حان الوقت لتطوير الفقه الإسلامي

بقلم عبدالناصر الحكيم*

عصفت في الآونة الأخيرة موجةٌ من الرعب والريبة طاولت مسلمي أوروبا والغرب، وعلت أصوات متطرفة، أمثال خيرت فيلديرز في هولندا وماريان لوبان في فرنسا، تحذّر من الإسلام وتذكّر الأوروبيين بعدم أهلية المسلمين للتعايش مع مواطنيهم الغربيين. وقالت الناشطة الهولندية والمسلمة السابقة هيرسي علي: “إن لم نأخذ قرارات حاسمة الآن فسيصبح معظم المجتمع الهولندي من اليمينيين المتطرفين”.
الواقع أن هذه الحملات المتتالية قد جعلت مسلمي الغرب من الجيل الثاني والثالث يعيشون في قلق دائم وحيرة، إذ أنهم لا يملكون المعرفة الدينية الكافية والسبل للردّ على سيل الإتهامات التي تُطلق بحقهم وضد دينهم، والتي تصوّرهم على أنهم طابور خامس متوحّش الفكر، وعنيف الطبع، ومُثقل بالعقد الإجتماعية والنفسية. ولكن، كيف يستطيع هؤلاء الرد وهم يشاهدون على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام الإجتماعية بأم أعينهم كيف تُقطع الرؤوس، وتُسبى النساء، وتُحكم العباد، وتُعامَل الزوجات، ويسمعون ويقرأون فتاوى لا تخطر على بال: من رضاعة الكبير إلى جهاد النكاح وختان الصغيرات. في هذه الأجواء علت أصوات غربية مندّدة بالشريعة الإسلامية في وسائل الإعلام في مختلف أنواعها وفي الجامعات، في حين رفع بعض المسلمين شعارات تتحدّى ذلك وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في مجتمعاتهم الأوروبية، الأمر الذي حدا بعمدة روتردام أحمد أبو طالب إلى توجيه رسالة إلى مناهضي حرية التعبير من المسلمين يطالبهم فيها بأن يلملموا أشياءهم ويرحلوا عن أوروبا.
ولكن السؤال الذي يُطرَح هنا: هل يعرف هؤلاء الذين يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية أولاً: ما هي؟ وثانياً: إلى أي زمن تعود؟ وهل حقاً أنها تناقض التطور والحضارة الحديثة كما يدّعي الغربيون؟
الشريعة الإسلامية بكل بساطة هي آيات الأحكام الواردة في القرأن الكريم مثل العبادات و المعاملات والجهاد وغيرها، وهي إلهية بمعنى أنها مُنزَلة. أما ما نفهمه من هذه الآيات بغية تطبيقها والعمل بها فيُسمَّى الفقه (الفهم والمعرفة المتعلّقان بالأحكام الشرعية)، وهذا ما يجعل عامة الناس تخلط بين الشريعة وفقهها. فالفقه الإسلامي هو عمل إنساني بحت و-غير مقدّس- نشأ في القرن التاسع، في أواخر أيام الدولة الأموية وبدايات عهد الدولة العباسية، وأشرف عليه وقام به فقهاءٌ أَعلام كجعفر الصادق وأبي حنيفة والشافعى وإبن حنبل وغيرهم، فإجتهدوا ووضعوا أسساً تشريعية تتناسب مع شروط تاريخية معيّنة خاضعة للوضع المعرفي والسياسي والإجتماعي المتّبع. ومثالٌ على ذلك، كان مفهوم الحرية عند الفقهاء في ذلك العصر نقيض الرقّ والعبودية فقط، إنما في وقتنا الحاضر فقد توسّع هذا المفهوم ليشمل حرية التعبير وتقرير المصير والرأي والحصول على المعلومات والصحافة والإختيار. لقد إجتهد فقهاء القرن التاسع وفسّروا الأحكام ضمن الأرضية المعرفية التي كانت لديهم في ذلك الوقت، وهي بذلك تحمل الصفة التاريخية التي تتأثر بالمعارف والظروف المعاصرة للفقيه المجتهد. إن المشكلة الكبرى التي أوقع المسلمون أنفسهم فيها أنهم إعتبروا أن إجتهاد الفقهاء الأجلّاء في زمنهم وبيئتهم الإجتماعية والسياسية، مقدّس وصالح لكل زمان ومكان، فثبّتوا على أساس ذلك نسخة إعتبروها أصلية صالحة لكل العصور وبدأوا القياس عليها.
من ناحية أخرى، تأثّرت أوروبا بأفكار العلّامة الأندلسي إبن رشد، وظلّت مدرسته الفكرية مهيمنة، ودُرِّست كتاباته في جامعة باريس وجامعات أخرى، وقال فيه جورج سارتون، أب تاريخ العلوم، ما يلي: “ترجع عظمة إبن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لقرون عدة. وقد يصل تاريخ الرُشدية إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهي فترة من أربعة قرون تستحق أن يُطلَق عليها العصور الوسطى، حيث أنها كانت تُعدّ بمثابة مرحلة إنتقالية حقيقية بين الأساليب القديمة والحديثة”. ولكن للأسف، فقد تجاوزت اوروبا إبن رشد أما العرب فلم يجرؤوا حتّى على تجاوز الغزالي. هل من المنطق مثلاً أن نلجأ إلى كتب أمير الأطباء إبن سيناء للبحث عن علاج اليوم ونترك المعاهد الطبية الحديثة المتقدّمة والمتخصّصة؟
لا حرج إن قلنا أن أصول الفقه الإسلامي التي وُضِعت في القرن الثاني الهجري لم تعد صالحة في القرن الخامس عشر الهجري أو القرن الواحد والعشرين، إننا نحتاج إلى أصول فقه جديدة تقوم على المفاهيم المعرفية والأدوات المتوفّرة في عصرنا الحاضر، حيث علينا إستغلالها إلى الحد الأقصى للقضاء على الجهل والفقر وإستبداد الحكام. والعمل بقول ألرسول الكريم: أنتم أدرى بشؤون دنياكم.

• وزير الإقتصاد في جزيرة “كوراساو” في البحر الكاريبي وهو من أصل لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى