مرحباً بكم في حروب العملات!

قرر البنك المركزي السويسري في منتصف كانون الثاني (يناير) وقف التدخل في السوق لدعم العملة الوطنية مقابل اليورو، منهياُ بذلك مرحلة ربط سعر الفرنك السويسري بسعر العملة الأوروبية الموحّدة، الأمر الذي أشعل فتيل القلق حول حرب عملات آتية.

رئيسة الإحتياطي الفيديرالي جانيت يلين: الخطوة السويسرية وضعت ضغوطاً عليها
رئيسة الإحتياطي الفيديرالي جانيت يلين: الخطوة السويسرية وضعت ضغوطاً عليها

جنيف – سعيد الخليل

في الخامس عشر من الشهر الفائت، قرّر البنك المركزي السويسري (Swiss National Bank) فجأة وضع حدّ لسياسة التدخل في سوق تبادل العملات الأجنبية لدعم سعر صرف اليورو مع الفرنك السويسري لتجميد السعر عند حدود 1.20 فرنك لكل يورو.
فقامت الدنيا على الأثر ولم تقعد. عند نقطة واحدة، إرتفع الفرنك السويسري بما يقرب من 40 في المئة مقابل اليورو، منهياً اليوم مرتفعاً بما يقرب من 20 في المئة، قريباً من التكافؤ مع العملة الأوروبية الموحّدة.
فيما تنقشع الغبار رويداً رويداً فإن الخسائر وتداعيات القرار تتزايد. في لندن أعلن وسيط العملة بالتجزئة “ألباري يو كي” (Alpari U.K. ) عن إفلاسه في منتصف الشهر الفائت لأن عملاءه تكبّدوا خسائر كبيرة بعد قرار البنك المركزي السويسري. وفي نيويورك واجهت وسيطة العملات “أف أكس سي أم” (FXCM) صغطاً هائلاً هدّد بقاءها في العمل فيما “عملاؤها يتكبّدون خسائر كبيرة”. وأوضح رئيسها التنفيذي درو نيف في بيان أن العملاء قد “جنوا أرصدة أسهم سلبية مستحقة ل”أف أكس سي أم” تقدر بحوالي 225 مليون دولار”. ولكن الأزمة أجّلت فجأة عندما وافقت “لوكاديا إنترناشيونال كوربوريشن” (Leucadia National Corp)، الشركة القابضة لبنك الاستثمار “جيفريز غروب”، على تزويد الشركة المُهدَّدة بقرض مضمون قدره 300 مليون دولار من شأنه أن يمكّن “أف اكس سي أم” (FXCM) تلبية متطلباتها التنظيمية وإستمراريتها في العمل. لكن شروط القرض كانت مكلفة، بما في ذلك سعر الفائدة الذي يبدأ ب 10٪ ويرتفع مع مرور الوقت. وتدعو الشروط أيضاً شركة “أف أكس سي أم” إلى دفع رسوم تصل الى 30 مليون دولار إذا كان دينها لا يزال أكثر من 250 مليون دولار في إطار القرض بحلول 16 نيسان (إبريل) المقبل.
كما إتخذ المنظمون في الولايات المتحدة خطوات إضافية لمعالجة خسائر حادة عانى منها التجار والسماسرة جرّاء الإرتفاع غير المتوقع في الشهر الفائت للفرنك السويسري، تمثّلت في تقييد مؤقت لمبلغ الإقتراض، أو الفائدة، المستخدمين من قبل التجار.
الواقع أننا لم نكن يوماً هنا من قبل.
لوضع خطوة الفرنك السويسري في نطاقها الصحيح. من المعروف أنه في معدلات العملة العابرة لعملات النقد الأجنبي الرئيسية المعوّمة الحرة – مثل الفرنك السويسري أو الدولار الأميركي، واليورو أو الجنيه الاسترليني – يُعتبر تحرك بنسبة 2 أو 3 في المئة كبيراً. ونسبة 20 في المئة هي أمر غريب، وتمثّل حدثاً نادراً وسيئاً لم يسبق له مثيل.
هذا التصحيح العنيف، نتيجة لسياسة البنك المركزي السويسري التي تربط أساساً الفرنك السويسري باليورو، هو نذير لمزيد من التقلبات الآتية. مرحباً بكم في حرب العملات.
ولكن، كيف وجدنا أنفسنا في هذا الوضع؟ في وقت سابق من الشهر الفائت، درس بعض الخبراء هذا السؤال من وجهة نظر الأسواق الناشئة، التي نمت بشكل كبير في الأهمية الإقتصادية. إن هذه الأسواق هي حالياً في حالة إضطراب بسبب الدولار القوي، مع أزمة خطيرة في روسيا قد تمهّد لتقلبات يمكن أن تضرب في أي مكان آخر. وعموماً، مع ذلك، فإن حروب العملات هي ثمرة عقلية لتقاسم “فطيرة” تتقلّص – حيث أن السياسة الإقتصادية تُقَاد من خلال الإستيلاء على حصة في السوق.
في أعقاب الأزمة المالية التي بدأت في العام 2007، أدرك صنّاع القرار بألمٍ تراجع آفاق النمو الفردي في جميع أنحاء العالم. لا تستطيع إعادة إنتخابك لمنصب عندما يكون النمو بطيئاً والبطالة مرتفعة. لذا فإن السياسيين فعلوا أي شيء وكل شيء في وسعهم لدعم إقتصاداتهم المترهّلة، بما في ذلك الإنخراط بنشاط في السياسات الرامية إلى تخفيض أسعار عملاتهم و “سرقة” النمو من الخارج.
الفرنك السويسري، تقليدياً عملة الملاذ الآمن الذي يهرب المستثمرون إليه في الأوقات الصعبة، إرتفع نحو 30 في المئة مقابل اليورو خلال مسار أزمة الديون السيادية الأوروبية في أوائل هذا العقد. وشكّل هذا الأمر ضربة كبيرة للنمو على المدى القريب لإقتصاد سويسرا الصغير والمفتوح الذي يعتمد على التجارة، حيث جعل الصادرات السويسرية أكثر تكلفة بكثير. تدخل البنك المركزي السويسري في السوق، مشترياً كميات هائلة من العملة الأجنبية من أجل تخفيض قيمة الفرنك السويسري. لكن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتحريك الفرنك نزولاً وصولاً الى المستوى الذي يريح مجتمع تصدير قوي في سويسرا. لذلك قرر البنك المركزي السويسري التصرّف. في أيلول (سبتمبر) 2011، أعلن البنك للعالم بأنه “لم يعد يتسامح مع سعر صرف دون الحد الأدنى للمعدل 1.20 فرنك مقابل كل يورو”. وهذا يعني، في الواقع، أن الفرنك السويسري صار مربوطاً بالعملة الأوروبية الموحّدة بسعر صرف 1.20 فرنك لكل يورو، مع إلتزام البنك المركزي السويسري بالتدخل للحفاظ على هذا المستوى.
مع ذلك، كانت هناك تكاليف وأضرار. الموازنة العمومية للبنك المركزي السويسري كانت واحدة منها. فيما إشتعلت حروب العملات، فإن البنوك المركزية حول العالم سهّلت سياساتها النقدية. ولم يكن البنك المركزي الأوروبي إستثناءً. فقد أقدم أخيراً على تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر، حيث من المعلوم أنه يسيطر على السياسة النقدية ل19 دولة في منطقة اليورو، التي تشكل مجموعة فرعية من الإتحاد الأوروبي المؤلف من 28 عضواً. في الواقع، فققد ذهب البنك المركزي الأوروبي إلى حد فرض ضرائب على البنوك بنسبة 0.25 في المئة على إقتناء ودائع زائدة في البنك المركزي، وهذا يعني سعر فائدة سلبياً. وتسببت هذه السياسات بسقوط سعر اليورو في أسواق الصرف الأجنبي، ووضع ضغوطاً على البنك المركزي السويسري للتدخل في أسواق العملات من أجل الحفاظ على معدل 1.20.
والنتيجة كانت بأن الموازنة العمومية للبنك المركزي السويسري هي الآن نحو 500 مليار فرنك، أي 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولوضع هذا الأمر في إطاره الصحيح، إن 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هي على مستوى ثلاث مرات أكبر من حجم الموازنة العمومية للبنك الإحتياطي الفيديرالي الأميركي أو بنك إنكلترا نسبة إلى حجم إقتصاد كل منهما. وهذا حجم هائل. وكان بنك اليابان وحده أكثر عدوانية.
على ما يبدو، فقد أصبح هذا التوسع أكثر من اللازم بالنسبة إلى البنك المركزي السويسري لتحمّله سياسياً.
يفتخر السويسريون بسياستهم النقدية السليمة – وموازنة عمومية بهذا الحجم بسبب التدخل في العملة ليست سمة مميزة مثالية لمالية سليمة. وهكذا، تخلّى السويسريون عن “الروح الشريرة”. أوقفوا الربط مع اليورو وسمحوا بتعويم العملة. إضافة إلى ذلك، سيقوم البنك المركزي السويسري الآن برفع الضرائب، التي سوف يفرضها على البنوك لإيداع الأموال الفائضة، إلى 0.75 في المئة من 0.25 في المئة. وأعلن البنك المركزي السويسري أيضاً أنه سيغيِّر الفائدة بين البنوك “ليبور” المستهدفة ل3 أشهر إلى معدل يتراوح ما بين 1.25- في المئة و 0.25- في المئة، من النطاق الحالي بين 0.75- في المئة و 0.25 في المئة. كلا التحركين هما تدابير لردع الأموال الساخنة من الضغط الصعودي على العملة السويسرية.

فما هي النتيجة التي يمكن أخذها هنا؟

أولاً، إن هذا القرار يسلّط الضوء على كيفية تغيّر العالم. إن عملة قوية ليست أمراً سيئاً. الفرنك السويسري والين الياباني والمارك الألماني كلها كانت تقدَّر مقابل الدولار الأميركي لسنوات في سبعينات وثمانينات القرن الفائت وإقتصاداتها ظلّت قوية. في الواقع، تمتّع بعض هذه الإقتصادات بأفضل معدلات النمو في العالم المتقدّم. عملةٌ قوية هي شيء جيِّد لأنها تعني ان عليك ان تتخلى أقل بالنسبة إلى القدرة الإنتاجية للسلع والخدمات التي تشتريها من الخارج. ولكن في عالم حيث نمو الطلب المحلي ضعيف والنمو على الصعيد العالمي ضعيف أيضاً، لا تريد الدول عملة قوية وذلك لسبب بسيط هو أن ذلك يعني الألم على المدى القصير عندما تصبح الصادرات أقل قدرة على المنافسة في “الفطيرة” المنكمشة للإقتصاد العالمي.
ثانياً، السياسة ستكون دائماً محورية في كيفية وضع السياسة الإقتصادية. في عالم مثالي، يمكن لبنك مركزي أن تكون موازنته العمومية تعادل 100 في المئة أو حتى 200 في المئة حجم الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة عملته – اذا شعر أن هناك ما يبرر ذلك. بل ويمكنه أن يخسر نقاطاً في السوق في تلك الأصول التي تجعل قيمتها مؤقتاً أقل من مطلوباته وإلتزاماته. ولكننا لا نعيش في هذا العالم. إن البنوك المركزية هي كيانات سياسية توجد بناء على طلب من الحكومة. وعلى هذا النحو، فإنها سوف تحتاج دائماً إلى أن تضع في إعتبارها السياسة إذا كانت تريد الحفاظ على الدعم السياسي وعلى إستقلالها.
ثالثاً، أعتقد أن الإضطراب الناتج من خطوة الفرنك السويسري وضع ضغوطاً هائلة على الإحتياطي الفيديرالي الأميركي لتغيير إتجاهه وعدم تشديد سياسته إلى أبعد من ذلك من خلال رفع أسعار الفائدة. ينبغي أن يُنظّر إلى خطوة الفرنك السويسري بأنها كانت ضحية للدولار القوي، تماماً كما كان جزئياً النفط والسلع. وقالت رئيسة مجلس الإحتياطي الفيديرالي جانيت يلين إنها مهتمة في كيفية تأثير سياسة البنك المركزي الأميركي التي تديره في الإقتصادات الأخرى والظروف الإقتصادية العالمية. إن تحرك عملة عالمية كبرى بنسبة 20 في المئة في يوم واحد بسبب إختلاف سياسة البنك المركزي لدعم تلك العملة ينبغي أن يدخل في حساب التفاضل والتكامل لمجلس الإحتياطي الفيديرالي الأميركي. وإمكانية إعتبار تحرك الفرنك السويسري تحوّل رئيسي في حروب العملات.
رابعاً، إذا مضى بنك الإحتياطي الفيديرالي قدماً في رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة في حزيران (يونيو) كما نتوقّع، فإن الدولار سيظل قوياً وسيؤدي إلى المزيد من الإضطرابات. في هذه الحالة توقّع سقوط أسعار النفط والسلع وعملات الأسواق الناشئة وضغوطاً على أسواق الأصول في تلك الإقتصادات.
خامساً، إن العائد الآن على سندات الخزانة الأميركية لمدة 12 شهراً أقل من 0.15 في المئة. بغض النظر عما إذا كان هذا بسبب الهروب إلى ملاذ آمن، فإن 0.15 في المئة هو معدل أقل من 0.25 في المئة، حيث ينبغي على بنك الإحتياطي الفيديرالي أن يتحرّك إذا رفع أسعار الفائدة. وعلاوة على ذلك، فإن العائد على سندات وزارة الخزانة لمدة عامين هو عند 0.43 في المئة، أي تحت 0.50 في المئة، وهذا معناه أنه بإرتفاع مرتين سوف يصبح سعر الفائدة أعلى من المعدل الحالي بالنسبة إلى السندات لمدة عامين.
وهذا يعني أنه إذا رفع بنك الإحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة فقد يعكس إنعطاف العائد في الولايات المتحدة. إن الفائدة الطويلة الأجل يمكن أن تكون أقل من أسعار الفائدة على المدى القصير. وكما أوضح بن برنانكي، رئيس بنك الإحتياطي الفيديرالي السابق، في العام 2006 عندما بدأ القلق يستشري بشأن الركود السابق في أميركا، بأن إنعطاف العائد بشكل عكسي يمكن تفسيره بأنه علامة على ركود وشيك. وهنا يمكن للمرء أن يجادل بأن الإنعطاف سيكون نتيجة لسياسة مجلس الإحتياطي الفيديرالي. من حهته إستبعد برنانكي وهزىء من تلك المخاوف في العام 2006. ولكن، يتبين الآن، بأن الركود حدث تماماً كما كان إنعطاف العائد يتوقع.
لنكن واضحين. حروب العملات هي شيء سيئ، وليس شيئاً جيداً. الآن، في عالم مثالي، فإن سياسة نقدية ميسّرة لحرب العملات يمكن أن تكون مثل تخفيض قيمة عملة منسّق. ولكن في العالم الحقيقي، فهي ليست كذلك. تتحرك البنوك المركزية بشكل أحادي، وذلك بسبب ضروراتها السياسية والإقتصادية الضيّقة الخاصة. مراراً وتكراراً، شهدنا خطوات أحادية الجانب من قبل البنوك المركزية الكبرى، سواء كان ذلك التخفيف الكمي للبنك الإحتياطي الفيديرالي الذي أطلق الحديث عن حروب العملات في العام 2010، والخطوة السويسرية لوضع أرضية للعملة في 2011، والتخفيف الكمي للبنك المركزي في العام 2013 لدعم سياسة “أبينوميكس” أو التخفيف الكمي الأخير المتوقع للبنك المركزي الأوروبي. وهذه التحركات الأحادية الجانب لديها تكاليف. نظرة على تداعيات الخطوة السويسرية الأخيرة تعطي الجواب.
هذه أوقات خطرة. إن العالم صار مُدمناً على التحفيز النقدي. والبنوك المركزية تبذل قصارى جهدها لتلبية شهية هذا الإدمان مع دواء التحفيز النقدي الذي يريده التجار والمضاربون. ولكن، هذه السياسة الردّ، في حين أنها مفهومة، تعني بأن السياسة النقدية هي في حالة غير طبيعية. وهذا قد خلق إختلالات خطيرة في الإقتصاد الكلي. والآن، فيما يقوم مجلس الإحتياطي الفيديرالي الأميركي بتطبيع سياسته، فإن تلك الإختلالات تسبّب مشاكل للأسواق الناشئة وسوق الأصول العالمية. وخطوة الفرنك السويسري ما هي سوى مجرد طائر “كناري” مخيف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى