصالح الإقليمية من المفاوضات النووية مع هدف نهائي بإستخدام الإتفاق النووي كنقطة إنطلاق إلى التنسيق الإقليمي الأوسع مع إيران، على النحو المبيَّن بالتفصيل في تقرير “مركز الأمن الأميركي الجديد”، ودراسة مايكل دوران. ومهما يكن من أمر، فقد كانت إيران قادرة على إستخدام نفوذها ونشاطها في العراق ولبنان وسوريا واليمن كوسيلة ضغط للمساومة الضمنية في أثناء التفاوض النووي. بعبارة أخرى، من خلال إستبعاد السلوك الإقليمي من المفاوضات النووية، كانت إيران قادرة على إستخدام نفوذها الإقليمي، على حد سواء كعصا وجزرة، خلال هذه المفاوضات.
علّقت إيران إحتمال تغيير سلوكها الإقليمي وإعتبرته “جزرة” على طاولة المفاوضين الدوليين. يمكن لطهران أن تربط ضمنياً حلاً مرضياً للأزمة النووية مع إحتمال إتخاذ موقف أكثر تعاوناً وأقل مواجهة إقليمياً. ومع ذلك، لأن القضايا الإقليمية ليست جزءاً من المفاوضات، لن تكون إيران تحت أي التزام لتغيير سلوكها. في أعقاب الصفقة المُعلَنة، ستتم إزالة القيود الإقتصادية عن قدرة الجمهورية الإسلامية لفرض نفوذها في المنطقة. وعلى العكس، لو لم يكن هناك إتفاق نووي فإن إيران كانت في وضع يمكّنها من تأجيج صراع إقليمي، وذلك بإستخدام نفوذها في الشؤون العربية كعصا، بينما في الوقت عينه تزيد مساعيها لتطوير برنامجها النووي.
بالنسبة إلى المرشد الأعلى للثورة، علي خامنئي، إن “الجزرة” الإيرانية هي مجرد وهم. ليس لدى طهران نية لمناقشة القضايا الإقليمية مع الولايات المتحدة. وهو يرغب في تبادل تنازلات نووية محدودة لتخفيف العقوبات. في خطابه في عيد “النيروز” في 21 آذار (مارس) 2015، وضع الأمر بشكل صارخ: “النقطة الثانية إزاء إستمرار المفاوضات مع الحكومات الأوروبية وأميركا بشأن القضية النووية هي أننا نتفاوض فقط مع أميركا بشأن القضية النووية، وليس على أي قضية أخرى. يجب أن يعرف الجميع ذلك. نحن لا نتفاوض مع أميركا حول القضايا الإقليمية. إن أهداف أميركا في المنطقة هي على العكس تماماً من أهدافنا. نحن نريد الأمن والسلام في المنطقة. نريد حكم الشعوب لبلدانها. سياسة أميركا في المنطقة هي خلق إنعدام الأمن. أنظروا إلى مصر، وليبيا، وسوريا. حكومات متغطرسة – بقيادة أميركا – بدأت هجمة مرتدة ضد الصحوة الإسلامية التي تم إطلاقها ضد هذه الدول. وهذا الهجوم المضاد ما زال مستمراً في الوقت الحاضر، وهو يخلق تدريجاً وضعاً كارثياً لهذه الدول. هذا هو هدفهم، وهو على العكس تماماً من هدفنا. نحن لا نتفاوض على الإطلاق مع أميركا، لا في القضايا الإقليمية، ولا على القضايا الداخلية، أو [كذا] ولا حول قضية الأسلحة. تقتصر مفاوضاتنا مع الأميركيين على القضية النووية وعلى الطريقة التي يمكننا التوصل من خلالها إلى إتفاق من خلال الديبلوماسية”.
الحقيقة أن خامنئي يرغب في رؤية إيران تعقد صفقة مع “مجموعة 5 + 1” التي تحمي حرية عمل إيران النووي ولكن تخفف العواقب المؤلمة التي ألحقتها العقوبات بالإقتصاد الإيراني. وقد فسّر منافسو إيران الإقليميون رسالة خامنئي بأنها تعبير عن هدف إيران لمعارضة كل النفوذ الأميركي في المنطقة، وحتى في أعقاب الإتفاق النووي، وتحقيق طموحها في أن تصبح القوة الإقليمية المهيمنة، التي تعتقد إيران أنه دورها الطبيعي في المنطقة.
في مقابلة مطوّلة في شباط (فبراير) الفائت، قال وزير الخارجية الايراني والمفاوض النووي الرئيسي، محمد جواد ظريف: “يعتقد بعض من الأصدقاء الإقليميين أنه مع حل القضية النووية فإن دور إيران في المنطقة سيزيد. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن وضع إيران كدولة إقليمية قوية ومؤثرة هو الواقع، ونفوذ الجمهورية الإسلامية واضح تماماً على الرغم من الدعاية الإعلامية المعاكسة التي تم إطلاقها من قبل النظام الصهيوني وعدد من الدول الإقليمية الأخرى”. وإدّعى ظريف أيضاً أن سياسات بلاده في أفغانستان، وسوريا، والعراق كانت مسؤولة وخارج أي سؤال. ويتقاسم روحاني وظريف رؤية خامنئي بالنسبة إلى أن إيران قوة إقليمية مهيمنة، لكنهما يسوّقان تلك الرؤية بطريقة أفضل بكثير من المرشد الأعلى. وقد زعم ظريف على أن القضية النووية قد خلقت عدداً من العقبات لإيران أمام تحقيق “دورها الحقيقي في المنطقة”، ولكن عندما يتم حل المشكلة النووية سيتم إزالة تلك العقبات. ويجادل ظريف بأن إيران دولة قوية للغاية ومؤثّرة، ولكنها تستخدم قوّتها لا لإيقاع ضربات بمصالح الدول الأخرى ولكن لدفع عملية السلام والتعاون والصداقة. وأكد ظريف على أنه “سيكون مفيداً لجميع دول المنطقة وجيراننا في الخليج إذا لعبت إيران دوراً في المنطقة، وأنه لن يكون ضاراً بمصلحة أحد”.

الرهان الكبير

إن رغبة إيران في إزالة العقبات للوصول إلى القيادة الإقليمية في الشرق الأوسط لا تتلاقى مع رؤية باراك أوباما لتوازنٍ مدبَّر من الولايات المتحدة بين الدول العربية السنية (بالإضافة إلى إسرائيل) والجمهورية الإسلامية. بالنسبة إلى الدول العربية السنية، حتى لو نجحت واشنطن في تقييد البرنامج النووي الإيراني لمدة 10-15 عاماً، ونجحت في القيام بدور موازن لقوة إيران الإقليمية (كما ذكر الرئيس الأميركي سابقاً ً في مقابلته مع ريمنيك)، فعندما تنتهي الصفقة النووية المحتملة سوف تكون إيران حرة في الحصول على أسلحة نووية إذا ما إختارت، مما يحدّ من قدرة أميركا على إدارة التوازن الإقليمي. في تلك المرحلة، ستكون إيران قوة نووية إقليمية غير مقيّدة.
يبدو أن إدارة أوباما تراهن بأنه بحلول ذلك الوقت ستكون واشنطن أقامت علاقات ودية إجتماعية مع طهران وتحوّلت الأخيرة من تهديد ومفسد ثوري إلى شريك دولي معتدل وبناء. وبعبارة أخرى، قد تكون الولايات المتحدة تقامر بأن التحوّل الإجتماعي والسياسي الإيراني سوف يتفوّق على التطوير النووي الإيراني. في هذا السيناريو، سيكون من المتوقع أن يتغيَّر سلوك إيران الإقليمي لأن طهران ستحسب أن الفوائد التي تتلقاها كطرف دولي كامل ستفوق التكاليف بإنتهاج سياسة خارجية ثورية (إسترجاعية).
قد يكون رهان أوباما قد قلّل من شأن قوة الهوية الوطنية الثورية في إيران، والتي تم بناؤها وصنعها على مدى السنوات ال36 الفائتة. إن الإقتراح بأن سلوك السياسة الخارجية الايرانية يمكن أن يتقارب إجتماعياً ويتحوّل قد إفترض أن سلوك طهران يستند حصراً على حساب الحوافز بدلاً من مزيج من الحوافز والهوية. يرفض خامنئي الصيغة الملتبسة التي تدعو لا إلى تغيير الجمهورية الإسلامية، ولكن إلى تغيير سلوكها. إنه يعتبر هذا الموقف تعزيزاً ل”ثورة ليّنة” في إيران، وهجوماً مستتراً على النظام الإسلامي في إيران. في خطاب ألقاه في 12 آذار (مارس) 2015 أمام مجلس الخبراء، الذي سوف يختار في نهاية المطاف خليفة خامنئي عند وفاته، قال خامنئي: “عندما يقولون أن علينا أن نغيِّر سلوكنا، فهذا يعني أننا يجب أن تتخلّى وننسى العناصر الرئيسية لدى حركتنا، وأنه لا يجب أن نبذل أي جهد للحفاظ عليها. هذا هو معنى تغيير السلوك. وهذا هو ما يشار إليه – في بعض الكتابات والخطب – بإعتباره دين الحد الأدنى. وهو ما يعني تناقص المثل لدينا وهذا يعني تدمير الجانب الداخلي من الإسلام. هذا الدين من الحد الأدنى يعني القضاء التام على الدين”. هذه ليست مجرد كلمات للمرشد الأعلى الإيراني؛ إنها تمثل وجهة نظر عالمية معيّنة والتي على أساسها تم نصب وإقامة مؤسسات الحكومة والدولة في إيران منذ العام 1979. إن القيم الشيعية الثورية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية الإيرانية تجعل الهدف من التقارب الإجتماعي وتحويل سلوك إيران تحدياً حاداً ورهاناً محفوفاً بالمخاطر.
ويبدو أيضاً أن هذا الرهان غير مقبول من حلفاء أميركا التاريخيين في المنطقة على مستويين. أولاً، إنها تفترض أن إيران في المستقبل، بعدما تتقارب إجتماعياً مع أميركا، وتحوّل سلوكها، وربما سيكون لديها أسلحة نووية عند إنتهاء الصفقة، لن تهدّد جيرانها الإقليميين. هذا الإفتراض يتجاهل أن إيران نووية غير مقيّدة، معتدلة أم لا، سوف تغيِّر ميزان القوى الإقليمي. وهو يتجاهل أيضاً حقيقة أن النخب الإيرانية عبر الطيف السياسي، المتشددة والإصلاحية على حد سواء، تنظر إلى “دور إيراني حقيقي في المنطقة” من حيث القيادة الإقليمية، والذي يُعتبَر غير شرعي من قبل الدول العربية السنية وإسرائيل. ثانياً، وربما الأهم من ذلك، تُظهر خطة أوباما أنها وضعت رهاناً طويل الأمد مع مردود بعيد وغير مؤكد، وذلك باستخدام أمن حلفائه الإقليميين في المدى القصير كعنصر للرهان.

تحوّل ميزان القوى

في مقابلة جرت معه في كانون الثاني (يناير) 2015، إعترف حسين أمير عبد اللهيان نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون الأفريقية والعربية، أن “بعض الدول” قلقٌ من أن إتفاقاً نووياً مع إيران سيخلق قدرات جديدة قد تؤدي إلى “ترتيبات جديدة” في المنطقة. وإعترف أمير عبد اللهيان أيضاً أن البعض في العالم العربي يعتقد أن إجراء محادثات نووية مع إيران من دون معالجة القضايا الإقليمية هو أمر من دون فائدة أو منفعة.
يشعر السعوديون وغيرهم أنه في أعقاب الصفقة سوف يُعاد دمج إيران بسرعة في النظام السياسي والإقتصادي الدولي، الأمر الذي سيحيي وينعش إقتصادها ويوفّر الدعم الأميركي الضمني لها لترسيخ نفوذها في العالم العربي. بحلول الوقت الذي تنتهي الصفقة المحتملة، فإن نفوذ إيران الإقليمي من شأنه أن يكون أخذ شرعية مع الوقت وبدعم أميركي ضمني، وستكون طهران حرة في السعي إلى طموحاتها النووية. وبعبارة أخرى، يعتقد خصوم إيران بأن هذه الصفقة ستساعدها على زيادة قوتها النسبية في المنطقة.
إن المفاوضات النووية مع إيران، حسب “خطة العمل المشتركة” التي وُضعت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، لم تعالج صراحة القضايا الإقليمية، ولكن السياق الإقليمي هو الذي حدد كيفية مقاربة الطرفين للمفاوضات. في الخمسة عشر شهراً منذ إستئناف المفاوضات، نما وجود إيران ونفوذها في ثلاث عواصم: بغداد ودمشق وصنعاء، وترسّخا بعمق في رابعة، بيروت. في أواخر سبعينات القرن الفائت، أشار أستاذ العلوم السياسية الأميركي – اللبناني فؤاد عجمي بإيجاز أنه حيثما تكون هناك قوة مُفرِطة، سوف تولد مقاومة.
الواقع أن إيران تمكّنت من بسط نفوذها في جميع أنحاء العالم العربي، على الرغم من الإنخفاض الحاد في أسعار النفط، الذي يمثّل ما يقرب من 70 في المئة من عائدات الحكومة الإيرانية، ومجموعة العقوبات الدولية المؤلمة التي فرضها المجتمع الدولي عليها. لقد إغتنمت الجمهورية الإسلامية الفرصة وإستفادت من عدم الإستقرار في العالم العربي في أعقاب الإنتفاضات في 2010 و2011، والتي يشير إليها قادتها ب”الصحوة الإسلامية”. كما أثبتت أيضاً عزماً ومصداقية من خلال حفاظها على إستثماراتها الثقيلة في حلفائها الشيعة العرب. بين عامي 2011 و2014، يُعتقَد أن إيران أنفقت مبلغاً يتراوح بين 15 و 19 مليار دولار على الدعم المباشر لنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا. ومع أن موازنة السنة المالية الإيرانية الحالية تبلغ 296 مليار دولار (تعتمد على 72 دولاراً لبرميل النفط، عندما كان النفط يحوم حول 55 دولاراً)، ومن المتوقع أن يكون النمو الإقتصادي فيها صفراً لهذا العام، فإنها زادت الإنفاق على الدفاع بنسبة 33 في المئة عن العام السابق. وبعبارة أخرى، على الرغم من وجود ومواجهة حوافز مادية قوية لتقليص الإنفاق على الدفاع ودعمها لحلفائها الإقليميين في العراق ولبنان وسوريا ولبنان، واصلت الإستثمار في إبراز ونشر نفوذها في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك توفير الدعم المادي لتمرد الحوثيين الشيعة في اليمن، والذي تكشَّف بالتوازي مع المفاوضات النووية الجارية.
تعتقد إيران بأن مصالحها في الدول العربية المجاورة مشروعة. وقد تشكَّلت مصالحها الوطنية من خلال مزيج فريد من البراغماتية والإيديولوجية الشيعية الثورية. وقامت طهران، بتنظيم، وتدريب، وإبداء النصح، وتسليح الميليشيات الشيعية في العراق التي كانت في طليعة من دحر غزو تنظيم “الدولة الإسلامية” في حزيران (يونيو) 2014 في العراق. وفيما يحتضن تنظيم “داعش” هوية سنية ثورية التي تكافح ضد الشيعة، فإن إيران تعتبر أن حماية المراقد الشيعية المقدسة في العراق مصلحة وطنية حيوية. إن حماية وتعزيز الهوية الشيعية الثورية هما المبدأ الذي تقوم عليه مشاريع ونفوذ إيران في جميع أنحاء العالم العربي. ومع ذلك، ترى إيران أيضاً أن الحفاظ على نفوذها في العراق، لضمان إعتماد الحكومة والقوات المسلحة العراقية عليها، هو أيضاً مصلحة حيوية للأمة التي خاضت حرباً إستمرت ثماني سنوات مع نظام صدام حسين. مثل العراق، أطّرت إيران مشاركتها في سوريا ولبنان تحت عنوان حماية المقدسات الشيعية و/ أو السكان الشيعة. ومع ذلك، فمن الواضح أيضاً أن إيران تحافظ على الأسد في سوريا و”حزب الله” في لبنان كوسيلة للتواصل مع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية حيث المشاكل الإقليمية يمكن أن تتصاعد أو يتم إحتواؤها إعتماداً على كيفية خدمة المصالح الإيرانية.
من جهتها تعتبر الدول العربية السنية، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية، التدخل الايراني في العالم العربي على أنه غير شرعي. وربما ليس من قبيل المصادفة أنه فيما كان متوقعاً التوصل إلى إطار سياسي لإتفاق نووي مع إيران في نهاية آذار (مارس)، أطلقت المملكة العربية السعودية عملية “عاصفة الحزم” العسكرية من أجل ضرب الحوثيين في اليمن. وقد وصفت الصحيفة اليومية المحافظة الإيرانية “جمهوري إسلامي” المُنافَسة الأمنية في ما بعد مرحلة “الربيع العربي” بين إيران والمملكة العربية السعودية بأنها “كثيفة، واسعة النطاق، أساسية، وإستراتيجية”. مرددة ما قاله عجمي، العلامة الآكيدة على تكثيف المنافسة في الأمن الإقليمي كان نجاح السعوديين في خلق مجموعة موحدة من الدول السنية في دعم العملية العسكرية لدحر مكاسب الحوثيين في اليمن والحد من الدعم الإيراني للمجموعة وحلفائها. إن نشر القوة السعودية في اليمن خلال الأسابيع الماضية هو تحوّل غير مسبوق في السلوك الإستراتيجي السعودي.

التوازن والشرعية

يريد الإيرانيون أن يروا النفوذ الأميركي في حده الأدنى وإزالته في نهاية المطاف من المنطقة، لأنهم يعتبرون أن الولايات المتحدة عقبة تاريخية لتحقيق دورهم “الحقيقي” كقوة إقليمية. إنهم يريدون أيضاً إعادة تأهيل الاقتصاد والإبقاء على أكبر قدر ممكن من حرية العمل في ما يتعلق بأنشطتهم النووية وتأثيرهم الإقليمي. إنهم لا يبحثون أو يسعون إلى توازن إقليمي. ما زال السعوديون وغيرهم يحاولون أن يوطّنوا أنفسهم ويتعايشوا مع التغييرات التي أدخلتها إضطرابات “الربيع العربي” وغزو العراق في العام 2003. إنهم يودون خفض النفوذ الايراني في الشؤون العربية إلى أدنى مستوى ممكن وفي نهاية المطاف إزالته. إنهم يودون أن يكون برنامج إيران النووي شفافاً. كما أن إدارة أوباما ترغب في هندسة توازن بين الدولتين الإقليميتين المتنافستين، وتعتقد أن الإتفاق النووي هو الخطوة الأكثر أهمية للبدء في إحداث هذا التغيير، شريطة أن يمنع بشكل مقنع مسار إيران للحصول على أسلحة نووية.
إن منافسي إيران الإقليميين يقومون بنشاط ويبذلون جهوداً لإعادة ضبط موازين القوى في المنطقة وإستيعاب دور توسعي أكثر لإيران. هذه العملية هي في بدايتها وعلى الأرجح أن تتميز بتكديس عسكري سريع، وزيادة الصراع غير المباشر (في اليمن وأماكن أخرى)، وسياسة لحافة الهاوية متقلبة، والتآمر السياسي والتخريب العسكري المتبادلين اللذين يشملان جماعات الأقلية الدينية والعرقية المكبوتة. إن الإضطرابات العربية العنيفة في محافظة خوزستان في إيران خلال مباراة لكرة القدم في الأهواز بين نادٍ إيراني وآخر سعودي قد يكون عرضاً مسبقاً لأسوأ الأمور التي قد تحدث في المستقبل. لقد وضعت الولايات المتحدة رهاناً كبيراً والآن يبقى أن نرى ما إذا كان ذلك سيؤتي ثماره أم أنها سوف تفقد ما راهنت عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى