اليونان وخطوط الاشتباك الجديدة في أوروبا

بقلم الدكتورمحمد سليم وهبه*

دخلت الازمة المالية اليونانية في إطار جيو – إستراتيجي تخطّى الواقع المالي والمصرفي، ولم تعد الديون البالغة 320 مليار دولار هي الهدف الفعلي للسياسات المتّخذة. فإرتباطات المصالح، والصراعات الإقتصادية، وقواعد الإشتباك المتنقلة تُنذر بأوضاع غير إعتيادية في اوراسيا، وتحتِّم إعادة هيكلة العلاقات بين روسيا والإتحاد الأوروبي.
صحيح أن الأزمة المالية العالمية في 2008 كانت المحرّك الأساسي للأزمة اليونانية، بعد كشف التلاعب بسبب الفساد المتفشي في جهاز القطاع العام، وعدم شفافية المعلومات المُقدَّمة من اليونان إلى الإتحاد الأوروبي.
لقد وُضِع على اليونان شرطٌ لتفعيل خطة إنقاذ مالي في 23 حزيران (يونيو) 2010 والحصول على تسهيلات يكمن في القيام بإجراءات تقشّف تهدف إلى خفض الإنفاق. وقد قبلت أثينا وقتها بتقليص أجور الموظفين من 20 الى 30%، وتجميد الأجور لمدة 4 سنوات، وتخفيض الرواتب بنسبة 7%، وزيادة 7 سنوات على سن التقاعد، وتقليص أجور موظفي القطاع الخاص 25%، وحذف معاش تضامني مخصص للفئات الضعيفة، وتخفيض الرواتب المخصّصة للعائلات و العجزة و التعويض عن الأطفال، ورفع بعض الرسوم والضرائب والإشتراك في النقل العمومي 30%.
أدى التقشّف إلى إرتفاع نسبة الفقر 7%، وأصبح عدد الفقراء 27,7% بما يوازي 3 ملايين مواطن، وتسبّب في إرتفاع البطالة إلى 27% ، وتخفيض الأجور ينسبة 30%، ورُفِعت الرسوم والضرائب وتقلّصت موازنات القطاعات الإجتماعية فإرتفعت معدلات الفقر ألمر الذي أدّى إلى تزايد الحملات ضد المهاجرين وظهرت من جديد حركات عنصرية.
لأمر في نفس يعقوب، رفض الإتحاد الأوروبي البحث في مسألة كميات النفط والغاز الموجودة في المياه اليونانية والتي تشير التقديرات الاولية الى وجود كميات تتجاوز 22 مليار برميل في البحر الأيوني إلى الغرب وحوالي 4 مليارات برميل في شمال بحر إيجه إلى الشرق، إلى جانب أن الأجزاء الجنوبية من بحر إيجه وبحر كريت لم يتم إستكشافها بعد، حيث تقدر دراسات البحث أن كمية الإحتياطي من الغاز الطبيعي تقترب قيمتها من 9000 مليار دولار، وهذا موضوع يدخل في اطار الصراع الذي يترابط محوره مع الحروب الدائرة في سوريا والعراق، والتي ترددت اصداؤه الى أوكرانيا.
المهم وبغض النظر عن مسببات السياسات المتّخذة، فإن سياسة التقشف المفروضة من قبل الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي كان لها إنعكاس كارثي على المجتمعات اليونانية، والتي دفعت الجماهير الى تبني برنامج المرشحين اليساريين الذين تمثلت مطالبهم بتجميد خدمة الدين العام، وإلغاء قسم منه، ومعالجة الوضع الاقتصادي المتردّي لبلد يعيش أزمة بطالة خانقة، ورفض التقشف وشروط الدائنين الدوليين، ليصل الى حدود فك الإرتباط مع حلف “الناتو” وإغلاق القواعد العسكرية الأجنبية على التراب اليوناني، في إشارة إلى القاعدة البحرية الأميركية في جزيرة كريت، وإنهاء التعاون العسكري مع إسرائيل، وهي أمور لها بعدها الإستراتيجي على صعيد منهجية دولية.
ليست المرة الاولى التي تمر بها دولة اوروبية او مناطق أخرى بأزمة، لكن الواقع الحالي يفرض قواعد لعبة جديدة محفوفة بالمخاطر، وقد برز الصدام الاول فيها مع حرمان البنك المركزي الأوروبي في 05/02/2015 المصارف اليونانية من قناة تمويل رئيسية كانت تستخدمها. معركة شد الحبال إبتدأت، ولم تكن لتقوم بها اليونان لولا الدعم المعنوى التي يساندها، والا كيف كان لليونان ان تسارع الى التقليل من شأن قرار المركزي الأوروبي، وأن هذه الخطوة لن تكون لها تداعيات سلبية على القطاع المالي في البلاد الذي يبقى محمياً بفضل وجود قنوات أخرى للسيولة دون ذكر هذه القنوات، وان كان يعني فعليا بذلك روسيا أو الصين.
ويمثل هذا الوضع تحدياً للإتحاد الأوروبي ولليونان على حد سواء، ففي 28/2/2015 رضخ الإتحاد الأوروبي ومنح اليونان فترة زمنية لغاية تموز (يوليو). هذه الفترة تسمح من جهة لليونان تقييم الوضع في أطر التحالفات الجديدة مع طرح الإمكانات والقدرات النفطية والغازية، وللأوروبيين في تقييم المخاطر وقدرات التحمل لضرورة سداد 19 مليار يورو، منها 1,6 مليار يورو لصندوق النقد تستحق في نيسان (إبريل) ضمن المهلة والتي لن تتمكن بها اليونان من الحصول على أموال، تليها إستحقاقات سندات للمركزي الأوروبي بقيمة 3,5 مليارات يورو في تموز (يوليو) و3,2 مليارات في آب (أغسطس).
في مجمل الاحوال قد تكون الخاسرة االكبرى هي أوروبا، فإما ان ترضخ للشروط اليونانية، فتموّل الإفلاس المؤجل عن طريق دافعي الضرائب في باقي دول الإتحاد، وهو ما يرفضه الإتحاد وحكوماته وشعوبه، وهو سيكون مسببا للبلدان التي لديها صعوبات مالية لطلب الحوافز نفسها، وهو أمر لن يترك الإتحاد الاوروبي معافى مالياً وسياسياً.
إن التفكير في القبول بإعادة النظر في الإتحاد الأوروبي، الفكرة والمشروع والآليات، وفتح المجال لخروج اليونان من الإتحاد والتغاضي عن مطالبتها بديونها، دون أن يضمن ذلك عدم تأثير العاصفة اليونانية في الدول الضعيفة في الاتحاد الاوروبي في سيناريو مأسوي وكابوس إقتصادي وسياسي، ما يترك حرية لأثينا ربما للإنطواء في جناح الفكر الأوراسي لتتبعها في ما بعد إيطاليا وفنلندا، والبرتغال، وإيرلندا، وإسبانيا على مدخل المحيط.
لقد بدأت روسيا فعلياً تكثيف الإتصالات العسكرية مع اليونان. والنظر في إمكانية التعاون الإستراتيجي، وقد تلّقى وزير الدفاع اليوناني دعوة من نظيره الروسي ليزور موسكو.
الترويكا المتمثلة بصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الاوروبي وأصحاب المصالح أمام الإمتحان الصعب، والخوف من أن تحرق النار اليونانية أصابع الغرب إذا لم تتمكن الرأسمالية في تغيير المنهج الريعي في إخضاع الشعوب، بخاصة وأن الغرب رسم قواعد إشتباك جديدة بعد فتح الصراع في أوكرانيا، وحذارِ من أزمة أوكرانية ثانية في قلب أوروبا حيث سيكون باستطاعة روسيا الإتحادية فيها ان ترد الصفعة لتسمع إرتداداتها في طرف المحيط.
• خبير إقتصادي، وأستاذ في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى