عزّت مزهر … نطّق الحجر وأبكى الحديد!

بين الفنان اللبناني عزَّت مزهر وبين الحجارة حوار يتعدى الثلاثين عاماً؛ حوارٌ لا ينتهي فتراه يراقبها يحسّها و…يرسمها. يؤكد على أن المنحوتة تعيش طويلاً، بدليل تلك الشاهدة على حضارات عبرت منذ آلاف السنين ولم يبقَ منها سوى الحجر وعظمة النحت.
يشكّل محترفه كما منزله عالمه الخاص، عالمٌ مبنيّ من الرخام والصخر والخشب والمعدن والعديد من المصبوبات البرونزية، ويقوم على معطيات ثقافية متنوعة ومتسعة طولياً وأفقياً.
المنحوتة بنظر مزهر تحتاج إلى أشهر عدة لكي تُنجز وذلك عكس اللوحة التي تُنفَّذ أحياناً خلال يومين. “فالمنحوتة كالمرأة الجميلة، إذا لم تكتنز فكراً خلّاقاً لا قيمة لوجودها … النحت يترجم الفرح والحزن والإنفعال”.
وعلى الرغم من رحيله متأبِّطاً سريعاً ذراع الموت وحديقة الأحلام وضوء المنحوتة، فإن النحات والرسام عزّت مزهر عرف كيف يضيف إلى الفن اللبناني الكثير مما هو مرئي وغير مرئي، وكيف يغرس قيم الابداع كما الكتب والأساطير والفلسفات والفنون.

عزّت مزهر: رحل قبل موعده
عزّت مزهر: رحل قبل موعده

بيروت – مازن مجوز

في أحد أيام العام 1947 أبصر الرسام والنحّات اللبناني عزّت مزهر النور في بلدة حارة الناعمة، الواقعة الى الجنوب من بيروت، حيث ألهمته أجواء تلك البلدة الهانئة والوادعة التي تنام، مع شعب بسيط ورغادة العيش، على سواحل البحر البيض المتوسط، وساهمت في تفجير موهبته الفنية باكراً. وما أن راح يرسم بالفحم على جدران منزله حتى علت معارضة والدته، فإستنجد بوالده الذي دافع عنه وعمّا يفعل، الأمر الذي حمله على إعتقاد ذلك إعجاباً وتشجيعاً له لمتابعة هوايته.
قبل إنهائه مرحلة دراسته الثانوية، إكتسب عضو إتحاد النحاتين الفرنسيين (سابقاً) خبرة عملية في تشكيل الصلصال لتوافره في بلدته، ما سمح له بالتحكم بالإزميل والمطرقة في ابداع منحوتات من الحجر، تجسّد حيواناً أو طائراً أو زهرة. وصولاً إلى تنفيذه مجسّم لقلعة بعلبك من أصداف وثمار البحر، قدّمه لأحد الأندية وتم عرضه في إحدى الحفلات، ليباع بعدها بمبلغ مهم في حينه، ما أشعره بالسعادة كما تروي عقيلته سمر.
نحت الصغير منذ طفولته، فكان يستأنس بأحجار بلدته فيحوّلها إلى منحوتات تشخص لها الأنظار وتقشعر لها الأبدان، فإزميله يشهد بأن الفن جدّ وشغف وعزف على أوتار الحياة. لقد شكّلت كلمات الإعجاب والتشجيع من أساتذته وأصدقائه على متابعة هوايته،دافعاً ليرسم بشغف كل ما يرى، وخصوصاً بقلم الرصاص الذي إعتبره بمثابة العمود الفقري لكل أنواع الفنون …
ثم راح يبحث عن الكتب التي تهتم بالفنون، حيث أخذ يتعمق في معرفة المدارس والأساليب التشكيلية، بعدها إنتقل إلى بيروت لدراسة هندسة الديكور، بناء لرغبة أهله، وفيها تأثر بالفنان رشيد وهبي، وأُعجِب بالنحات المصري محمود مختار.
في العام 1966 أنهى عضو الجمعية العالمية للفنون التشكيلية “AIAP” دراسته في هندسة الديكور في لبنان، حيث أعجب بالنحات مايكل أنجلو والفرنسي رودان، وأقنع أهله بالسفر إلى فرنسا، وفيها دخل المعهد العالي للرسم والنحت، ولم يخبر أهله بذلك إلا بعد مضي ثلاث سنوات، وهناك تأثر بأساتذته: سيزار – كولا ماريني وكاردو .
وخلال إقامته في باريس التي إستمرت ما يقارب الثماني سنوات، إكتشف جمالية النحت المعاصر وتردد كثيرا إلى متحف رودان، الذي كان يعتبره نقطة الإنطلاق الى الحداثة التعبيرية، لكنه لم يقيِّد نفسه بأسلوب خاص أو مدرسة محدَّدة.
وعلى الرغم من أن تجاربه في المرحلة الباريسية إتصفت بالتنوع ما بين التحوير والسوريالية والتكعيبية، إلا أن معظم أعمال نائب رئيس جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت 2000-2007 أخذت المنحى الرمزي الواقعي.
آنذاك، شارك مع أحد النحاتين الكبار في ترميم التماثيل والنقوش التي تعلو متحف اللوفر المشهور، وبعض الكنائس في أول مهرجان للنحت هناك، ثم أقام وشارك في العديد من المعارض والنشاطات الفنية والثقافية، في كل من فرنسا وبريطانيا واليابان وايطاليا. وقد أغنى هذا الإحتكاك بثقافات وحضارات متعددة ومتنوعة بشكل فعّال شخصيته الفنية.
وفي العام 1974 أنهى مزهر دراسته وعاد إلى لبنان، لينفذ أول عمل فني وهو عبارة عن تمثال نصفي بالرخام لأحد أطباء الأسنان في مدينة صيدا، فإعتبره نقطة تحول يؤكد لأهله من خلالها قدرته على تدبير أموره المالية من خلال الفن. منطلقاً في مشوار البحث عن نفسه.
بعد ذلك راح مهندس الديكور يعمل في مشغله وينتج وينفذ العديد من التماثيل النحتية، ويشارك فيها من خلال جمعية الفنانين اللبنانيين بالنشاطات والمعارض الفنية سواء في لبنان أو خارجها.
وفي العام 1975 إلتحق النحات مزهر بمعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية إلى أن فارق الحياة في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2009.
وتقول أرملته سمر: “ما أن دخلنا أواسط ثمانينات القرن الفائت حتى كانت أعماله تنال إعجاب الكثيرين من عشاق الفن، حيث كانت الإستجابة للتحدي واضحة في الرموز التي ينحتها، فمثلاً في منحوتته ” اليد المقاومة ” نرى يد الحق تصارع الأفعى رمز الشر وتصرعها. وهذه المنحوتة تزيّن حالياً متحف بيت الدين، وهو وإن كان لا يكف عن تشبيه الحية بالمرأة لكنه كان يختبىء في عري جسدها، “إنها لذة التحدي ” كما كان يقول”.
في ما يتعلق بالمواصفات الجمالية للمنحوتة، كان الراحل يؤمن بأن التعبير هو الأهم وأن الإلتزام هو شعور إنساني، فالصخر وألوانه بنظره يدخلان في جوهر تكوين المنحوتة لأنهما من صلب القوة التعبيرية للشكل النحتي، وبعد إتجاهه بقوة خلال مرحلة الدراسة إلى إعتماد البساطة والحركة والرمز بقي في تجاربه الحديثة محافظاً عليها.
ذات يوم سئل عما يريد من النحت فأجاب: “أريد أن أفجر فرحي … أريد أن أحفر أحزاني على جذع صخرة كي لا أشعر بمرور الزمن لأن الزمن عندي هو حالة أبدية”.
لم يتوقف مزهر يوماً ليبحث عن فكرة أو موضوع، فالأوضاع التي يعيشها كانت تمنحه الفكرة بعفوية، إذ أن الأشكال التي تأتي فجأة بنظره تصبح أكثر قوة مع مراحل التنفيذ، ومن هنا شكّلت المواضيع الإجتماعية المخزون الأهم لصياغة أشكاله. وتوضّح سمر: “أخذت المرأة القسم الاكبر في التعبير عما يود قوله فكان يعتبرها الام والحنان، الحبيبة والعشيقة، الملجأ والحرية من دون أن ننسى إنحيازه الواضح إلى تجسيد حرية الارض”.
فالمرأة لديه هي العارية والملجأ، والنديمة، والعنفوان والعاصفة، ويبقى هاجس الاحداث اللبنانية يتردد في أعماله. وفي هذا المنحى لديه “الارض” و”الشهيد”.
إلى جانب ذلك نرى الموضوعات المجردة التي يحوّلها مزهر بقدرته الفنية المميزة إلى أشكال تنبض حيوية ودلالة، فإذا بالصهيل يتحوّل من صوت إلى شكل تكاد تسمع منه صهيل الخيول .
أما الجسد، خصوصاً العاري منه، فقد جعله مزهر في صلب هواجسه الفنية، يساعده في ذلك ثقافته الفنية العالية وخبرته في علم التشريح الجمالي، وقدرته المتمكنة في تصوير الأجساد، فتشعر وكأنها تتمايل أمامك أو كأنها تنطق بما يريده الفنان فتشعر أنك أمام جسد من لحم ودم بتقاطيعه وألوانه وحضوره.
وإنتقالاً الى أزمة النحت في لبنان، يعتبر مزهر من النحّاتين القلائل الذين حاولوا إيجاد حلول لأزمة النحت من خلال المشاركة في وضع أنصاب نحتية في الساحات العامة، لذا لم يرتبط فنه بخيارات الغاليريات وصالات العرض التجارية، وإنما بشكل عضوي بالمؤسسات البلدية والجمعيات الثقافية، في محاولة لإيجاد حركة نحتية واعية ومقنعة.
وفي ذلك يقول الناقد التشكيلي دكتور فيصل سلطان: “لقد عكست تجاربه النحتية التي نفّذها في تظاهرات وملتقيات فنية هواجسه الشعرية الثورية- فالتعاطف الحيوي الذي أظهره حيال موضوعه الدائم “حرية الإنسان والأرض” كرّسه كواحد من النحاتين اللبنانيين القلائل، الذين تفاعلوا مع مجريات الأحداث المعاشة والذين رفعوا الحرية كشعلة لا تنطفىء”.
وإذا ما أردنا التوقف عند العلاقة التي تجمع مزهر بالصخر نجده يقول :” كلما حملت المطرقة والإزميل ووقفت أمام صخرة ما لأشرع بالعمل، ينتابني إحساس غريب، فأشعر وكأن الذي أبحث عنه وأبغي الوصول إليه محاصر ضمن سجن محصّن، وأن علي واجب الإسراع في تحريره بكل دقة وتأن، كي لا أمسّه بسوء وأعرضه لأي أذى”.
واللافت في رصيد مزهر الفني إقامته ومشاركته في العديد من المعارض التشكيلية والنشاطات الثقافية المحلية والعربية منها والعالمية.
ولمزهر العديد من الأعمال البارزة في السّاحات العامّة وفي المتاحف والمؤسّسات الرّسميّة والخاصّة ومنها: نصب ويبقى النّور في معتقل الخيام جنوب لبنان، نصب لؤلؤة المتوسّط في جونية، تمثال الموسيقى إمرأة في ذوق مصبح، تمثال تقاسيم في مجمّع فؤاد شهاب الرّياضي في جونية، تمثال بيروت عادت لتنهض في وسط مدينة بيروت، لوحة زيتيّة في المركز الثّقافي في سان جرمان في فرنسا، لوحة زيتيّة ومنحوتة رخاميّة في صالة الفنّ الحديث في طوكيو، منحوتات رخاميّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة…
وفي الختام تكشف سمر العمل على إصدار كتاب جديد للنحات الراحل مشيرة إلى أنه: “يوثق السيرة الذاتية الأكاديمية والفنية له وسيكون بمثابة مرجع لكل باحث فنان في مجال النحت، والقاء الضوء على أعماله في محطات وأماكن متعددة في لبنان والعالم، كما ومرحلة الرسم عند مزهر، والتي لم يطلع عليها لا طلاب الفنون ولا أصدقائه الفنيين حتى اليوم”.
وتشير إلى أن الكتاب هو مجهود خاص يخص العائلة ويشرف عليه أساتذة مختصون في التصوير الفوتوغرافي الدكتور صالح الرفاعي وفي النقد التشكيلي الناقد أحمد بزون، على أن يكون متوافرا أمام المهتمين اوائل الخريف المقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى