مرونة لبنان سوف تساعده على إجتياز مرحلة عدم الإستقرار

بقلم رياض سلامة*

كان للصراع في سوريا، والإضطرابات التي إنتشرت في العالم العربي، تأثير واسع النطاق في الإقتصاد اللبناني، لذا ينبغي النظر إلى معدل النمو الإقتصادي الحقيقي لدينا، 2%، في سياق الأزمة الأمنية الأوسع. قبل الحرب السورية، كان إقتصادنا ينمو بمعدل سنوي قدره 8٪. وقد وضع هذا التراجع في النمو ضغطاً على الموارد المالية العامة للبلاد، ونسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أخذت ترتفع بعد فترة من الإنخفاض المستمر.
من المتوقع أن يرتفع الدين العام مرة أخرى في العام 2015 بنحو أربعة مليارات دولار. وقد إرتفعت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي من 130٪ إلى حوالي 143٪. ولا يمكننا أن نُعطي أي توقعات بالنسبة إلى معدلات النمو في المستقبل، لأنه لا يمكن التنبؤ بسير الأحداث الأمنية والسياسية، ولكن يتوقع صندوق النقد الدولي نمو الإقتصاد ب2.5٪ في العام 2015. ومعدل التضخم لدينا هو حوالي 4٪.
على الرغم من عدم الإستقرار في المنطقة، لا يزال رأس المال يتدفق إلى البلاد من الجالية اللبنانية المنتشرة في العالم. وهذا ما يؤدي إلى إستقرار وضعنا النقدي، ويضيف الثقة في الإقتصاد، في الوقت الذي يواجه الكثير من تأثيرات المخاطر السياسية.

إصلاح قطاع الطاقة

أعتقد إعتقاداً راسخاً أننا بحاجة إلى إجراء إصلاحات في القطاع العام للتعامل مع إرتفاع الدين العام. لكن الإصلاحات في لبنان تتعرّض للإعاقة بسبب قضايا سياسية داخلية. إننا نحتاج بنوع خاص إلى إصلاح قطاع الطاقة، الذي يسبّب جزءاً كبيراً من العجز في الموازنة. يستورد لبنان كل طاقته، ومؤسسة كهرباء لبنان، التي تحتكر قطاع الكهرباء في البلاد، هي مؤسسة خاسرة. وتبلغ تكلفة دعم الطاقة تقريباً 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
لماذا نجد مثل هذه الصعوبة لوضع تدابير إصلاحية؟ المشكلة تكمن في عدم الإستقرار السياسي الداخلي. ينبغي على البرلمان والبلاد دعم هذه الإصلاحات لأنها سوف يكون لها تأثير بعيد المدى. ولكن، في الوقت الراهن على الأقل، ليس لدينا رئيس للجمهورية. وقد وضعت الحكومة الإئتلافية في أعلى سلّم أولوياتها الحفاظ على الإستمرارية بدلاً من المخاطرة بالخلاف حول إصلاحات ربما لا تحظى بشعبية. إلى أن يُنتخَب رئيس للجمهورية، كل قرار يجب أن يوقّعه كل الوزراء، لذا، أنا لا أتوقّع أن أرى مشروعاً إصلاحياً يُؤتي ثماره حتى ذلك الحين.
إن عدم الإستقرار السياسي هو بالتأكيد عامل فاعل في العديد من جوانب الإقتصاد اللبناني. فأسعار الفائدة هي دون المستوى الذي يقترحه تصنيف الإئتمان لدينا (B-). إن تصنيف لبنان تأثر على نحو غير ملائم بقضايا الوضع السياسي والأمن. وقد برزت مرونة الإقتصاد خلال فترات التوتر، والتي شملت الحروب والإغتيالات السياسية والقتال في الشوارع. في حين أننا نحترم رأي وكالات التصنيف، فإني أعتقد أن هناك تفاوتاً بين كيف يتم تقييم وكالات التصنيف لنا وتصورات السوق. وإذا نظرنا إلى أسعار الفائدة، يمكن للبنان أن يتأهل إلى تصنيف (BB +) أو حتى (BBB). وكالة “ستاندرد أند بورز” أكدت أخيراً تصنيفها للبنان مع نظرة مستقبلية “مستقرة”.

أزمة اللاجئين

على الرغم من الضغوط الخارجية، فقد أظهرالإقتصاد اللبناني مرونة. إن بلدنا واحد من البلدان القليلة في المنطقة الذي لم يطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي لتوفير العملة الأجنبية خلال الأزمة. ونحن ندعم الآن على نفقتنا 1.3 مليون لاجئ سوري من دون مساعدة مالية ذات مغزى من المجتمع الدولي.
أما بالنسبة إلى الإقتصاد الأوسع، فإن لبنان يحتاج إلى ترتيب أوضاعه وتطوير ثلاثة قطاعات رئيسية كركائز إقتصادية. وهذه تكمن في الأعمال المصرفية والتمويل، والنفط والغاز، وإقتصاد المعرفة. وهذه الركائز سوف تعزّز القطاعات الأخرى. نحن بحاجة إلى تطوير البنية التحتية من دون خلق عبء ديون أخرى. التعاون بين القطاعين العام والخاص أمرٌ ضروري، ويمكن أن يساعد في تمويل تطوير البنية التحتية. إننا نحتاج إلى إنشاء طرقات مناسبة، وأنظمة إتصالات متطورة، وأنظمة نقل حديثة.
وبالإنتقال إلى القطاع المصرفي، فمن الواضح أنه ضروري وأساسي للبنان، لأننا لا نملك كيانات مؤسسية قابضة للسيولة لتعزيز الإقتصاد. إن قطاعاً مصرفياً سليماً هو أساس قوي جداً خلال فترات عدم الإستقرار. نحن حذرون جداً في نهجنا المصرفي. لدى البنوك المحلية نسبة ملاءة مالية أكثر من 10٪ على أساس معايير “بازل 3″، ونأمل أن تصل إلى 12٪ في العام 2015. كما أن السيولة هي أكثر من 30٪ والفائدة الميكانيكية هي أقل من 10٪.
نحن ندرك جيداً المخاطر المصرفية، ونطلب الفصل بين المصارف التجارية والإستثمارية، لذا نحن لا نضع أموال المودعين في خطر. كما لا نسمح للبنوك التجارية الإستثمار في البنوك الإستثمارية، ولكن إذا تضمّنت مجموعة مصرفية معاً بنكاً تجارياً وآخر إستثمارياً، يجب في هذه الحالة أن يكون هناك جدار صيني بينهما.

ثقة البنوك

هناك أثر واحد لهذه السياسة يكمن في أن العائد على الأسهم ليس عالياً مثل بعض البلدان في المنطقة، ولكن البنك ليس موجوداً لنمو مستمر في الأرباح، وإنما لضمان أرباح آمنة يمكنها المحافظة على الثقة فيه والسماح له بزيادة رأسماله. وما على المرء إلا النظر إلى قدرتنا على الصمود خلال الأزمة المالية العالمية في العام 2008 لمعرفة المعنى الجيّد لهذا النهج. إذا إختلط هذان الشكلان من الخدمات المصرفية، فإن المصرفيين سيتبعون الإستثمارية منها بدلاً من البنوك التجارية لأنها تَعِد بأرباح أكثر.
يود المصرفيون اللبنانيون أن يروا مزيداً من الفرص لتوسيع أعمالهم، ولكن مصرف لبنان يؤمن بأن إستقرار الإئتمان ونمو البلاد هما على المحكّ، لذلك لا يمكننا المغامرة في المناطق الخطرة. وهذا الأمر لاقى قبولاً من البنوك، وإستطعنا إدارة المخاطر من خلال وجود مستمر وتعاون وثيق بين البنك المركزي والمصارف. وتدرك مصارفنا أن هذا الأمر له أهمية خاصة فيما الأمن الخارجي والمخاطر السياسية تجبرنا وتقودنا إلى العمل على تخفيف المخاطر وخفضها في القطاع المصرفي.
لقد أنشأنا وحدات عدة لمتابعة المخاطر المصرفية، بما فيها لجنة مراقبة البنوك، وهي وحدة مخصصة للإستقرار المالي، ولجنة التحقيق الخاصة، التي تحارب غسل الأموال. والمسؤول الذي يقود هذه المؤسسات لديه رؤية متكاملة للمخاطر ويمكنه تقييم أيٍّ من هذه المخاطر يمكنها أن تصبح نظامية. ولدينا مجموعة كاملة من النظم لتعديل وتخفيف هذه المخاطر.

حكم قوي

نظراً إلى موقعنا والمخاطر في منطقتنا، فإن تطبيق نظام العقوبات له أهمية خاصة. لقد أصدرنا تعميماً ينصّ على أن البنوك لا يمكنها التعامل مع دولة أو حزب أو أفراد يخضعون لعقوبات دولية. وبالمثل، لا يمكن للمصارف اللبنانية أن تتعامل مع عملة أو أحد البنوك حيث بلادهما تخضع لعقوبات دولية. إن المصارف اللبنانية تحترم هذا التعميم. لقد وضعت البنوك أنظمة وإجراءات لمنع تعرّض مؤسساتها إلى أموال غير مشروعة.
وقد تعزّز تطبيق هذه السياسة من خلال أنظمة حكم مصرفية قوية وتعاميم مصرف لبنان المركزي التي تركّز على الحاجة إلى أعضاء مجلس إدارة مستقلين. غالبية المصارف اللبنانية مملوكة من عائلات لذلك هذا مهم بصفة خاصة. والمطلوب من المصارف أيضاً أن تكون لديها لجان للحكم والمخاطر. وينبغي على هذه اللجان أن تقدّم تقريراً إلى أعضاء مجلس الإدارة جميعاً، فضلاً عن رئيس المجلس.
ماذا عن المستقبل؟ سيأتي النجاح بالتأكيد من تسخير المواهب من أبناء شعبنا لبناء إقتصادنا. إن إقتصاد المعرفة على وجه الخصوص يقدّم وعوداً كبيرة. لقد أصدر مصرف لبنان المركزي تعميماً يسمح فيه للبنوك الإستثمار إلى ما يصل من 3٪ من رأسمالها في الشركات المبتدئة العاملة في إقتصاد المعرفة. مصرف لبنان المركزي يضمن 75٪ من هذا الإستثمار. وقد بدأ المشروع قبل عام، وقد إلتزمت البنوك فعلياً ب150 مليون دولار وإستثمرتها في شركات وصناديق مالية مبتدئة.
وقد إستثمرت ثلاثة صناديق مبتدئة حالياً مستخدمة المخطط، في حين إستثمرت البنوك مباشرة في كل من الشركات والمعجّلات التي تساعد على جلب رجال الأعمال إلى السوق وتشكّل ربط المشاريع إلى القطاع. لقد طلبنا من الحكومة البريطانية المساعدة في المخطط، فوافقت على الإشراف على تنميته. وتم إعتبار هذه المبادرة كجزء من إستراتيجيتنا الرامية إلى تعزيز الطلب الداخلي للحفاظ على النمو في البلاد وخلق فرص العمل.
اللبنانيون بطبيعتهم شعبٌ متفائل وأنا متفائل. على الرغم من الصعوبات السياسية والأمنية، فقد نما ناتجنا المحلي الإجمالي وقطاعاتنا المصرفية. كما أن الموازنات العمومية للبنوك إرتفعت أكثر من 15 ضعفاً خلال ال21 سنة الماضية، وهي الفترة التي قضيتها حتى الآن في حاكمية مصرف لبنان. إني مؤمن، ولديّ ثقة كبيرة، بأن لبنان سيمضي قدماً إلى الأمام ويجتاز كل الصعاب.

• حاكم مصرف لبنان المركزي.
• نشر هذا المقال بالإنكليزية أولاً في مجلة “ذا بانكر” وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى