اليورو كان فكرة سيئة منذ البداية

منذ إطلاق العملة الموحدة الأوروبية في العام 1999 إنقسم أهل الخبرة بين مؤيد ومعارض لليورو. وبعد الأزمة المالية في العام 2008 والتداعيات التي حملتها إلى الإقتصادات في القارة العجوز، علت أصوات المشككين بأوروبا والتي دعت إلى إلغاء اليورو. مديرة الأبحاث الإقتصادية الدولية في مركز البحوث البريطاني “تشاتهام هاوس”، باولا سوباتشي، تدلي بدلوها في هذا الموضوع.

ماريو دراجي: سنقوم بكل ما يلزم لإنقاذ اليورو
ماريو دراجي: سنقوم بكل ما يلزم لإنقاذ اليورو

بقلم باولا سوباتشي*

بعد إحدى عشرة ساعة من المفاوضات المحمومة ولَويّ الأذرع والضغوطات على مستوى القارة الأوروبية، توصّلت السلطات في منطقة اليورو والحكومة اليسارية الجديدة في اليونان إلى إتفاق. إذا كنت مندهشاً، يجب ألّا تكون كذلك. كانت الصفقة في اليد منذ البداية لسبب واحد بسيط: في نهاية المطاف، لا الحكومة اليونانية ولا ألمانيا والدول الأعضاء الأخرى في منطقة اليورو تستطيع المخاطرة بالتسبب في أزمة مالية دولية من طريق قطع المال وعدم ضخه في أنابيب البنوك اليونانية.
لقد تم الحفاظ على الإستقرار المالي في الدول ال19 التي تشكّل منطقة العملة الأوروبية الموحّدة – على الأقل حتى الآن. ولكن ترقيع الوضع لم يُزِل السؤال الرئيسي: إلى أين الذهاب من هنا؟ هناك الكثير من “تعب التقشف” في أوروبا في الوقت الحالي. وهذا مفهوم، ولكن لا ينبغي لهذا الشيء أن يسمح بتشويه الجدل والسماح لأوروبا بتفادي إجراء تقييم شامل، تشتدّ الحاجة إليه، لمشروع اليورو بأكمله: هل لا يزال له معنى، نظراً إلى قيوده وحدوده؟ كيف ينبغي أن يكون الطريق إلى الأمام؟ وعليه، هل كان إطلاقه حتى فكرة جيدة؟
الواقع أن الإتحاد النقدي في أوروبا إستند على إقتصاد سيِّىء منذ البداية. وكما كتب الإقتصادي الألماني روديغر دورنبوش في مجلة “فورين أفيرز” الأميركية في العام 1996، “إذا كانت هناك فكرة سيئة على الإطلاق، فهي تمثّلت بإنشاء الإتحاد الإقتصادي والنقدي. إن منطقة اليورو لا تحمل ملامح ما يسميه الإقتصاديون “منطقة العملة المُثلى”. ووفقاً لتعريف موحّد، تتميز منطقة العملة المثلى بتحركية عمل مثالية، ومرونة أجور مُتقنة، ونظام تقاسم المخاطر، مثل التحويلات المالية عندما تواجه منطقة –أو بلد عضو- صدمة إقتصادية أو مالية.
بدأت الإختلالات بين البلدان ذات الفائض والعجز في منطقة اليورو تتراكم حتى قبل الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وهي لا تزال في قلب مشاكل أوروبا. وحقيقة أن الكثير من التركيز قد إنصبّ على تدابير قصيرة النظر لضبط الأوضاع المالية العامة لم يساعد. والإصرار، كما هو الحال في برنامج الإنقاذ، على اليونان بأن تحافظ على فائض أولي أكثر من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي من أجل خفض عجز الدولة ووضع الدين العام على طريق الإتجاه النزولي لم تكن فكرة جيدة. ولكن هذه التدابير المتهوّرة ربما كان لا مفرّ منها: إن هذا البرنامج يعكس الضغوط السياسية في دول منطقة اليورو الأساسية للحدّ من نطاق التنازلات بالنسبة إلى إرتفاع الإنفاق، وهي دول غير مسؤولة مالياً.
من جهته أدّى بقاء اليورو في سياق الأفضليات الوطنية غير المتجانسة إلى حالة ركود طويلة، مع إرتفاع في معدلات البطالة وتدهور مستويات المعيشة في بعض البلدان، ودين عام لا يمكن السيطرة عليه، وإرتفاع شعبية المشكّكين في أوروبا. اليونان، على سبيل المثال، شهدت إقتصادها يتقلّص من العام 2008 إلى العام 2013. وعاشت إيطاليا ركوداً مزدوجاً و 14 ربعاً سنوياً متتالياً من النمو السلبي منذ العام 2011. كلا البلدين لديه مستويات عالية من البطالة: 25 في المئة في اليونان و12 في المئة في إيطاليا.
والنهاية لا تبدو قريبة. لقد تمّ إصلاح المشاكل، ولكنها لم تُحلّ. على سبيل المثال، إن مسألة كيفية التعامل مع مستويات الدين العام الكبيرة جداً في ظل الجمود الهيكلي والقيود المؤسسية لمنطقة العملة – بما في ذلك الحظر المفروض على تنقيد الديون على مستوى منطقة اليورو – ستظل تطارد بقاء مشروع اليورو، وتهدّد على حد سواء الإستقرار المالي والجدوى السياسية.
إن الطريق الوحيد للمضي قدماً بالنسبة إلى البلدان المثقلة بالديون، مثل اليونان وإيطاليا، يبدو أنها تكمن بالإستمرار أكثر أو أقل مع الوصفة عينها: خفض الأجور، وزيادة مرونة سوق العمل، وتنفيذ الإصلاحات في جانب العرض، مثل الخصخصة وتقليص القطاع العام. هذه الأمور تعالج بشكل صحيح جمود نظام سعر الصرف الثابت مثل الإتحاد النقدي الأوروبي وتهدف إلى تحسين الإنتاجية. ولكنها تضع جانباً الإعتبارات السياسية مثل إلى أي حد يريد الناخبون التقشّف وكم هو الحجم الذي هم على إستعداد لتقبله.
داخل النظام الحالي، قيّدت الدول الأعضاء نفسها بأسعار صرف ثابتة، التي تعكس معدّل تحويل العملات الوطنية إلى اليورو. لم يعد من الممكن إستخدام سعر الصرف كأداة سياسة لجعل الصادرات أكثر قدرة على المنافسة وإعادة التوازن إلى الإقتصاد المحلي. وهكذا، يمكن لبلد أن يحقق القدرة التنافسية على المدى القصير فحسب، من خلال خفض الأجور وتكاليف العمالة.
منذ بداية أزمة اليورو، أدّت المناقشة المحدودة للسياسة العامة والآراء السائدة إقتصادياً وسياسياً للبلدان الأقوى (خصوصاً ألمانيا) إلى تحويل سعر الصرف الثابت للإتحاد النقدي المقيَّد أصلاً إلى نظام عقابي. والضغوط الإنكماشية، كما في حالة محيط منطقة اليورو، جعلت الأمر أكثر صعوبة للحد من نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي.
وهنا أسوأ جزء: لا شيء من هذا كان ينبغي أن يكون مفاجأة. إن مشروع اليورو لم يكن المرة الأولى حيث أجبر سعر الصرف الثابت البلدان على إعادة التوازن من خلال الإنكماش المؤلم وغير المجدي. قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها لفترة وجيزة، عمل الإقتصاد العالمي على معيار الذهب، الذي كان يؤدّي وظيفته على مستوى العالم، بالطريقة عينها التي يقوم بها اليورو ضمن 19 بلداً، للبلدان التي إستخدمته كعملة خاصة بها. ونتيجة للكساد العظيم، لم يعد بإمكان البلدان التعامل مع تخفيضات الأسعار والأجور اللازمة للحفاظ على القدرة التنافسية، وبدأت التخلي عن معيار الذهب. وقد تركت بريطانيا في العام 1931 هذا النظام عندما أصبح من الواضح أن سعر صرف الجنيه الاسترليني كان مرتفعا للغاية وكان يدفع إلى تصاعد معدّل البطالة في البلاد.
هذا الخيار غير متاح للدول الأعضاء في منطقة اليورو. فهي مقيّدة بإلتزامات معاهدة ولم تعد عملاتها موجودة – إلّا إذا كانت على استعداد للذهاب إلى أسفل الطريق الفوضوي وكسر اليورو، شيء حتى الحكومة المتطرفة في أثينا تقول انها لا تريد القيام به. ولكن التعب من التقشف رفع السقف وجعل السياسات الإنكماشية أقل قبولاً في بلدان ديموقراطية. وينعكس هذا في النقاش الذي صار أكثر فأكثر إستقطاباً، بين الأحزاب المؤيدة لليورو والأخرى المعارضة له، وبينهما تلك المؤيدة لألمانيا وتلك المضادة لألمانيا.
إن الإتحاد النقدي الأوروبي هو مشروع سياسي مبني على الإفتراض المستحيل بأن عملة موحّدة – وسوق واحدة – يمكن أن تتجاوز المصالح الوطنية والسياسة الداخلية. لقد أظهرت قصة السنوات الخمس الفائتة تكاليف هذه الإفتراضات. وهذا يوفّر لأوروبا فرصة للتفكير بشأن ما إذا كان الإلتزام بالحفاظ على اليورو – والقيام “بكل ما يلزم” حسب العبارة المشهورة الآن لرئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي – هو الطريق الصحيح للمضي قدماً، وخصوصاً إذا أثّرت هذه الإستراتيجية سلباً على رفاهية بعض الدول الأعضاء وهدّدت بتقويض الديموقراطية.
باولا سوباتشي هي مديرة البحوث الإقتصادية الدولية في “تشاتهام هاوس” في لندن.
• كُتِب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى