الحقائق فحسب …

بعدما إنتشرت الصحافة الصفراء في العالم والتي تصنع وتفبرك الأخبار بدلاً من نقلها بوقائعها الصحيحة، وبعدما أخذ السياسيون مداهم في التلفيق وإعطاء الوعود الكاذبة بغية الوصول إلى السلطة، وُلِدت صحافةٌ جديدة عمادها التثبت من الحقائق والوقائع وكشفها إسمها “التدقيق في الحقائق” أو “التحقيق في الوقائع” والتي سوف يكون لها تأثير تدريجي في تغيير الكثير من العادات والتقاليد لدى السياسيين والصحافيين أينما كانوا.

الرئيس باراك أوباما: نال 4 "بينوكيوز"
الرئيس باراك أوباما: نال 4 “بينوكيوز”

بقلم غلين كيسلر*

في الترتيب الأخير ل”بيت الحرية” (Freedom House) لحرية الصحافة في جميع أنحاء العالم، جاء المغرب في المرتبة 147 من أصل 197 بلداً. وعلى الرغم من الدستور الجديد الذي أُقِرّ في العام 2011، والذي من المفترض أن يضمن حرية الصحافة، فإن الحكومة كانت بطيئة في تنفيذ الإصلاحات التي من شأنها أن تدعم هذا الحق. هناك خطوط حمراء واضحة، لكنها غير رسمية، ما زالت في المكان، وتكمن في موضوع التطرق إلى، أو مناقشة، النظام الملكي، والأراضي المتنازع عليها في الصحراء الغربية، والإسلام؛ وهكذا فإن الصحافيين هناك يسيرون على خط رفيع.
لكن منظمة غير حكومية مغربية تُدعى “كابديما” (آفاق الديموقراطية في المغرب)، التي تتلقى منحة من وزارة الخارجية الأميركية، تأمل في هزّ الوضع السياسي والصحافي الراهن وتحسينه من خلال إنشاء موقع على شبكة “الإنترنت” من شأنه أن يحقّق في إدّعاءات المسؤولين الحكوميين والمشاريع الرسمية. في قيامها بذلك، سوف تنضم “كابديما” إلى هذا النوع من الخدمات الجديدة المستقلة التي تحقّق بإدعاءات المسؤولين وتدقّق في الوقائع السياسية والإقتصادية التي إنتشرت أخيراً في جميع أنحاء العالم؛ وفقاً لبيانات جمعها مختبر المراسلين في جامعة “ديوك” الأميركية، تم إنشاء أكثر من 80 منظمة وجمعية في هذا المجال منذ العام 2010.
إنطلق هذا الإتجاه في الولايات المتحدة، إلى حد كبير، رداً على فشل وسائل الإعلام المحلية في التحقيق وفحص إدعاءات إدارة جورج دبليو بوش بشكل صحيح حول أسلحة الدمار الشامل في العراق في الفترة التي سبقت الغزو في العام 2003. هناك الآن ثلاث منظمات رئيسية ل”فحص الحقائق” في الولايات المتحدة وهي: “FactCheck.org”، التي تأسست في العام 2003 بمشاركة جامعة بنسلفانيا؛ و”بوليتيفاكت” (PolitiFact) التي أُنشأتها في العام 2007 صحيفة “تامبا باي تايمز”؛ ومنظمة “مدقق الحقائق” (The Fact Checker)، التي أطلقتها صحيفة “واشنطن بوست” في العام 2007 . كما أن صحفاً أميركية محلية كثيرة وقنوات تلفزيونية تقوم بعمليات تدقيق للحقائق على صفحاتها أو عبر برامجها على الهواء، خصوصاً خلال مواسم الإنتخابات.
في الولايات المتحدة، وصل “التدقيق في الحقائق” إلى مستوى مهم خلال الإنتخابات الرئاسية في العام 2012، فيما كشف “المحققون في الوقائع” إدعاءات مضلّلة من قبل حملة باراك أوباما عن سجل أعمال “ميت رومني” والعديد من إدّعاءات رومني الخاطئة بشأن الإقتصاد وإنقاذ صناعة السيارات. عند نقطة إضطر خبير إستطلاعات الرأي لدى رومني إلى الإعلان “إننا لن نسمح أن تسير حملتنا وفق لعبة التدقيق في الحقائق”. مع ذلك، وظّفت كلا الحملتين متحدثَين معينين للتعامل مع الإستفسارات الموجّهة من المدققين في الحقائق. وقد ظهرت قصص عن تأثير التدقيق في الوقائع في وسائل الإعلام الدولية، الأمر الذي أدّى إلى نشر الفكرة في الخارج.
الآن إنتشر هذا الشكل الجديد من الصحافة عالمياً. هناك مدققون للحقائق تقريباً في كل جزء من العالم: في المملكة المتحدة، وإيطاليا، وتقريباً جميع دول البلقان، وفي جنوب أفريقيا، ومصر، وفي الهند وكوريا الجنوبية. في تشيلي، كشفت مجموعة تدقيق في الحقائق تُدعى “إل بوليغرافو” (El Polígrafo) أن العديد من المرشحين للرئاسة قد لفّقوا سيرهم الذاتية. وتقوم منظمة منابع الحشد الجماعي الأرجنتينية “تشيكويدو” (Chequeado) بجمع قاعدة بيانات خاصة بها من الإحصاءات لأن البيانات الصادرة عن الحكومة مشتبه ومشكوك في صحتها.
وحتى أن الجماعات المتباينة بدأت العمل معاً. في العام 2014، شكّل مدققو الحقائق جمعية دولية بعدما عقد العشرات منهم إجتماعاً في لندن في حزيران (يونيو) الفائت. وعندما إجتمع قادة مجموعة ال20 في أوستراليا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، تعاون مدققو الحقائق وجمعوا قواهم معاً من جميع أنحاء العالم كذلك. وكالات أنباء من الأرجنتين، وأوستراليا، وبلجيكا، والبرازيل، وايطاليا، وجنوب أفريقيا، وتركيا، والولايات المتحدة فحصت تصريحات وإدعاءات القادة في القمة، منتجةً بذلك أول تدقيق دولي في الحقائق في العالم.
الكشف عن “factcheckathon”، كما كانت تُسمّى، يجب أن لا يأتي مفاجئاً. لقد إتّضح أن كثيرين من قادة العالم يحبّون المبالغة بالنسبة إلى السجل الإقتصادي لبلدانهم، وخصوصاً عندما يتحدّثون الى زعماء عالم آخرين. للتأكيد، إن المدققين في الحقائق لا يتوقّعون بالضرورة تغيير هذا السلوك من السياسيين. بدلاً من ذلك، إن هدفهم يكمن في تثقيف المواطنين حول القضايا السياسية الحرجة. إذا كان الناس أكثر إستنارة، يذهب التفكير، فإنهم سوف يُقدِمون على خيارات أفضل.
وهكذا أصبح التدقيق في الحقائق السياسية عنصراً أساسياً في الصحافة المستقلة في المجتمع الديموقراطي. أنه يعلّم كلّاً من السياسيين والناخبين أن هناك شيئا يُدعى أرض الحقيقة والوقائع التي ليست في النزاع، ويمكنها أن تخلق مستوى لقاعدة المعرفة لتقييم تصريحات المسؤولين الحكوميين والشخصيات المعارضة. هذا مهم بشكل خاص في البلدان التي كانت فيها وسائل الإعلام التقليدية متردّدة في تحدّي السلطة والمعايير الصحافية تختلف على نطاق واسع. إن لدى “فحص الحقائق” القدرة السريعة لرفع مستوى الخطاب السياسي ونوعية الصحافة. إن إستثمارات ضخمة في البنية التحتية ليست ضرورية؛ كل ما يحتاجه الدعاة هو موقع على شبكة الإنترنت وبعض المهنيين المحترفين.
لا يوجد نموذج واحد فعّال للتدقيق في الحقائق، بإستثناء الإلتزام بالتقارير غير المنحازة والتدقيق على قدم المساواة في كل ما يمس جميع السياسيين. ويتبع بعض المنظمات صحفاً كبرى أو محطات تلفزيونية (مثل “التدقيق في الوقائع” في محطة “إي بي سي” في أوستراليا)؛ وترتبط جمعيات أخرى كثيرة بمنظمات غير حكومية. مع ذلك، فإن الشركات المستقلة في كثير من الأحيان تناضل من أجل التمويل والإستدامة.
بغض النظر عن الهيكل التنظيمي، فإن منظمات التحقق من الوقائع تقوم عادة في تحديد بيان سياسي، وعادة ما ينطوي على أرقام مشكوك فيها أو تخضع للتدقيق. عندها سوف يحدّد المدقق في الحقائق مصدر المعلومات، ويقيِّم مصداقيتها. ويمكن للمدققين في الحقائق أيضاً أن يتحققوا ما إذا كان السياسي إستخدم الأرقام في سياق مناسب. وبالتالي، يضع “فحص الوقائع” المسؤولية على عاتق السياسي لتبرير إدّعاءاته.
نحو ثلاثة أرباع منظمات فحص الوقائع لديها أنظمة تصنيف التي تحكم على مستوى “الحقيقة”، على سبيل المثال، تمنح منظمة “فاكت تشيكير” (The Fact Checker) جوائز “بينوكيوز” (Pinocchios) في إتجاه معاكس لنظام النجوم في السينما والمراجعة النقدية للمطاعم؛ إن “بينوكيوز” أكثر يعني عدم دقة أكبر. على سبيل المثال، حصل أوباما على أربع جوائز “بينوكيوز” لأنه إدّعى بأن السيناتور جون ماكين قد إجتمع مع أعضاء من تنظيم “داعش” الإرهابي من دون دراية عندما سافر إلى سوريا للقاء قوات المتمرّدين. لكن منظمات أخرى رفضت نظم التصنيف هذه لأنها ليست موضوعية أو دخيلة. فهي تفضّل السماح لتحاليل الإدعاءات المضلّلة أن تثبت نفسها وأن تكون الجائزة. (“كابديما” في المغرب التي تعتزم أن تسمّي موقعها الحَكَم (The Referee,)، سوف تستخدم رموزاً من كرة القدم، مثل بطاقة حمراء أو صفراء، كنظام تصنيف).
تقريباً كل المدققين في الحقائق يعتمدون على وسائل الإعلام الإجتماعية، سواء كمصدر للمعلومات أو كوسيلة للتوزيع. من جهته يركّز موقع “ستوب فايك” (StopFake) على شبكة الإنترنت ومقره في أوكرانيا، على دحض الخرافات وفضح الدعاية الروسية التي تنطلق في وسائل الإعلام الإجتماعية. وفي الوقت عينه، يتقبّل موقع “FactCheckEU” في بلجيكا الذي يراقب تصريحات البرلمانيين الأوروبيين، مساهمات القراء في التدقيق في الحقائق، وترجماتهم، وحتى التصويت على تصنيف تصريحات وإدعاءات السياسيين.
هناك إبتكار آخر في عالم “التدقيق في الحقائق” وهو “تعقب الوعد”، الذي يتتبع مدى إلتزام زعيم بوعوده التي قدّمها قبل يوم الإنتخابات. في الولايات المتحدة، يرصد “بوليتيفاكت” (PolitiFact) عن كثب أكثر من 500 وعد قطعها أوباما عندما خاض إنتخابات الرئاسة في عامي 2008 و2012. كما أن “أوباماميتر” (Obameter) يدل على أن 45 في المئة من وعوده قد نُفّذت و24 في المئة قد نفِّذت في حلّ وسط. ولكن 116 وعداً، أي 22%، لم تنفّذ. في مصر، تتبَّع “مرسي ميتر” 64 وعداً للرئيس المخلوع الآن محمد مرسي قال أنه سيحققها في بلده في أول 100 يوم. (إنتهى به الأمر في تنفيذ عشرة). وقد تمّ إستخدام التكنولوجيا عينها لخلق “روحاني ميتر”، الذي يتابع الوعود الانتخابية للرئيس الإيراني حسن روحاني. (لقد حقق عشرة في المئة من وعوده — و36 في المئة “تحت التنفيذ”).
الآن جاء دور المغرب. بناءً على طلب من وزارة الخارجية الأميركية، قضيتُ أسبوعاً في كانون الأول (ديسمبر) الفائت في المغرب لتدريب العاملين في منظمة “كابديما” والتحدث الى طلاب الصحافة في جميع أنحاء البلاد عن أهمية التحقق من الوقائع السياسية والإقتصادية. كان هناك إهتمام وفضول هائلين بالنسبة إلى مفهوم التحقّق من الوقائع، ولكن أعرب كثيرون عن مخاوفهم بالنسبة إلى كيفية رد فعل الحكومة.
في حالة واحدة حدثت أخيراً، إتُّهم صحافي مغربي بالتشهير الجنائي بعدما نشر فواتير الفنادق التي تُبيِّن أن وزيراً إسلامياً قد نظّم عشاء فخماً، حيث تم خلاله تقديم الكحول، في أثناء زيارة رسمية إلى بوركينا فاسو. وقد بدت قضية الإدعاء بأنها مصمَّمة أساساً لإلهام وحث الرقابة الذاتية بين الصحافيين، الذين يخشون غرامات باهظة أو عقوبة بالسجن لنشرهم مقالات مثيرة للجدل.
ولكن، كما قلت لكثيرين قابلتهم في المغرب، يمكن لعملية فحص الحقائق والتدقيق في الوقائع أن تعمل بشكل جيد ضمن الخطوط الحمراء الخاصة بكل بلد ويمكنها بالتالي أن تُحدث فرقاً من خلال التركيز على القضايا التي تهمّ المواطنين العاديين، مثل تصريحات الحكومة وبياناتها حول حالة الإقتصاد، والعجز في الموازنة، والرعاية الصحية، وأنظمة التقاعد، وهلمّ جرّاً. إن التقارير المنضبطة والصحيحة والدقيقة بشأن هذه القضايا يمكنها ربما فتح المجال للبدء في معالجة موضوعات هي على خلاف ذلك خارج حدود المعالجة.
إن ظهور مواقع “التحقق من الوقائع” أو “التدقيق في الحقائق” في جميع أنحاء العالم يوضّح أن مكانة مهمة تمّ ملؤها. لم تزل الحركة في مهدها، ولكن تأثيرها في البلدان التي ليس فيها تقليد قوي في مجال التحقيقات الصحافية والرقابة الحكومية يمكن أن يكون عميقاً.

• صحافي أميركي يكتب عن “التحقق من الوقائع” أو “التدقيق في الحقائق” لصحيفة “الواشنطن بوست”.
• كُتب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى