هل يستطيع حيدر العبادي إعادة اللحمة إلى العراق المقسَّم طائفياً؟

عندما طلب رئيس جمهورية العراق فؤاد معصوم من حيدر العبادي تأليف الحكومة في آب (أغسطس) الفائت بعدما أجمع الأفرقاء في العراق بدعم إقليمي ودولي على ذلك، لم يكن أحد ينتظر الكثير منه، كان الهم الأكبر لدى الجميع التخلص من نوري المالكي الذي أوصل البلاد إلى الحضيض، لكنه يبدو أن ما فعله خلال 5 أشهر من حكمه، لم يستطع أن يفعله سلفه على مدى سنوات.

رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي: البداية كانت جيدة ولكن...
رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي: البداية كانت جيدة ولكن…

بغداد – أحمد العمري

رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي كان سابقاً برلمانياً مغموراً منفيّاً إلى المملكة المتحدة في عهد الرئيس السابق صدام حسين، خرج أخيراً من ظل حزب “الدعوة” لقيادة بلاده في ظل أكبر وأخطر أزمة أمنية وسياسية شهدتها منذ العام 2003. فقد تسلّم منصبه رسمياً في 8 أيلول (سبتمبر) الفائت، وارثاً بلداً في حالة خراب. كان ثلث العراق قد وقع في أيدي مسلحي تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، بما في ذلك الموصل، ثاني أكبر مدينة في البلاد؛ وسيطر الأكراد على مدينة كركوك الغنية بالنفط وهدّدوا بالإنفصال؛ وكان الشيعة يستعدّون لمزيد من تقدم ” داعش”.
على الرغم من أن العبادي كان زعيماً لم يُختبَر بعد، فإن إختياره جاء بناء على موافقة محلية ودولية واسعة بسبب الأمال المعقودة عليه، كشيعي، لتحقيق التوازن بين المصالح المتضاربة للمجموعات العرقية الطائفية في العراق: السنة والشيعة والأكراد. وكان العبادي أيضاً يتمتع بسمعة طيبة في البرلمان كزعيم تصالحي ذي توجه نحو الحلول. ولكي نكون منصفين، إن بعض الضجة السابقة لأوانها حول العبادي كان ينبع فعلاً من الإرتياح الجماعي من أن سلفه نوري المالكي قد غادر أخيراً. في ولايتي حكمه، نفّر المالكي السنة والأكراد، وكذلك دول الخليج وتركيا، مع خطته لتوطيد السلطة لفصيله الشيعي.
لكن العبادي لم يخيّب الأمل في أول 5 أشهر في منصبه، حتى لو كان سيتم إختباره بشدة من خلال التحديات الشاقة التي تنتظره.

فعل متوازن

اللحظة الفارقة في الأشهر القليلة الأولى بالنسبة إلى العبادي كرئيس للوزراء كانت تخفيف المواجهة الطويلة بين بغداد وكردستان العراق حول تقاسم الثروة النفطية، وأخيراً تقديم الدعم للقوات العسكرية الكردية المعروفة باسم “البشمركة”، التي أُهملت تماماً في ظل المالكي. وبموجب الإتفاق الجديد الذي عُقد في منتصف كانون الاول (ديسمبر)، سوف تدفع بغداد إلى حكومة إقليم كردستان نصف العائدات الناتجة من حقول النفط التي يسيطر عليها الأكراد. وسوف تموّل أيضاً البشمركة وتسمح للولايات المتحدة بتسليحها. في حين أن هذا يمثّل تنازلاً كبيراً أنجزه في وقت مبكر من ولايته، فإن هذا الإتفاق يسمح للعبادي بتهدئة الدعوات الكردية من أجل الإستقلال، وأيضا يشير إلى إستعداده للتعاون مع الولايات المتحدة، التي توسّطت في المفاوضات. وعلاوة على ذلك، فإن توقيت الصفقة تحرّر حكومة العبادي من مشكلة مهمة للتركيز على المصالحة مع السنة، الذين تحوّل بعضهم للقتال الى جانب “داعش” بعد سنوات من الإقصاء في ظل حكومة المالكي.
على الرغم من أن أهل السنة كانوا سعداء برحيل المالكي، فإنهم لا يثقون بعد تماماً بالعبادي. هناك عدد قليل من القبائل السنية في محافظة الأنبار، التي إحتل معظمها تنظيم “الدولة الإسلامية”، إنضموا إلى القوات الحكومية لهزيمة المتمردين. ولكن تردّد السنة قد يخفّ مع مرور الوقت إذا إستطاع العبادي معالجة مطالبهم، مثل إنهاء السياسات التمييزية التي تستهدف أعضاء الطائفة السنية، وتحرير السجناء السنة، ومنح المزيد من الصلاحيات لإدارات المحافظات السنية، من بين أشياء أخرى. وقد خصّصت حكومته الجديدة المزيد من المناصب الوزارية إلى زعماء السنة – 7 في المجموع – للمرة الأولى منذ العام 2010، كما وافق البرلمان على تعيين وزيري الداخلية والدفاع، بعد شهرين من النقاش الشرس. حيث شغل المنصب الأخير خالد العبيدي، وهو سياسي سني بارز من الموصل. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) عندما أصدر قاض عيّنه المالكي حكماً بالإعدام ضد أحمد العلواني، وهو زعيم سياسي سني ااذي تساعد قببيلته بغداد في محاربة “داعش”، تواصل العبادي مع زعماء قبيلة العلواني وعُلّق الحكم. (العلواني كان إتهم بقتل جنديين أثناء مداهمة رجال الأمن مقره في كانون الاول (ديسمبر) 2013. وقد نفى التهم الموجهة إليه). وحتى مع خطر فقدان الدعم من داخل إئتلافه الخاص ومناصريه الشيعة، فقد بدأ العبادي حملة لإزالة المسؤولين والقادة العسكريين الفاسدين الذين عيّنهم المالكي، وبعضهم يحصل على رواتب لإشرافه على “جنود أشباح” لا وجود لهم، أو القوات التي تتلقى رواتب من دون أي عمل وتكلّف الملايين من الدولارات. وقد حدد العبادي على الأقل 50،000 من هؤلاء الجنود.
الواقع أن الدافع وراء العبادي لإصلاح الجيش يذهب أبعد من مجرد موازنة التوترات الطائفية. إن الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد “داعش” إستطاعت إحتواء المتشدّدين التكفيريين، ولكن لهزيمة “الدولة الإسلامية” يتطلب الأمر إعادة تأهيل القوات البرية العراقية التي تناثرت في مواجهة هجوم “داعش” على الموصل في حزيران (يونيو) 2014. ولتحريك هذه العملية، إستبدل العبادي 36 من الضباط الفاسدين، معظمهم من الشيعة مع آخرين من من خلفيات عرقية ودينية مختلفة، وقد عمل مع مستشارين أميركيين وقوى أجنبية أخرى على إعادة تدريب وتسليح وتجهيز وحدات من الجيش العراقي. في الواقع، مشيرةً إلى مستوى جديد من الثقة في الحكومة العراقية، فقد تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 1.5 مليار دولار لتدريب هذه الوحدات وتسليحها وإستأنفت بيع مقاتلات (F-16)، والتي كانت قد علقتها بعد الغزو الأميركي في 2003 .
جنباً إلى جنب مع الميليشيات الشيعية التي حُشدت لمكافحة “داعش”– بعدما أصدر آية الله العظمى علي السيستاني فتوى في حزيران (يونيو)، عندما إستولى “داعش” على الموصل وأعدم المئات من المدنيين- تمكنت هذه القوات المشتركة من إستعادة بعض القرى والبلدات من “داعش” في الأسابيع الأخيرة. كما تشاور العبادي ونسّق مع واشنطن لإستبدال قوات الامن التي يهيمن عليها الشيعة بوحدات من الحرس الوطني السني، التي ستضم مجندين محليين، وستدافع عن المدن المعادية للتواجد العسكري الشيعي. وسيتم إختبار نهجه الأمني أكثر في كيفية تعامله مع الميليشيات الشيعية المدعومة من ايران بعدما يُهزم “داعش”؛ على الرغم من أنها كانت حاسمة في منع تنظيم “الدولة الإسلامية” من الوصول إلى بغداد، فإن مكان هذه الميليشيات الشيعية داخل جهاز أمن العراق ينظر إليه أهل السنة بإعتباره تهديداً لهم.
من ناحية أخرى، إن معالجة المظالم الكردية والسنية ليست خالية من التكلفة. فقد يفقد العبادي بعض الدعم من داخل “دولة القانون”، الكتلة السياسية الشيعية التي تضم حزب “الدعوة” الذي كان يسيطر عليه المالكي سابقاً، ومن المجتمع الشيعي العراقي الأوسع. غاضبون من الصفقة مع الأكراد، قام بعض سكان البصرة المدينة الغنية بالنفط – وهي جزء من المنطقة الجنوبية الشيعية التي تنتج 90 في المئة من النفط– بشنّ حملة عامة في العراق للمطالبة بالحكم الذاتي. ومن أجل إرضاء كلّ من الشيعة والسنة، كان على العبادي أن يعلن مواقف عامة في دعم الشيعة، في حين كان يسترضي أهل السنة بالخفاء. عندما أعلن أنه لن يتدخل في حكم الإعدام الصادر ضد الزعيم السني العلواني، فقد أكد العبادي بهدوء لزعماء قبيلة العلواني أنه لن يكون هناك أي تنفيذ للحكم. كما قام بزيارة هادئة إلى البصرة أخيراً، عارضاً تفويض المزيد من السلطة للمحافظة كوسيلة لتخفيف الطلب من أجل الحكم الذاتي.

إزالة السور

عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، فإن أهم جهد للعبادي كان تهدئة العداء الطويل الأمد بين العراق والدول العربية السنية. على مدى الأشهر الخمسة الماضية، أرسل العراق مسؤولين رفيعي المستوى إلى البحرين، الكويت، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة في محاولة لتخفيف حدة التوتر وبناء الثقة، وحشد الدعم لمحاربة “داعش”. هذه المبادرات الديبلوماسية تؤكد على تغييرات أساسية في سياسة العراق الخارجية، وتوضّح تفهماً بأن أي فرصة للنجاح في دحر “داعش” والمصالحة مع السنة في البلاد يتطلب الدعم من العرب السنة في جميع أنحاء المنطقة.
بدورها، إستجابت القيادات في جميع أنحاء المنطقة بحرارة لجهود بغداد. فقد رحّبت المملكة العربية السعودية بتعيين العبادي – الذي نال موافقة الشيعة والسنة والاكراد — وأشارت إلى إستعداد فوري للتعاون مع حكومته. بعد الزيارة الودية التي قام بها رئيس الجمهورية العراقي فؤاد معصوم إلى المملكة في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، أعلنت الرياض عن إستعدادها لإعادة فتح سفارتها في بغداد، التي كانت قد أُغلقت في العام 1990 في بداية حرب الخليج. وقد أعرب وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، عن رغبته أيضاً في زيارة العراق إذا كانت الظروف تسمح بها. بالإضافة إلى ذلك، زار العبادي مصر، والأردن، وتركيا لمناقشة إستراتيجيات إقليمية لمكافحة المتشددين الإسلاميين. ولكن قبل تطبيع العلاقات بشكل كامل، فإن دول الخليج تريد أن ترى مزيداً من الجهود في بغداد لتلبية مطالب العراقيين السنة، والتخفيف من حرارة علاقاتها مع إيران. وهذا المطلب الأخير يبدو من الصعب تحقيقه في الوقت الحاضر على الأقل، لأن العبادي لا يزال مقيّداً بولائه الرسمي. وكان صاحب أول زيارة ديبلوماسية رسمية إلى طهران، مما يدل على قوة التأثير السياسي للجمهورية الإسلامية في العراق.
خلال 5 أشهر، إستطاع العبادي تزيين سيرته الذاتية القصيرة بعدد من مآثر سياسية مثيرة للإعجاب: نجح في إسترضاء الأكراد، ويعيد بناء جيش فاسد، وفتح حوارات مع الجيران العرب السنة، وأعاد تجديد العلاقات مع الولايات المتحدة. هذه التدابير ليست سوى غيض من فيض. فهو يحتاج الى الحفاظ على إنجازاته لتحقيق النجاح حقاً. ولكن، إن إلتزام العبادي بحل الفتنة الطائفية في العراق – “حتى لو إغتالتني”، كما ذكر بجرأة – هو تغيير مرحّب به أكثر من النمط الإنشقاقي والتقسيمي لسلفه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى