إلى أين تتجه أسعار النفط في العام الجديد؟

تشير العوامل الأساسية في السوق إلى هبوط مستمر في أسعار النفط. ولكن يبدو أن مركز قيادة السفينة في هذا المجال مزدحم باللاعبين الذين هم في الغالب من الجامحين والمتهوّرين.

منظمة "أوبك": لم تغيّر مستوى الإنتاج
منظمة “أوبك”: لم تغيّر مستوى الإنتاج

لندن – هاني مكارم

يحاول الجميع البحث عن طريقة لمعرفة وجهة أسعار النفط في العام الجديد بعدما إنهارت في الشهر الفائت إلى ما يقرب من 50 في المئة من أعلى مستوياتها في صيف 2014.
يُعتبر سعر النفط مسألة مهمة لدى الناس العاديين في محطات البنزين وشركات النفط التي تحاول إستثمار مليارات الدولارات. وهذا الأمر تتابعه بإهتمام كبير دول النفط التي تعتمد على مبيعات الخام لتمويل موازناتها، وتهدئة شعوبها، ودفع ثمن مغامرات سياساتها الخارجية. ويهم ذلك أيضاً صانعو السياسات: على محافظي البنوك المركزية ضبط خطط التحفيز المالي للتأكد من أنها لن تتراكم في إنتعاش إقتصادي ينتج من الناس الممنوحين مفاجأة نقدية من النفط الرخيص؛ وعلى أهل السياسة الأميركية أن يقرروا ما إذا كان يجب تصدير النفط أم لا. وكل التحركات على رقعة الشطرنج في الجغرافيا السياسية الدولية ستلعب بشكل مختلف إعتماداً على ما إذا كان النفط قد بيع بسعر عال لسبب ما، أو مُنح بسعر متدنٍّ رخيص لأسباب أخرى.
ومن الواضح أن الجزء الصعب يكمن في معرفة ما الذي سيكون عليه التوجه في 2015. إن عدم التوافق الأساسي بين العرض والطلب الذي أدّى إلى هبوط الأسعار الأخير لا يزال قائماً، على الرغم من أن أسعار النفط تذبذبت إلى أعلى في بعض الأحيان كما حصل في أواخر الشهر الفائت حيث إرتفعت إلى 56 دولاراً في نيويورك و 62 دولاراً في لندن.
إن العالم لا يزال يضخّ كميات كبيرة من النفط أكثر مما يحتاج: لم تقلّص دول منظمة “أوبك” حقاً إنتاجها، والتدفّق الأميركي لم يُبدِ أي علامة على التباطؤ، حتى في دول مثل الصين، التي لسنوات قادت نمواً موثوقاً في الطلب على النفط، فقد إنتشرت فيها فجأة تسجيلات مهرّبة من محاضرات آل غور الإيكولوجية.
وتشير التوقّعات السائدة اليوم إلى أن عدم التوافق الأساسي لن يختفي في العام الجديد، وهو ما يعني أن الأسعار قد تستمر بالهبوط من أدنى مستوياتها في خمس سنوات نحو 60 دولاراً للبرميل. وقد أثار اللاعبون الكبار داخل “أوبك” في الشهر الفائت إحتمال وصول أسعار النفط إلى 40 دولاراً للبرميل في العام 2015.
وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يزيد المنتجون خارج “أوبك” – دول مثل الولايات المتحدة وروسيا والمكسيك – الإنتاج بمقدار 1.3 مليون برميل يومياً، في حين أنه من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي إلى 900،000 برميل يومياً فقط. من جهتها أعطت “أوبك” أرقاماً مختلفة، ولكنها ترسم صورة مماثلة: النمو من خارج “أوبك” سيكون 1.7 مليون برميل متجاوزاً بكثير ال1.1 مليون برميل الإضافية التي يحتاجها العالم.
لذا على “الدببة” في سوق النفط شحذ مخالبهم. إلّا أنها قد تواجه نطحاً من “الثيران” التي تُعطي أسعاراً في الإتجاه المعاكس. وهذا يعود إلى أن هناك مجموعةً من الأسئلة الكبيرة التي ما زالت من دون إجابة حتى الآن، والتي يمكنها أن تُحدث تغييراً جوهرياً في تشكيل أسواق النفط في العام الجديد، وحتى يمكنها دفع الأسعار إلى أعلى من ذلك بكثير. وتشمل هذه المجموعة أسئلة حول العرض والطلب، وسيكولوجية السوق، والجغرافيا السياسية القديمة الجيدة.
لنبدأ مع العرض. لقد أدّى إختلاف أعضاء “أوبك” في إجتماع المنظمة الأخير في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت إلى إختيار قرار الحفاظ على مستويات الإنتاج الحالية، وتحمّل هبوط أسعار النفط، بدلاً من خفض الإنتاج لإنعاش الأسعار ورفعها. وأصرّ مسؤولون رئيسيون في ” أوبك” في حينه على أن السوق سوف تصحّح نفسها؛ كما أكد وزير البترول والثروة المعدنية السعودي علي النعيمي في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الفائت على أنه يرى بأن ضعف الأسعار ظاهرة “مؤقتة”.
ولكن هذا من السهل على السعوديين قوله، ذلك أنهم ينامون على وسادة مليئة بأكثر من 700 مليار دولار من الإحتياطات النقدية. أما الدول المنتجة الأخرى في “أوبك”، مثل إيران والعراق وفنزويلا، فهي بحاجة ماسة إلى إرتفاع الأسعار لسد العجز الهائل في موازناتها.
لذا هناك سؤال مهم يجب أن يطرح هنا وهو: هل سيؤدي الهبوط المستمر في أسعار النفط إلى دفع “أوبك” لدعوة أعضائها لإجتماع طارىء غير عادي قبل حزيران (يونيو) المقبل في محاولة لخفض الإنتاج والحصول على قدر من السيطرة؟
نظراً إلى النهج السلبي الذي تتبعه المملكة العربية السعودية حتى الآن، فإن كثيرين من خبراء النفط يشكّون في أن تحرّك “أوبك” ساكناً قبل الصيف: “الإختلافات والموانع حالياً طويلة جداً وهي ستساعد على الحفاظ على أسعار منخفضة” في النصف الأول من العام الجديد، حسب الدراسة البحثية التي نشرتها “إينيرجي أسبكت” المتمركزة في لندن.
والسؤال الآخر الكبير بالنسبة إلى العرض هو في الولايات المتحدة. إن إنخفاض أسعار النفط يجعل الحياة صعبة بالنسبة إلى عملية التكسير لإنتاج النفط الصخري، لأن تفجير صخور تحت أرض مفتوحة يكلّف أكثر من عملية إستخراج النفط من خزانات يمكن الوصول إليها بسهولة في صحراء الجزيرة العربية. ولكن لا أحد يعرف مستوى هبوط الأسعار الذي يمكن أن تصبح فيه عملية التكسير غير إقتصادية – وهذا يعود في جزء كبير منه إلى تطور عملية التكسير حيث صارت أكثر كفاءة في السنوات الثلاث الفائتة.
من ناحية أخرى، يعتقد معظم الخبراء على أن الصخر الزيتي في أميركا هو في وضع آمن مع سعر برميل النفط فوق ال70 دولاراً. ومع سعر 60 دولاراً أو أكثر بقليل، يبدو عدد غير قليل من المشاريع غير مؤكّد. لكن مع سعر 50 دولاراً أو أكثر بقليل، فالسؤال سيكون عندها مفتوحاً ما إذا كان “وول ستريت” سيظل يموّل آباراً جديدة، بغض النظر عما إذا كان المنتجون يريدون الإستمرار في الحفر أم لا.
لذا فإن السؤال بالنسبة إلى إستخراج النفط في الولايات المتحدة يصبح: في أي نقطة يمكن لإنخفاض الأسعار تجميد الإنتاج الهيدروكربوني الأميركي، ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟ فكلّما صمد المنتجون أطول في الولايات المتحدة وحافظوا على زيادة الإنتاج، فإن أسعار النفط المنخفضة يحتمل أن تغرق أكثر. ولكن إذا أُوقفت المشاريع الهامشية في وقت مبكر وخُفِّض إنتاج الولايات المتحدة، فهذا يمكنه أن يرفع الأسعار إلى مستوى كافٍ لدعم ما تبقى من الصناعة.
بعد ذلك، هناك جانب الطلب من الصورة. يجب الإعتراف بأن الآفاق الإقتصادية العالمية الحالية هي قاتمة. على مدى أشهر عدة، خفّضت وكالة الطاقة الدولية تدريجاً توقعاتها بالنسبة إلى الطلب عن الشهر السابق؛ وشمل أحدث تقدير مزيداً من الإنخفاض في نمو الطلب المتوقع المقدّر ب230،000 برميل من النفط يومياً في العام الجديد.
ولكن هناك الكثير من الأوراق المجهولة. فقد حفّز إنخفاض أسعار النفط الطلب، بالطريقة عينها التي أدى فيها إرتفاع الأسعار إلى خفضه. إلّا عندما لم يحدث ذلك. كما أدّى تراجع الطلب هذا العام إلى إنخفاض أسعار النفط، ولكن تلك الأسعار المنخفضة لم تؤدِّ إلى أي نمو إضافي في الطلب. في حزيران (يونيو) الفائت، توقّعت وكالة الطاقة الدولية أن يرتفع الطلب العالمي هذا العام بمقدار 1.3 مليون برميل يومياً. وبحلول تشرين الثاني (نوفمبر)، على الرغم من التراجع المستمر في الأسعار، كان من الواضح أن هذا النمو لن يتحقق، مع الزيادة السنوية في الطلب على النفط بلغت فقط نصف هذا الرقم.
مع ذلك، لعلّ الطلب سينتعش: كانت مبيعات السيارات في الولايات المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت أنشط من أي وقت منذ العام 2001، حيث كانت السيارات المتعددة الإستخدامات وتلك الرياضية التي تستهلك الكثير من الطاقة الأكثر شعبية. أو ربما لن ينتعش: تراجعت مبيعات السيارات الصينية لأدنى مستوى لها في عامين.
هناك أيضاً دينامية جديدة أصبحت ذات أهمية متزايدة: الطلب على النفط في الدول المنتجة للنفط نفسها. لعقود مضت، الولايات المتحدة على حدة، كان منتجو النفط يضخّون، والدول الغنية تستهلك. الآن، إن بعضاً من أكبر مصادر نمو الطلب هو في المناطق المنتجة للنفط، خصوصاً في الشرق الأوسط، ولكن أيضا ً-حتى وقت قريب- في روسيا.
إن هبوط الأسعار بدأ يؤثر في هذه الإقتصادات –مثال على ذلك ترنّح الروبل الروسي في الأيام الأخيرة– والذي خفّض بدوره الطلب فيها على النفط. والدافع الرئيسي وراء أحدث تنقيحات وكالة الطاقة الدولية كان في الواقع توقعات الطلب الأكثر قتامة على النفط الروسي محلياً في أعقاب إنهيار الأسعار. إنها حلقة سيئة وضارة قيد النشوء –بسبب الضرر الذي يحدثه إنخفاض أسعار النفط في تلك الإقتصادات– حيث تقتل الطلب والموازنات، الأمر الذي يتطلب المزيد من المبيعات النفطية، مما يدنّي بدوره الأسعار.
ولكن هناك مصدراً نائماً محتملاً من نمو الطلب الذي لا علاقة له بمبيعات السيارات أو النمو الإقتصادي. لا تزال الصين تحاول بناء إحتياطات نفطية إستراتيجية من النوع الذي حصل في الولايات المتحدة وأوروبا بعد الحظر النفطي الذي فرضته دول “أوبك” في العام 1973. حالياً، تمتلئ خزانات الصين المخصصة للإحتياطات الإستراتيجية جزئياً، والبلد ليس في أي مكان قريب من هدفه بتأمين 90 يوماً من الواردات في متناول اليد. تاريخياً، منذ الإعلان عن البرنامج في العام 2000، إستغلّت كلٌّ من الحكومة الصينية والشركات الصينية فرصة إنخفاض الأسعار لتخزين النفط الرخيص. وعزا التجار إرتفاع الأسعار في أوائل العام 2012، على سبيل المثال، إلى بناء الإحتياطات الصينية.
لكن عدم وجود الشفافية في الممارسات الإحتياطية الصينية تجعل من الصعب معرفة حجم النفط بالضبط الذي سوف تشتريه البلاد، أو متى. ويشير بعض التقديرات بأن البلاد يمكن أن تستورد بين 130،000 إلى 230،000 برميل إضافية يومياً في العام الجديد لملء كهوف تحت الأرض، والذي من شأنه أن يوفّر الدعم لتصاعد أسعار النفط.
هذه الأسئلة حول العرض والطلب المادي كلّها جزء من الجانب الذي يحدث الآن في سوق النفط؛ الجزء الآخر هو ماذا سيحدث في المستقبل، ويؤثر في كيفية رؤية التجار لتوجه أسعار النفط. إذا أدّى إنخفاض الأسعار اليوم إلى ذعر منتجي النفط ودفعهم إلى إلغاء خطط الإنتاج المستقبلية، عندها سيبدو التوازن بين العرض والطلب ككل في المستقبل أكثر تشدداً، والذي يمكن أن يرسل الأسعار إلى أعلى.
على سبيل المثال، قال خبراء النفط في “وود ماكينزي” في الشهر الفائت أن إنخفاض الأسعار قد يُجبِر شركات النفط الكبرى على خفض جذري في إستثماراتها الرأسمالية في العام الجديد. وبالمثل، فإن التوقعات البرازيلية عن طفرة الإنتاج من حقول النفط في المياه العميقة قد تبدّلت مع أسعار تحوم حول 60 دولاراً. وقد أرجأت شركة “شيفرون” خططاً للحفر في القطب الشمالي الكندي “إلى أجل غير مسمى” بفضل إنخفاض الأسعار. كما أن تطوير الرمال النفطية في كنداً صار مهدداً أيضاً بسبب إنخفاض الأسعار.
والعراق الذي كان يحلم بشكل كبير بخطط لتطوير النفط تهدف إلى توفير الجزء الأكبر من النفط في المستقبل في العالم، تراجع عن هذه التوقعات في ضوء إنخفاض الأسعار وإرتفاع الأعمال الإرهابية. “قد يكون من الضروري إعادة النظر في خططنا الطموحة للسنوات الخمس المقبلة”، قال نائب رئيس الجمهورية العراقي نوري المالكي في الشهر الفائت.
من جهته، أشار بنك الإستثمار “غولدمان ساكس” في مذكرة بحثية، في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، إلى أن مشاريع نفطية مستقبلية تبلغ قيمتها حوالي تريليون دولار هي الآن في خطر وذلك بسبب إنخفاض الأسعار. إذا رأى التجار أن إحتمال فقدان أكثر من سبعة ملايين برميل من الإنتاج في المستقبل هو ما يكفي لبدء قلقهم، عندها ستنتعش الأسعار.
وأخيراً، هناك جعبة كاملة من العوامل المجهولة الجيوسياسية التي يمكن أن تؤثر في إنتاج النفط المادي، أو ببساطة تقلق الأسواق، أو كلاهما؛ كلٌّ منهما يستطيع أن يرسل الأسعار إرتفاعاً بشكل حاد.
إن “الدولة الإسلامية”، الجماعة الارهابية التي تسيطر على مساحات كبيرة من العراق وسوريا، يمكنها أخيراً أن تتحرك إلى الجنوب وتهدّد قلب صناعة النفط في العراق. ويمكن للعقوبات القاسية على روسيا تصعيد التوترات مع الغرب، بدلاً من تراجعها في أوكرانيا. وقد يتجه إقتصاد فنزويلا المترنّح نحو الهاوية، مهدّداً بإيقاف ملايين البراميل من إنتاج النفط ونشر الفوضى على نطاق أوسع. في ليبيا يستمر كابوس حرب الميليشيات، وهو أوقف فعلياً مئات الآلاف من البراميل يومياً من إنتاج النفط. وصناعة النفط في جنوب السودان تعيش وضعاً سيئاً حيث تعاقدت مع حراس “بلاك ووتر” السابقين للمحافظة على أمن حقولها. وعرض كوريا الشمالية لعضلاتها يمكن أن تتحرك أبعد من قنابل شباك التذاكر فقط. ومرة أخرى يمكن أن تجري الصين حفريات للتنقيب عن النفط في بحر الصين الجنوبي في العام الجديد، ومن المحتمل أن يكون ذلك في المياه التي تطالب بها دول أخرى التي ترسل بشكل متزايد سفنها الحربية لإبعاد بكين. ويمكن أن تتصارع تركيا وقبرص على الوصول إلى حقول الغاز الطبيعي البحرية. وهكذا دواليك.
بعبارة أخرى، في حين أن أسعار النفط منخفضة نسبياً اليوم، وتبدو أساسيات السوق النفطية الهبوطية أنها تشير أكثر إلى الشيء عينه في العام الجديد، فإن الواقع بتواضع هو أن لا أحد يعرف وجهة الأسواق حالياً حقاً – لذا لا أحد سيكون محمياً من العواقب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى