الجريمة والعقاب في الأردن مسألة لها حسابات سياسية

على الرغم من أن الأردن كثّف ضرباته الجوية على “داعش” إنتقاماً لحرق الطيار معاذ الكساسبة، إلا أن التنظيم يتمتّع بنفوذ في المملكة. وفي الوقت الذي أثار شريط فيديو إحراق الكساسبة الغضب في أرجاء الأردن، لا تزال عمّان، التي إندلعت فيها تظاهرات منددة بعملية القتل الفظيع، مرتعاً لدعم “داعش”، الأمر الذي يثير القلق في أوساط القوى الأمنية والقصر الملكي، ويعيد خلط الحسابات السياسية.

معاذ الكساسبة: هل مقتله يغير رأي الأردنيين ضد "داعش"؟
معاذ الكساسبة: هل مقتله يغير رأي الأردنيين ضد “داعش”؟

عمّان – ليلى الشامي

هزّ الفيديو المروّع لتنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يصوِّر حرق عناصره الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً، العالم. الملك عبد الله الثاني، الذي كان يزور واشنطن عندما تم الإفراج عن الفيديو، تعهّد بالثأر لمقتل الكساسبة وعلى الفور عاد إلى الأردن. حتى قبل وصوله، شُنق إثنان من أبرز سجناء تنظيم “القاعدة”، ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي، اللذان لهما علاقات ب”الدولة الإسلامية” ومحكوم عليهما بالإعدام في المملكة.
إستقبل الأردنيون وصول عاهلهم وخبر إعدام الإرهابيين بالإبتهاج. ولكن تحركات المملكة المقبلة ضد “داعش” لا تزال غير واضحة، على الرغم من الغارات الجوية التي قام بها سلاحها الجوي على مدى أيام متتالية. الأردنيون يريدون الإنتقام، ولكن حتى الآن كانت مشاركة المملكة في الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الجماعة الإرهابية لا تحظى بشعبية في الداخل. في الواقع، حتى تاريخ مقتل الكساسبة، كان “هاشتاغ” “تويتر” يتجه في الأردن، “#ThisIsNotOurWar”، هذه ليست حربنا.
وإذا كان الماضي يشكّل سابقة، يمكن أن يكون قتل الكساسبة على يد “داعش” مؤشراً إلى التغيّر -بشكل مؤقت على الأقل- في المواقف الشعبية الأردنية تجاه الحرب، وينذر بدور أكثر قوة للمملكة في العمليات العسكرية.
خلال الأشهر الستة الماضية، كانت المعارضة ضد المشاركة في الحرب الدائرة في سوريا تتمتع بقاعدة عريضة في الأردن، بما في ذلك السكان العلمانيين والإسلاميين. فقد أدانت جماعة “الإخوان المسلمين” الأردنية المشاركة في الإئتلاف بوصفها إنتهاكاً لدستور البلاد و”حملة ضد الإسلام”. وفي الوقت عينه، قلق بعض الأردنيين العلمانيين من أن يؤدي دور المملكة في الحرب الجوية إلى هجمات إنتقامية إرهابية من “داعش”. آخرون، مثل الكاتبة البارزة لميس أندوني، إعتبرت أن الأردن قد إبتزته الولايات المتحدة والجهات المانحة الرائدة للمملكة، ودفعته إلى المشاركة. الحملة، كتبت في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2014، تمثّل “تبعية كاملة لسياسات ورغبات واشنطن”.
مع ذلك، بالنسبة إلى معظم الأردنيين، فإن المعارضة ضد تحالف الحرب على “داعش” يبدو أنها كانت مدفوعة بديناميكية ما يحدث في سوريا، حيث حسب إعتقادهم، منذ العام 2011، قتل نظام الرئيس بشار الأسد العلوي الشيعي 200،000 شخص، معظمهم من السنّة. وفي هذا السياق، رأى العديد من الأردنيين أن تنظيم “الدولة الإسلامية” السني هو خصم فعّال ضد الأسد. ليس من المستغرب، وفقاً لإستطلاع للرأي نُشر في أيلول (سبتمبر) الفائت من قبل مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، بأن هناك 62 في المئة فقط من الأردنيين يعتبرون “داعش” منظمة إرهابية.
حتى قبل القبض على الطيار معاذ الكساسبة من قبل “داعش” في سوريا في العام الفائت، شكّلت المعارضة المزدهرة ضد مشاركة الأردن في الحرب صداعاً متزايداً للقصر الملكي. وأصبح أسوأ في ما بعد، حيث خلال الأشهر الأخيرة، عزّز الإسلاميون نشاطهم في عمّان. على سبيل المثال، شنّت السلطات الأردنية في أيلول (سبتمبر) الماضي، حملة على متظاهرين يلوّحون بعلم “داعش”. على الرغم من أن الجيش الأردني – المعروف في البلاد بالجيش العربي- ما زال يتمتع بشعبية عالية للغاية، فقد تعرّضت الحكومة الأردنية إلى إنتقادات متزايدة لسماحها تحويل البلاد إلى قاعدة للعمليات الجوية لقوات التحالف. وقبل قتل نجله وحرقه حياً، برز والد الطيار، صافي يوسف الكساسبة، كمعارض بارز للحرب ومنتقداً جهود القصر غير الفعّالة للتفاوض أو تأمين الإفراج عن إبنه.
إذا كانت تفجيرات الفنادق في عمّان في 2005 –الأسوأ في التاريخ الأردني– هي أي إشارة، فإن قتل الكساسبة حرقاً من شأنه أن يسحب تأييد الرأي العام المحلي للجماعة الإرهابية. قبل الهجوم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 على ثلاثة فنادق في وسط العاصمة الأردنية التي أسفر عنها مقتل 60 وجرح 115، كان 61٪ من الأردنيين ينظرون إلى أسامة بن لادن بشكل إيجابي. في إستطلاع بعد التفجير الذي نفذه تنظيم “القاعدة في العراق” قبل أن يتحول إلى “داعش” في ما بعد، إنخفض الدعم لبن لادن إلى 24 في المئة. وبعد خمس سنوات، إنحدرت الثقة في زعيم تنظيم “القاعدة” إلى 13 في المئة.
لا شك أن الكثير قد تغيّر منذ العام 2005. قبل عقد، على سبيل المثال، لم يكن إجتاح المنطقة بعد الصراع بين السنة والشيعة، والأردن لم يكن يشهد النمو المتسارع للسلفية. للسخرية، حتى بعد مقتل الكساسبة، بعض القادة الإسلاميين الاردنيين على ما يبدو لم يدين حتى الآن “داعش”، والعديد من رجال الدين المسلمين في مساجد المدينة يشيدون بالتنظيم الإرهابي لمعارضته النظام السوري. إن الذي يعقّد الأمور أكثر هو أن ما يقدر ب 2،500 أردني يقاتلون حالياً مع الجهاديين في سوريا– واقعة شائعة بحيث في أواخر الشهر الفائت فقط، كتبت الصحف المحلية خبراً صغيراً بأن نجل برلماني أردني قُتل وهو يقاتل مع “جبهة النصرة” في حلب.
ومع ذلك، فإن الغضب الذي أنتجه مقتل الكساسبة وتفجيرات 2005 في عمان لها آثار مماثلة في السياسة الأردنية. كحد أدنى، مثل العام 2005، هذه الحادثة ستقنع الكثير من الأردنيين أن المملكة هي في مرمى “داعش”، مما يحدّ، على الأقل مؤقتاً، من المعارضة على عضوية الأردن في التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وفقاً لذلك، سوف يكون الأردنيون أكثر إستعداداً لعمليات إستباقية الحركية. ليس من المستغرب، نظراً إلى المشاعر الشعبية الحالية، بأن آخر دعوات الملك عبد الله إلى حرب “لا هوادة فيها” و “قاسية” ضد “داعش” في سوريا إستقبلت بحماس. في الأيام والأسابيع المقبلة، يبدو من المرجح أن الأردن سوف يزيد وتيرة وشراسة العمليات الجوية –وربما حتى نشر قوات خاصة — لإستهداف تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا.
وعلى الرغم من أن إستجابة عسكرية أردنية قوية فورية تبدو مناسبة، مع ذلك، فإنه ليس من المؤكد على الإطلاق أن المملكة سوف تستطيع مواكبة وتيرة العمليات بعد أن يتبدّد الغضب على مقتل الكساسبة. وفقاً للمعايير الإقليمية، فإن الجيش الأردني هو قوة مثيرة للإعجاب، مما يدل بإستمرار على مستوى عال من الإلتزام والشجاعة. ومع ذلك، بالنسبة إلى الأردن– في الواقع، إلى أي جندي– إن زيادة العمليات يعني بالضرورة تقريباً إرتفاعاً في عدد الضحايا.
بعد ستة أشهر على الحرب الجوية، فقد خسرالأردن طائرتي “F-16S” وطياراً واحداً، بالإضافة إلى العشرات من القوات البرية الذين جرحوا أو قتلوا على طول الحدود مع سوريا. الأردن هو بالفعل متحمّس وحائر في الوقت عينه بالنسبة إلى توسيع الحملة، إذ أن إحتمال زيادة عدد الضحايا –الذين يكاد يكون من المؤكد سوف يأتون من القبائل في البلاد، والتي تشكل العمود الفقري للجيش وقيادة أنصار النظام الملكي– يحمل قليلاً من الإغراء للملك.
ولعل المفهوم القبلي الثابت للثأر سوف يخفّف ردة الفعل في المستقبل ضد القصر الملكي على الخسائر في المعركة ضد “داعش”. وعلى الرغم من أن الأردن ليس دولة ديموقراطية، فإن مشاعر الرأي العام هي أمر مهم، لا سيما في هذه الأوقات الصعبة. والدرس المستفاد من محنة الرهينة الكساسبة هو أن المملكة هي حساسة جدا بالنسبة إلى الخسائر العسكرية. هنا، مع ذلك، التاريخ هو مفتاح الحل. الغضب في المملكة الذي تبع تفجيرات 2005 إستمر لمدة عام، وتزامن مع زيادة التعاون الأردني العسكري والإستخباراتي مع الولايات المتحدة ضد تنظيم “القاعدة”، فضلاً عن التدابير الأمنية الصارمة على الجبهة الداخلية. وفي كلٍّ من الحالتين، لم يكن هناك إحتجاج شعبي كبير.
في الوقت الحاضر، مع التأييد الساحق من السكان، سوف يقوم الملك عبد الله ما في وسعه للإنتقام من “داعش” في سوريا. وسوف يكون له أيضاً المزيد من الحرية لمواصلة حملة أشمل على مؤيدي “داعش” داخلياً في مملكته. مع مرور الوقت، مع ذلك، فإن المخاوف بشأن الحفاظ على القوة قد تجبر المملكة في نهاية المطاف إلى إعادة جهودها للتوسيع العسكري في سوريا إلى البلاد. وكملتزم بالإئتلاف، سوف يظل الأردن قاعدة العمليات الجوية المضادة لتنظيم “الدولة الإسلامية” ومنشأة تدريب للمتمردين السوريين المناهضين للأسد في المستقبل المنظور. لكن الأردن ليس من المرجح أن يصبح “سبارتا” إقليمية — كما وصفت “واشنطن بوست” أخيراً دولة الامارات- في أي وقت قريب. إن “داعش” يشكل خطراً واضحاً وقائماً على إستقرار الأردن، كما هو السخط الشعبي أيضاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى