كيف أصبحت عُمان دولة إقليمية نافذة بصمت

منذ تموز (يوليو) الفائت عندما سافر السلطان قابوس إلى ألمانيا للعلاج، صدرت شائعات عدة حول حالته الصحية ومدى خطورتها، الأمر الذي خلق قلقاً لدى العُمانيين كما لدى القوى الصديقة والحليفة للسلطنة حول مستقبل البلاد وإستقرارها. ورغم أن هناك آلية طبيعية للخلافة وتولّي السلطة تضمن إنتقال الحكم بسلاسة ومن دون إشكالات، ورغم طمأنة البلاط السلطاني على أن زعيم البلاد يتعافى وسوف يعود قريباً إلى مزاولة مهامه، فإن أسئلة كثيرة بدأت تُطرح، خصوصاً في الغرب، حول ماهية السياسات التي يُمكن أن تنتهجها مسقط في المستقبل.

السلطان قابوس: صانع النهضة العُمانية الحديثة
السلطان قابوس: صانع النهضة العُمانية الحديثة

مسقط – باسم رحّال

بالنسبة إلى كثيرين من العُمانيين، يُعتبَر التفكبر والتطرق علناً إلى الحياة ما بعد السلطان قابوس بن سعيد أمراً مزعجاً وجارحاً وعدائياً، حتى وإن كان زعيم البلاد مريضاً يتلقّى علاجاً طبياً في ألمانيا منذ تموز (يوليو) الفائت، وذلك نظراً إلى الإعجاب والإحترام اللذين يتمتع بهما على نطاق واسع في السلطنة والمحبة الكبيرة التي يكنّها له المواطنون. لكن صنّاع السياسة في أماكن أخرى من العالم ليس لديهم أيّ خيار آخر سوى أن يفعلوا ذلك تماماً. بعض المعلومات أكّد على أن قابوس البالغ من العمر 74 عاماً أُصيب بعارض صحي خطير، لكنه، كما أفاد البلاط السلطاني العُماني، أجرى عملية جراحية ناجحة وهو يتعافى منها في قصره في بلدة غارميش الإلمانية، ومن المتوقع أن يعود إلى بلاده قريباً. ولكن رغم ذلك، فإن سحباً من الأسئلة ومن عدم اليقين بدأت تحوم حول مستقبل البلاد في بعض المحافل الغربية. ونظراً إلى أهمية السلطان كشريك إستراتيجي للغرب – وخصوصاً بالنسبة إلى واشنطن– فمن الطبيعي أن يعلو السؤال: كيف ستكون عٌمان بعد قابوس وحتى بعد عمر طويل؟
تتمتّع عُمان بميزة في المناقشات الدولية تكمن في عدم التطرق كثيراً والحديث قليلاً عن الشرق الأوسط أقل بكثير من البلدان الأخرى في المنطقة. ولكن هذا في الغالب إنعكاسٌ لتفضيل متعمَّد من أجل تجنُّب دائرة الضوء. في الواقع، كانت للسلطنة منذ فترة طويلة أهميّة إستراتيجية هائلة بالنسبة إلى واشنطن – ليس بسبب النفط كما جرت العادة في المنطقة. بدلاً من ذلك، فإنها توفّر مثالاً إقليمياً نادراً من الإستقرار المحلّي، والعالمية (الكوزموبوليتانية)، والتسامح الديني، والديبلوماسية الماهرة.
الواقع أن البلاد تستفيد كثيراً من موقعها الجغرافي المهم، فهي تسيطر على النصف الجنوبي من مضيق هرمز الذي يشمل قنوات المياه العميقة الرئيسية للقناة وممرّات الشحن — التي تمرّ عبرها ما يقرب من 30-40 في المئة من إمدادات النفط في العالم (تسيطر إيران على النصف الآخر من المضيق). من ناحية أخرى، لدى عُمان أيضاً سواحل واسعة النطاق تواجه المحيط الهندي، الأمر الذي سمح للبلاد كي تصبح مركزاً تجارياً إقليمياً وشجّع وحفّز على ولادة مجتمع أكثر إنفتاحاً. في السنوات الأخيرة، بنَت السلطنة ثاني أكبر حوض جاف في الشرق الأوسط في مدينة الدقم الإستراتيجية مع أرصفة تمتدّ على ميلين ونصف. ونظراً إلى موقعها، فإن الدقم تتمتّع بصفة هائلة تميِّزها عن دبي، المدينة التجارية الإقليمية المُنافِسة: فهي لا تتمدّد على طول مضيق هرمز، وهذا يؤدي إلى مدّخرات هائلة في مجال التأمين وتكاليف الوقود للتجارة الدولية بسبب ميل إيران إلى تهديد إغلاق الممر المائي لأسباب سياسية.
عُمان هي أيضاً جزيرة بالنسبة إلى الإعتدال والتسامح الديني في المنطقة. فهي تتميّز دينياً عن جيرانها: إنها الوحيدة في العالم العربي التي تسود فيها الإباضية (أحد المذاهب الإسلامية المنفصل عن السنة والشيعة)؛ كما أنها إحدى الدول العربية القليلة التي طوّرت تقاليد دينية متسامحة حقاً. ومن الممارسات الشائعة في عُمان، على سبيل المثال، بأن بعض الطوائف الاسلامية (الإباضية والسنة) يصلّي في أحد المساجد التابع للطائفة الأخرى. الحقيقة بأنه وسط العداء العنيف بين السنة والشيعة المنتشر في أمكنة أخرى في العالم العربي والشرق الأوسط، فإن عُمان تقدّم نموذجاً للتعايش السلمي.
علاوة على ذلك، وصلت السلطنة إلى مرتبة جيّدة نسبياً بشأن المساواة بين الجنسين. وعلى الرغم من تفشّي إنتهاكات حقوق المرأة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، فإن السلطنة قد تمكّنت منذ وصول السلطان قابوس إلى السلطة من تمرير تشريعات تدعم حقوق المرأة وتعالج التمييز ضدها في التعليم والقوى العاملة والسياسة، كما إنضمت أخيراً إلى الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة أو “سيداو” إختصاراً. وقد إتجهت المؤسسات السياسية الوطنية إلى تعيين وشمل عدد كبير من الإناث على الرغم من عدم وجود نظام حصص (كوتا) ينصّ على وجودهن. على سبيل المثال، إن وزيري التربية والتعليم، والتعليم العالي، في مجلس الوزراء هما من النساء، كما سفيرات مسقط في واشنطن وبرلين ومدريد وغيرهن. من ناحية أخرى، إن معدّل الإلتحاق الصافي للفتيات العُمانيات في المدارس الإبتدائية والثانوية يتجاوز معدل الصبيان. واحدٌ من كل ثلاثة عُمانيين في القوى العاملة هو من الإناث، وهذا يُعتَبَر معدّلاً جيّداً نسبياً في منطقة أبويّة. وعلى عكس كل بلد آخر في العالم العربي، فإن النساء في عُمان لهنَّ الحق عينه في تملّك الأراضي كما نظرائهن من الرجال. (إقرأ مقال الدكتورة أمل الشنفري في العدد 26 الفائت).
وقد شكّل المجتمع والجغرافيا المميّزان في البلاد أيضاً نهجها الديبلوماسي، الذي سمح لها ببناء جسور تواصل داخل المنطقة العربية وبين الشرق والغرب. الواقع أنه قبل عقود من بدء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الوعظ عن سياسة خارجية تقوم على “صفر مشاكل مع الجيران”، كانت عُمان أتقنت ومارست ذلك فعلياً. فقد تمكّنت مسقط من الحفاظ على علاقات سلمية مع كلٍّ من إيران والعراق خلال حربهما بين 1980 و1988، ومع كلٍّ من طهران وواشنطن بعدما شهدت العاصمتان قطيعة ديبلوماسية بعد “ثورة الخميني” في 1979. وفي السنوات الأخيرة، تمكّنت السلطنة من النجاح في تنظيم مفاوضات حول حدودها مع كلٍّ من المملكة العربية السعودية واليمن، وأوجدت قدراً من التقارب بين طهران والرياض، وسهّلت العلاقات نحو الأفضل بين اليمن وأعضاء مجلس التعاون الخليجي، وأخيراً، توسّطت بين قطر من جهة والسعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين من جهة أخرى، في أعقاب نزاع سياسي مرير بشأن دعم الدوحة لجماعة “الإخوان المسلمين” في المنطقة. كما نجحت عُمان أيضاً في تسهيل محادثات سرية عالية المخاطر بين واشنطن وطهران كجزء من المفاوضات الدولية حول البرنامج النووي الإيراني وبشأن المسائل الأخرى مثل الإفراج عن ثلاثة رهائن أميركيين تمّ إعتقالهم من قبل الجمهورية الإسلامية فيما هم يزاولون رياضة المشي لمسافات طويلة على طول الحدود العراقية – الإيرانية. (إقرأ مقال الدكتورة أمل الشنفري عن أسس سياسة عُمان الخارجية في العدد 22).
من ناحية أخرى، تلعب عُمان دوراً مهماً وحكيماً في مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي هي فيه عضو هادئ. وغالباً ما يُنظر إليها من قبل جيرانها في المجلس على أنها “لاعبٌ وحَكَمٌ إقليمي” بسبب علاقتها الودّية مع طهران، إذ أنها قاومت بصراحة جهود الرياض للهيمنة على دول مجلس التعاون وجعلها أداة لمواجهة أو إضعاف إيران. الواقع أن السلطنة هي أكثر إهتماماً في تأكيد التعاون الإقتصادي بين أعضاء دول مجلس التعاون الخليجي، (على الرغم من أنها أعلنت صراحة بانها لن تنضم الى العملة الخليجية الموحّدة قبل دراسة الخطوة بتأنٍّ)، إذ أنها لا تحبّذ كثيراً خطط الوحدة العسكرية والسياسية.
وقد قامت السلطنة بعمل أفضل من معظم البلدان الأخرى في المنطقة بالنسبة إلى السياستين الداخلية والخارجية، ويمكن أن يُعزى ذلك أساساً إلى السلطان قابوس. فمنذ وصوله إلى السلطة في العام 1970، قاد شخصياً محاولة تحديث عُمان ورفع مستوى المعيشة فيها وأبرز شخصيتها الإقليمية. وإنخرط في الديبلوماسية الشخصية الدؤوبة لبناء علاقات سلمية مع كل جيرانه وترسيم كل الحدود لبلاده. ووضع أيضاً سياسات إنفتاحية محفّزة فتحت السلطنة وجعلتها أكثر جاذبية للإستثمار الأجنبي المباشر.
ولكن قدرة وعزم ورؤية السلطان قابوس خلقت له مشكلة: بعدما أنجز الكثير بمفرده تقريباً (فهو رئيس مجلس الوزراء، القائد الأعلى للقوات المسلحة، رئيس البنك المركزي، وزير الدفاع، وزير الخارجية، وزير المالية)، فإنه من غير الواضح ما إذا كان هناك شخصٌ يمكن أن يملأ مكانه أو يحتلّ مكانته في البلاد. مع عدم وجود أشقاء، وأبناء، أو وريث للعرش، وأحزاب سياسية، فإن بعض المراقبين المُشكِّكين يتساءل عما إذا كان بإستطاعة عُمان الحفاظ على الإستقرار من دون قابوس، علماً أنه لا توجد في السلطنة إنقسامات طائفية ودينية، الأمر الذي يقلّل من إحتمالات العنف السياسي الحاد. ولكن يتخوّف هؤلاء المراقبون من الفعاليات السياسية الإنتهازية الإقليمية والدولية التي إذا رأت الوضع مناسباً، فقد تحاول بثّ روح الإنقسامات القديمة بين الشمال والجنوب. (كما كان الحال مع التمرّد الشيوعي الذي دبّره السوفيات في منطقة ظفار في الجنوب بين عامي 1962 و1976 حيث كاد تقريباً يمزّق البلاد، لكن هزمته مسقط في نهاية المطاف مع مساعدات عسكرية بريطانية وإيرانية).
مع ذلك، يُجمع أهل الخبرة على أن لا خوف على عُمان وستكون قادرة على البقاء والحياة من دون قابوس إذا حلّت الساعة، على الرغم من الصفات الفريدة التي يتميّز بها السلطان والإنجازات النهضوية التي حقّقها، وذلك لأنه بنى دولة مؤسسات. ويُمكن للدولة في هذه الحالة الإعتماد على جغرافيتها، وثقافتها، ورأس مالها البشري لجعل الإنتقال ناجحاً والبقاء على طريق التنمية. ويُؤكد المسؤولون العُمانيون أنفسهم، بأن لا وجوب للقلق من المستقبل لأن السلطان قابوس إحتاط لكل الإحتمالات ووضع فعلياً خططاً مفصّلة لخلافته تقوم على ثلاثة مبادىء وضعها في العام 1996: أولاً: يسمّي خليفة له من العائلة المالكة من خلال رسالة تُفتح عندما يصبح العرش شاغراً. ثانياً: يُعرَض هذا الإسم على العائلة المالكة لمبايعته، ثالثاً: إذا لم تستطع العائلة إختيار خلف خلال ثلاثة أيام، يجتمع مجلس الدفاع الأعلى (ومنذ التعديل الرمزي في 2011) ورئيسا مجلسي الشورى والدولة، إلى جانب ثلاثة من أعضاء المحكمة العليا للمصادقة على الشخص الذي عيّنه السلطان السابق مسبقاً في رسالته. ويُقال أن السلطان قابوس قد صاغ رسالة سمّى فيها خليفته المفضّل حيث توجد نسخة منها في مسقط والأخرى في صلالة، عاصمة منطقة ظفار في الجنوب. وقد أكد على ذلك قابوس نفسه في العام 1997، عندما أعلن في مقابلة مع جوديث ميلر في مجلة “فورين أفّيرز” الأميركية: “سبق أن دوّنت إسمين، بترتيب تنازلي، ووضعتهما في مغلّفين مختومين في منطقتين مختلفتين”. وعلى إفتراض أن إنتقال السلطة تم بسلاسة عندما تحين الساعة، وهو المرجّح، فإن السلطان المُقبِل سيواجه العديد من التحديّات المباشرة، إضافة إلى الحفاظ على إرث سلفه ومتابعة عملية الإصلاح. إن أكبرها، يمكن القول، سيكون تنويع الإقتصاد، من طريق الحد من إعتماد البلاد على عائدات النفط (والتي تشكّل حالياً 45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، وكذلك الحد من البطالة خصوصاً بين الشباب، التي تقف حالياً عند 15 في المئة، وزيادة فرص العمل، وفرض قيود على الفساد، وإطلاق برامج لمكافحة التفاوت الإجتماعي في بعض المناطق.
من ناحية أخرى، إن إحتمال وجود تحوّل جذري في السياسة الخارجية العُمانية في المستقبل قد يكون صغيراً، ولكن المسؤولين الأميركيين يشعرون بالقلق من أن يكون الزعيم العُماني المقبل أقل حماساً من السلطان قابوس حول الشراكة الإستراتيجية للبلاد مع الولايات المتحدة، وأكثر تقبّلاً لعلاقات أعمق مع إيران. وهذا يمكن أن يعرّض أصولاً عسكرية أميركية كبيرة للخطر (بما في ذلك قاعدة مصيرة الجوية وقاعدة ثمريت البحرية للطائرات الدورية المضادة للغوّاصات) التي تتمركز في السلطنة. ويمكن أيضاً أن تُمنع القوات الجوية الأميركية من الوصول إلى مطار السيب الدولي (مطار مسقط الدولي). إن أيّاً من هذه الإحتمالات ستكون له عواقب كبيرة على الإستراتيجية العسكرية الأميركية في المنطقة.
ولكن لا شيء من هذا أمرٌ سيحدث بالتأكيد. في الواقع، أولئك الذي إنتقاهم السلطان قابوس كمستشارين والذين أولاهم ثقته على مدى فترة طويلة، بمن فيهم نائب رئيس الوزراء فهد بن محمود آل سعيد، ومستشار السلطان أسعد بن طارق آل سعيد، والدكتور عمر الزواوي، مستشار السلطان للإتصالات الخارجية، ويوسف بن علوي، الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، وعبد العزيز الروّاس، مستشار السلطان للشؤون الثقافية، ووزير الإعلام الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسيني … والذين سيكون لهم دور في المستقبل، أو لبعضهم، يعطي سبباً للتفاؤل.
بالطبع، سيكون من المستحيل أن نعرف على وجه اليقين ماذا تخبّىء الأشهر المقبلة حتى تتوضّح الصورة بالنسبة إلى حالة السلطان الصحية، على الرغم من أن بعض المعلومات توقّع بأنه سيعود قريباً إلى مزاولة مهامه. في نهاية المطاف، سوف يكون على قابوس، الذي عوّد مواطنيه والعالم على قيادته المسؤولة والرشيدة لعقود طويلة قياسية، أن يتوخّى الشفافية ويعلن ما يخفي في جعبته للمستقبل القريب، ولا شك بأنه سيقوم بذلك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى