مشهدٌ مالي جديد في أسواق الخليج العربي

قد تكون دول الخليج العربي غنية، ولكن إطلاق سراح الإمكانات المالية الحقيقية الموجودة في المنطقة لا يزال يشكّل تحدياً لصناعة إدارة الأصول كما يشرح التقرير التالي:

البنك السعودي البريطاني: دمج وحدة الخدمات المصرفية الخاصة مع قسم إدارة الثروات
البنك السعودي البريطاني: دمج وحدة الخدمات المصرفية الخاصة مع قسم إدارة الثروات

أبو ظبي – عمار الحلاق

إتّخذ مديرو الثروات في العالم موقفاً تميّز إلى حد ما بالإنفصام بالنسبة إلى منطقة الخليج في السنوات الأخيرة. غالبية المصارف الخاصة الكبيرة التي ما زالت مستمرة في خدمة عملاء الخليج، وتبحث عن آخرين جدد، تدرك تماماً الكميات الضخمة من الثروة التي تتجمع وتدور في جميع أنحاء المنطقة بحثاً عن مديرين لإدارتها. لقد قُدِّرت الثروة الإجمالية الخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي في العام 2013 ب5.2 تريليونات دولار، أي بزيادة قدرها 11.6 في المئة عن العام 2012، وفقاً لتقرير “الثروة العالمية 2014” الصادر عن “مجموعة بوسطن الإستشارية”.
من جهتهم يتوقّع المصرفيون الخاصون الناشطون إقليمياً بأن هذا المخزون من الثروة سوف يزداد في السنوات المقبلة. وترى الأبحاث المنشورة من قبل بنك “ستاندرد تشارترد” بأن الثروات الخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من المرجح أن تنمو إلى ما يصل إلى 6.5 تريليونات دولار بحلول نهاية العام 2017، مع معظم الزيادة من خلق الثروة الجديدة سوف يأتي من الإقتصادات الغنية بالنفط – وبغالبية ساحقة من دول مجلس التعاون الخليجي.
مع ذلك، يفترض “ستاندرد تشارترد” أن هناك تحولاً كبيراً جداً في السوق المصرفية الخاصة في هذه المنطقة. ولكن من الصحيح القول أيضاً أن منطقة الشرق الأوسط صارت تمثّل بشكل بارز إهتماماً أقل مما كانت عليه عندما يتعلق الأمر بالإستراتيجيات العالمية لمديري الثروات والأصول.
الشركات المالية الكبيرة ذوات البصمة العالمية تعطي حالياً الأولوية للنمو في الأسواق الناشئة، ولكن بسبب زيادة متطلبات إدارة المخاطر المفروضة عليها في تلك الأسواق، فإنها الآن صارت أكثر إنتقائية بكثير مما كانت عليه.
والأمر، في نهاية المطاف، ليس مواتياً لمنطقة الخليج. على الرغم من المخزون العالي نسبياً من الثروات الخاصة فيها، فإنها لا تزال صغيرة مقارنة بالثروات المالية الخاصة العالمية المقدّرة ب152 تريليون دولار حسب تقرير “مجموعة بوسطن الإستشارية” لعام 2014.
آسيا، على سبيل المثال، تستعد للتفوّق على مناطق أخرى من حيث حجم الأصول. إن قيمة صافي أعلى المحافظ بالنسبة إلى الفرد في آسيا تجاوزت مثيلتها في أميركا الشمالية، وحقّقت دولها بالتالي أكبر تجمع ثروات في العالم بحلول العام 2015، وفقاً لبحث من الشركة الإستشارية “كابجيميني”. وبلغت الثروة الخاصة في منطقة آسيا 37 تريليون دولار مع نهاية العام 2013، ما يقرب من عشر مرات أكبر من حجم الأصول الخاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، ومن المرجح أن تشكّل آسيا نحو نصف النمو العالمي في الثروات الخاصة حتى العام 2018، وفقاً لتقرير “مجموعة بوسطن الإستشارية”.
وهذا يترك التركيز الكبير لمديري الثروات ينصبّ على منطقة آسيا، بدلاً من الخليج. وهو ما يفسّر جزئياً لماذا بعض من أكبر الأسماء في عالم الخدمات المصرفية الخاصة، مثل “بيكتيت” (من سويسرا) و”ميريل لينش” (من أميركا)، إختارت تقليص نطاق أعمالها أو حتى مغادرة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. وتشمل لائحة المغادرين شركات مالية ومصرفية أخرى مثل “لويدز”، و”كلاردين لوي”، و”فونتوبل”، التي حوّلت عملياتها أو ببساطة أغلقت مكاتبها في المنطقة. وقد باع البنك الإستثماري “مورغان ستانلي” وحدة إدارة الثروات الخاصة التي تخدم منطقة الشرق الأوسط في العام 2013.
حتى بنك “ستاندرد تشارترد” البريطاني – الراسخ منذ فترة طويلة في الخليج – خفّض وجوده. إن الخروج أو إعادة تشكيل غير أساسية للشركات ذات الأداء الضعيف هما جزء من إستراتيجية تعزيز أداء المجموعة والإستفادة المثلى من نشر وإستخدام رأس المال. في العام الفائت، أعلن البنك البريطاني بيع أو إغلاق الأنشطة المصرفية الخاصة ومختلف المحافظ الصغيرة في الشرق الأوسط، وخصوصاً في دولة الإمارات العربية المتحدة.
مع ذلك، فضّلت مصارف أخرى عدم النزوح من منطقة الشرق الأوسط. فقد إستحوذ البنك الخاص السويسري “جوليوس باير” على شركات إدارة الثروات الدولية التابعة ل”ميريل لينش” في لبنان والبحرين والإمارات العربية المتحدة في كانون الاول (ديسمبر) 2013، في محاولة لكسب موطئ قدم جديد في بيروت والمنامة وتعزيز حضوره الموجود في دبي، وبالتالي زيادة تعزيز موقفه العام في سوق إدارة الثروات في الشرق الأوسط. ويتوقع البنك أن تنتهي عملية الدمج والتكامل في وقت قريب.
في دبي، إنتقل مكتبان ل”ميريل لينش” إلى إدارة “جوليوس باير” القائمة هناك، واحدٌ مقره في المنطقة الحرة لمركز دبي المالي العالمي وآخرٌ مقره في سوق دبي المحلية. وقد إنتقل الموظفون، والعلاقات مع العملاء، وغالبية أصول الشركات في الشرق الأوسط في أوائل كانون الاول (ديسمبر) 2013.
وأشار ريمي بيرسييه، عضو المجلس التنفيذي ورئيس جنوب أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا في “جوليوس باير”، إلى أن كسب موطئ قدم جديد في أسواق الشرق الأوسط في لبنان والبحرين وتعزيز وجود الشركة القائم في دبي يُعتبر خطوة مهمة للبنك، و”سوف يمكّننا هذا الفعل من توسيع تواجدنا في هذه المنطقة الرئيسية النامية”.
في الشرق الأوسط، لدى “جوليوس باير” الآن مكاتب في أبو ظبي وبيروت والقاهرة ودبي واسطنبول والمنامة، مع توقّع أن يتم الدمج كاملاً في الربع الأول من العام الجاري.
بنك “لازارد لإدارة الأصول”، الذي إشترى فريق بنك “إنج للإستثمارات” في دبي، يتطلع أيضاً لإستهداف السوق الخليجية، التي ينشط فيها بالفعل في البحرين. كما أن “ساكسو بنك” هو مصرف آخر يريد زيادة بصمته في الشرق الأوسط.
ولكن هذه التوسّعات تبدو إستثناء في هذا الاتجاه. معظم مديري الثروات الدوليين الكبار فضلوا ترك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويرجع سبب ذلك جزئياً إلى زيادة متطلبات إدارة المخاطر التي فُرضت عليهم (ليس بالضرورة في منطقة الخليج نفسها).
وحسب تعليق أحد مستشاري إدارة الثروات ل”أسواق العرب”: “في جميع أنحاء العالم، تواجه شركات إدارة الثروات غرامات لأمر أو لآخر، وقد أصبح الوضع أكثر تكلفة لتشغيل الأعمال المالية مما كان عليه الأمر قبل خمس سنوات. لدى هذه الشركات الآن مادة كتاب جديد لتنفيذ هذا يكلفها عدداً من نقاط أساسية من هوامش أرباحها. ذلك أنه يجب أن تكون إنتقائية جداً. وإذا كانت تودّ الإنتقال إلى أسواق النمو، عليها أن تكون حقاً واحدة من تلك التي لديها إمكانات على المدى الطويل”.
الواقع أن الخطر يكمن في أن مديري الثروات يمكن أن ينفقوا خمس سنوات في بناء التكاليف ومن ثمّ قد يواجهون إعتراضاً بسبب تغيير تنظيمي كبير. ونظراً إلى عدم الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط – الذي تفاقم من جراء تراجع أسعار النفط – فإن الرهان على خمس سنوات في المستقبل ليست شيئاً يرتاح إليه العديد منهم.
لقد عامل المنظّمون البنوك الخاصة بشكل قاسٍ وصعب. في الولايات المتحدة، يستهدف قانون الإمتثال الضريبي أي بنك يتعامل مع عملاء أميركيين، مع عواقب واضحة بالنسبة إلى البنوك التي تستهدف عملاء في الخارج في منطقة الخليج. حتى سويسرا، المعروفة بالملاذ الآمن للخدمات المصرفية الخاصة، وقعت إتفاق ضريبة (روبيك) ثنائياً مع عدد من الحكومات الغربية، معلنة بذلك موافقتها على تبادل المعلومات المتزايدة بين البنوك التي تعمل في سويسرا والدول الأجنبية.
ولكن أي تحفظ من البنوك الخاصة العالمية بالنسبة إلى العمل في الخليج العربي لا يعود سببه الى زيادة المتطلبات التنظيمية. هناك قضية مهمة أخرى والتي تكمن في الطريقة التي تمّ فيها هيكلة إقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تركّز الثروة بشكل كبير على الميراث أو الإرث. وهذا يعني أنه على الرغم من أن المحافظ تنمو في الحجم، جنباً إلى جنب مع الأسواق، فإن هذه الثروة لا تُوزَّع بالطريقة عينها التي تعمل في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا. العديد من العملاء مرتبط بعلاقات بنكية طويلة الأمد، مع إختيار العائلات المالكة عادة سويسرا لإستثمار رؤوس أموالهم. وهذا الوضع يبدو تحدياً على نحو متزايد لمديري الثروات الدوليين الذين ينقّبون عن أعمال وأموال جديدة في هذه الظروف.
وقد سعى البعض بدلاً من ذلك إلى إستهداف الثروة الوافدة إلى دول الخليج، على سبيل المثال العائلات الهندية التي إستقرت في دول مثل الإمارات العربية المتحدة. وهذه العائلات تميل إلى أن تكون من فئة التجار، ولكن هذا الميدان مازال صغيراً ويبقى مقصداً وهدفاً لعدد قليل من اللاعبين المتخصصين، مثل ستاندرد تشارترد.
إن العديد من البنوك لديه إستراتيجية عالمية تستهدف الهنود الأثرياء، والشرق الأوسط هو جزء مهم من ذلك. وفقاً ل”مجموعة بوسطن للإستشارات”، من المتوقع أن تصبح الهند أغنى سابع دولة في العالم بحلول العام 2018، مع توقع إجمالي ثروة مالية خاصة تبلغ 5 آلاف مليار دولار، أي أكثر من ضعف ما كانت عليه في 2013. ويمثّل هذا أكبر قفزة بين أكبر 15 أغنى بلد متوقع في العالم.
في ضوء هذه الإتجاهات، سيتساءل العديد من مديري الثروات ماذا يمكنهم أن يجنوا حقاً من الشرق الأوسط. مع وفرة المال في الخارج، والمال المحلي غير مستقر ومتخصص، فإن المخاطر قد تكون عالية في دول الخليج.
وهذا يترك المزيد من الفرص للاعبين المحليين لسرقة حصة السوق من المؤسسات الكبيرة. وبالفعل، إن مديري الأصول و”محلات” إدارة الثروات بدأت تظهر في الأسواق المحلية لسد الفجوة التي خلّفتها الشركات الدولية.
بعضهم كسح و”كنّس” الفرص التي تركتها فروع صناديق إستثمار العائلات المالكة أو البنوك المملوكة للدولة التي تسيطر عليها العائلة المالكة. وغالباً ما تترك الأخيرة “المال الهابط عليها” في الخارج، وهي تملك حصصاً كبيرة في البنوك الدولية والمحلية، فضلاً عن مديري الأصول، لذلك فهي مغطاة كيفما ذهب توجه السوق. لكن الشركات المحلية تلتقط صفقات جيدة وعادلة من الأموال التجارية التي تأتي من الطبقة الوسطى الجديدة، معظمها من آسيا. ونظراً إلى هيمنة هذه المجموعة السكانية في دبي، فإن الإمارة أثبتت أيضاً بأن لديها شيئاّ من الجذب المغناطيسي لمديري الثروات على المستوى الإقليمي.
بعض الإمتيازات المحلية لكبار اللاعبين الدوليين تخلّى أيضاً عن فضاء إدارة الثروات في الخليج. البنك السعودي البريطاني ، الشركة الزميلة ل”أتش أس بي سي” (HSBC)، دمج وحدة الخدمات المصرفية الخاصة مع قسم إدارة الثروات، مانحاً بذلك عملاء الخدمات المصرفية الخاصة فرصة الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات وشبكة واسعة من الفروع. ويمكنه أيضاً تقديم المنتجات الإسلامية، وهذا إختلاف آخر عن بعض اللاعبين الدوليين.
الواقع أنه ليس هناك أي مدير جدي للثروات سوف يتجاهل فرصة جيدة لخدمة العملاء الأفراد الذين يتمتعون بثروة عالية في منطقة الخليج إذا نشأت الحاجة. ولكن عموماً، من المرجح أن تميل السوق نحو اللاعبين المحليين المتخصّصين، وكثير منهم ليس مشهوراً ومتواضع الصورة في السوق – وهو ما يتناسب مع تفضيلات المستثمرين الخليجيين. في هذا المشهد السريع التغير، من المتوقع أن نرى بعض المدّعين الجدد من المحليين الذي سيعمل جاهداً لكسب مكان في السوق والتنافس مع أسماء راسخة مثل “جوليوس باير” و”كوتس” في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى