نعم للتفاوض المُنضبط

بقلم ميرنا زخريّا*

المُفاوَضات المُتلاحقة هي جزءٌ لا يتجزأ من مُجريات حياتنا اليوميّة. والمُفاوِض الكفؤ هو مَن يلعب دوراً فاعلاً أكان اللقاء سريّاً أمْ علنياً. كما أن التفاوُض المألوف هو سُلوك يهدف إلى إتفاق يفي مصلحة الطرفين.
أما التفاوُض المُنضبط فهو عمل حواري مُتميّز تضبطهُ قواعد منهجيّة وأسُس منطقية وتدابير وقائية. بالتالي، لكي تكون مسيرة عملية المُفاوَضة بنّاءة، لا بُد من رفع مُستوى النقاش التفاوُضي، ما يتطلّب تغطية عِلمية ذات أبعادٍ ثلاثية، ألا وهي:
أولاً- مهارات الفرد المُفاوِض:
من المُهم إختيار شخص مُتمرّس لتُوكَل إليه عملية التفاوض، إذ مِن الضروري أن يتمتّع بمهارات مُوائمة لناحية قُدرته على التعاطي مع الآخر وكسْب ثقته ومن ثم التأثير فيه. فالمفاوِض المحنّك هو من يتميّز بمزايا عدّة، لعل أهمّها:
1. تحضير إستراتيجية تنفيذ تُنظّم الأولويات قبل البدء بالتفاوُض، كما وإتقان أسلوب طرح الأفكار المُباشرة وغير المُباشرة؛
2. وَضع حدّ تقريبي أدنى وآخر أعلى لما مِن المُفترض أن يصل إليه التفاوُض، وفي حال التشتّت ففي الإعادة إفادة للجهتين؛
3. جَمع المعلومات حول تاريخ ومصالح وكفاءَة الآخر إذ من دونها لا يُمكن أن تكون جاهزاً، كذلك التحضّر للمفاجآت الطارئة؛
4. تلافي التعابير الهُجومية المُشينة والمُسيئة التي من شأنها أن تولّد ردات فعل سلبية، فأحياناً كثيرة الصمْت أبلغ من الكلام؛
5. الكفّ عن المُبالغة بتقدير الجهة التي نُمثّلها لأن أسلوب “التأليه” يبني جدارأً نفسياً، فالوعي يتطلب أنْ نتشارك لا أنْ نتحارب؛
6. تحديد نقاط القوّة بهدف إستثمارها كما وتحديد نقاط الضُعف بهدف مُراعاتها، كذلك تخمين أهداف وأسرار باقي الأفرقاء؛
7. كُن مُستمِعاً مرِناً ولا تكُن واعظاً ثقيلاً يمنع الآخر من فُرصةٍ وافيةٍ ليستكمل عناصر فكرته، ولا لمُقاطعة الآخر كلما تكلّم.
ثانياً- تحديد نوعيّة التفاوُض:
لا يكفي أن يتّفق الطرفان المُتنازِعان، خصوصاً إذا كان الموضوع يتعلّق بمُجريات شأنٍ عام، ليُصبح المطلوب ساعتئذ أن تكون نتائج التفاوُض ذات قيمةٍ وإفادةٍ عامة. فالتفاوُض البنّاء يُراعي جوانب الإختلاف كما الإلتقاء، ولعل أهمّها:
1. مبدأ الغاية تُبرّر الوسيلة: ما يفتح الباب على مصراعيه أمام نتائج تتّسم بالهيمنة، وبهذا يلتفّ النقاش بوشاح الظلم والغدر؛
2. لمُجرّد التسْكين: أي للتفاوُض حول مُداواة الوضع مرحلياً أو شكلياً لا أكثر، وذلك إما لصُعوبة الحالة وإما أيضاً لتمييعها؛
3. المَربح لطرف: حيث المصلحة الخاصّة تكون فوق كل إعتبار، ما يُترجَم بعدم وُجود أيْ تكافؤ ما بين الطرفين المُختلفين؛
4. المكسب للجميع: هنا يعلو مبدأ المصالح المُشتركة، ما يستدعي حُكماً تفاعلاً إبتكارياً بينهما حين تتعثر مُجريات الجلسات؛
5. الحسْم السريع: مع جدول عمل وشروط توافُق طابعهما مُتسارع لأنه أمر طارئ، أو ببساطة لعدم إحترام أصحاب الشأن؛
6. للضغط على طرف ثالث: عُموماً بطريقة غير مُباشرة، من أجل جذبه للإنضمام إلى مشيئتهما أو لإستبعاده عن إتحادهما؛
7. سرّي الطابع: عندئذ لا يجب أن تُسرّب أية معلومة، ما يجعل الوُصول إلى إتفاق صعباً في ظل تشكيك واحدهما بالآخر.
ثالثاً- إحترام أسُس المُفاوَضة:
يُعتبر التفاوُض أداة نموذجيّة عند تسوية المشاكل وحلّ الخلافات، وبناء عليه فإن تحليل آراء الآخر ومُراجعة مواقفنا لا يُعتبران ضُعفاً وخنوعاً، والتريّث قبل الحُكم حين يقترح الخصم حلاً يتعارض مع فكرتنا يُعتبر من الأسُس، ولعل أهمهّا:
1. تحديد ودراسة موضوع المفاوَضة ومن ثم دُخول غرفة الإجتماع بمعلوماتٍ وافية حول نقاط التباعُد والتقارُب والإلتباس؛
2. جَمع أكبر كمّ من الدراسات والبيانات لتخدُم نزاهة وموضوعية النتائج ولتعطي آفاقاً تفاوضية يُبنى عليها بدل الفرضيّات؛
3. وَضع جدول زمني أقلهُ تقريبي بُغية الحدّ من “الإستلشاء” والتأجيل والمُماطلة أو التقيّد ب”روزنامة” مرحلية لكل جزءٍ على حدة؛
4. التركيز المُنفتح على المَحاور بدل إصطحاب الأفكار والإتهامات المُسبقة تجاه الشخص المفاوِض أو موضوع المُفاوَضة؛
5. إعادة تقدير نقاط القوّة والضُعف المتعلقة بخصمنا وبأنفُسنا وذلك إستناداً إلى وفرة الخبرة التراكمية خلال جلسات النقاش؛
6. الإستعانة عند الحاجة بطرفٍ ثالثٍ مُختصّ بأمرٍ عالق بدل الدوران والخلاف والتشبّث لكنْ حذار أن يتحالف مع الخصْم؛
7. إيضاح التساؤُل الأول للجميع قبل الإنتقال إلى الثاني ما يحدّ من سيطرة الغُموض وبالتالي يخلق جوّاً من التفاهُم والتعاوُن.
لقد ولّى القرن التاسع عشر الذي كان “عهد الإنتماءات الإيديولوجية”؛ وكذلك إنتهى القرن العشرون الذي كان “عهد الحوار العسكري”؛ وبدأ القرن الحادي والعشرون الذي هو “عهد ثورة العولمة”. وعليه، فإنَّ مبدأ التفاوُض بات يُعتبر سُلوكاً فطريّاً طبيعيّاً في مُواجهةِ عصرٍ تعدّدت فيهِ أوجُه القناعات والنشاطات والإحتمالات.
ولمنْ يرفُض مبدأ التفاوُض جُملةً وتفصيلاً .. فهو يفتقر إلى مزايا المُفاوِض جُملةً وتفصيلاً.

• باحثة في علم الإجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى