السعوديون يحطّمون عمداً أسواق النفط لتقويض نفوذ إيران

في منتصف سبعينات القرن الفائت ساد خلاف كبير بين واشنطن وطهران على زيادة أسعار النفط. في حين كانت الأولى لا تريد أي زيادة لأن الإقتصاد الغربي يعيش حالة كساد، فإن الثانية أصرّت على زيادة 15% في الأسعار لأنها تعيش أزمة إقتصادية خانقة. لذلك توجّه الرئيس الأميركي آنذاك جيرالد فورد إلى العاهل السعودي الراحل الملك خالد بن عبد العزيز طلباً للمساعدة. وكان إتفاق نتجت منه في نهاية المطاف “الثورة الإسلامية” في إيران التي أطاحت بالإمبراطورية البهلوية.
اليوم تواجه الرياض وطهران الوضع عينه، فهل يعيد التاريخ نفسه؟

الرئيس حسن روحاني: شجب الإجراءات "الغادرة" لمنتج رئيسي
الرئيس حسن روحاني: شجب الإجراءات “الغادرة” لمنتج رئيسي

واشنطن – أندرو سكوت كوبر*

في 2 كانون الثاني (يناير) 1977، أدلى شاه إيران محمد رضا بهلوي بإعتراف مؤلم حول إقتصاد بلاده. فقد أسرّ بصراحة ومرارة في جلسة خاصة إلى أقرب مساعديه، وزير البلاط أسد الله عَلَم، ب”أننا أفلسنا”. وتوقّع الوزير “عَلَم” في حينه أن الآتي أعظم، قائلاً في رسالة بعثها في وقت لاحق إلى الشاه: “لقد أهدرنا كل سنت لنجد أنفسنا مهزومين بخطوة واحدة من المملكة العربية السعودية”. مضيفاً: “نحن الآن نواجه خطراً مالياً كارثياً، ويجب شد أحزمتنا إن أردنا البقاء على قيد الحياة”.
كان الرجلان يعلّقان على الإضطرابات الأخيرة التي حدثت يومها في أسواق النفط. في إجتماع لأعضاء منظمة “أوبك” عُقد قبل أسابيع عدة من نهاية العام 1976في الدوحة، أعلن السعوديون بأنهم سيقاومون ويعارضون تصويت الغالبية التي تقودها إيران لزيادة أسعار النفط بنسبة 15 في المئة. (كان الشاه في حاجة الى زيادة الأسعار لدفع المليارات في إلتزامات إنفاق جديدة). وقد رأى الملك الراحل خالد بن عبد العزيز آل سعود في حينه بأن “إرتفاع الأسعار ليس هناك ما يبرّره عندما نرى بأن الإقتصادات الغربية ما زالت غارقة في الركود” – ولكنه في الوقت عينه كان حريصاً أيضاً على وضع قيود إقتصادية على إيران في وقت كان الشاه يشتري ويأمر ببناء محطات للطاقة النووية ويوسّع نفوذه في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لذا “أغرق السعوديون الأسواق” بالنفط، رافعين إنتاجهم من 8 ملايين إلى 11.8 مليون برميل يومياً، الأمر الذي أدّى إلى خفض أسعار الخام بشكل دراماتيكي. ولأنها غير قادرة على المنافسة، فقد أُخرِجت إيران بسرعة من السوق: تراجع إنتاج النفط في الإمبراطورية البهلوية الفارسية بنسبة 38 في المئة خلال شهر واحد. وتبخّرت مليارات الدولارات من عائدات النفط المتوقّعة، الأمر الذي أجبر طهران على التخلي عن تقديرات موازنتها على مدى خمس سنوات.
وسبّب ذلك أيضاً تأثيراً مدمّراً في سائر القطاعات: على مدى صيف 1977، إنخفض الإنتاج الصناعي في إيران بنسبة 50 في المئة. وإرتفع التضخم بشكل كبير إلى ما بين 30 و 40 في المئة. كما أقدمت الحكومة على تخفيضات عميقة في الإنفاق المحلي لتحقيق التوازن في دفاترها الحسابية، ولكن التقشف جعل الامر أكثر سوءاً عندما فقد الآلاف من الشباب والرجال غير المهرة وظائفهم. قبل إنقضاء فترة طويلة، تصاعدت حدة الضائقة الإقتصادية في البلاد، الأمر الذي أدّى إلى تآكل دعم الطبقة الوسطى لملكية الشاه – التي إنهارت بعد عامين بفعل “الثورة الإسلامية الإيرانية”.
اليوم، إنخفضت أسعار النفط بشكل كبير مرة أخرى، من 115 دولاراً للبرميل في آب (أغسطس) 2013 إلى أقل من 60 دولاراً للبرميل في كانون الأول (ديسمبر) 2014. وقد إغتنم خبراء غربيون، كما هو متوقع، االفرصة للتفكير في ما قد يعني النفط الأرخص لسوق الأوراق المالية. أما بالنسبة إلى الأسباب التي أدّت إلى هبوط الأسعار، فقد إقترح بعض المحللين بأن لا علاقة لها بأي تلاعب من صنابير السعودية: أعاد مقال نشر في كانون الاول (ديسمبر) في “بلومبورغ بيزنس ويك” الفضل لثورة النفط الصخري الأميركية في “كسر رقبة أوبك”.
ليس هناك شك في أن ثورة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة قد أدّت إلى تآكل “القوة المرجّحة” للمملكة العربية السعودية كأكبر منتج للنفط في العالم. ولكن بفضل قدرتها على الضخ، وإحتياطاتها الهائلة، ومخزوناتها الضخمة، فإن الرياض لا تزال أكثر من قادرة على تحطيم أسواق النفط – وعلى إستعداد للقيام بذلك. في أيلول (سبتمبر) 2014، فقد فعلت ذلك تماماً؛ لقد أقدمت على رفع إنتاجها وبالتالي صادراتها بمقدار نصف في المئة (9.6 ملايين برميل يومياً) إلى الأسواق التي كانت غارقة وممتلئة أصلاً بالخام الرخيص؛ ومن ثم بعد بضعة أيام، قدّمت زيادة في الخصومات للعملاء الآسيويين الكبار؛ الأمر الذي أدّى إلى تراجع الأسعار العالمية بسرعة إلى ما يقرب من 30 في المئة.
كما كان الحال في العام 1977، لقد قام السعوديون بالتحريض على هذه الفيضانات النفطية لأسباب سياسية: وإذا كان المحلّلون الأجانب يعتقدون ذلك أم لا، لا تزال أسواق النفط أماكن مهمة للصراع السعودي – الإيراني من أجل التفوّق والهيمنة على الخليج العربي.
هذه ليست هي المرة الأولى منذ أواخر سبعينات القرن الفائت التي تستخدم فيها المملكة العربية السعودية النفط كسلاح سياسي ضد منافستها الإقليمية. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، كتب نوّاف عبيد، المستشار الأمني السعودي المقرّب من الأمير تركي الفيصل، سفير الرياض في حينه لدى واشنطن، مقالاً في صحيفة “واشنطن بوست” أشار فيه إلى أنه إذا “عزّزت المملكة العربية السعودية إنتاجها وخفّضت سعر النفط إلى النصف … فذلك سيكون أمراً مدمراً لإيران … [و] سوف يحدّ من قدرة طهران على مواصلة ضخ مئات الملايين كل عام للمسلحين الشيعة في العراق وأماكن أخرى”. بعد ذلك بعامين، في ذروة الأزمة المالية العالمية، تصرّف السعوديون: أغرقوا السوق بالنفط، وخلال ستة أشهر، إنخفضت الأسعار من سجلّها العالي البالغ 147 دولاراً للبرميل إلى 33 دولاراً فقط. وهكذا، بدأ الرئيس الإيراني يومها محمود أحمدي نجاد في 2009، عام الإنتخابات، يكافح مع إنهيار مفاجئ في عائدات النفط الحكومية، وإضطر إلى خفض الإعانات الشعبية ودعم البرامج الإجتماعية. وقد رافق نتائج الإنتخابات المتنازع عليها إنكماش إقتصادي وأسوأ أعمال عنف سياسي في إيران منذ سقوط الشاه.
ظهرت إشارات لفيضان نفطي جديد في أوائل حزيران (يونيو) 2011. فيما كان يتحدث إلى نخبة من كبار المسؤولين الأميركيين والبريطانيين في قاعدة عمليات لحلف شمال الأطلسي بالقرب من لندن، حذّر الأمير تركي الفيصل إيران من عدم الإستفادة من الإضطرابات الإقليمية الناجمة عن “الربيع العربي”. وقد لاحظت صحيفة “الغارديان” البريطانية، مقتبسةً بعض أقوال الأمير السعودي، بأن الإقتصاد الإيراني يمكن أن يتقلّص بشدة جرّاء “تقويض أرباحه من النفط، وهو أمر يلائم السعوديين … وهم في موقع مثالي للقيام به”.
من جهتهم أدرك السعوديون أيضاً، بأن أفضل وقت لتحطيم الأسواق سيكون عندما تصبح الأسعار بالفعل ليِّنة والطلب على السلع الإستهلاكية منخفضاً. في أوائل كانون الأول (ديسمبر) الفائت، وبعد بضعة أشهر فقط على إطلاق السعودية العنان لأحدث فيضاناتها النفطية، كتب عبيد مقالاً لوكالة “رويترز” أشار فيه إلى أن قرار حكومته بخفض الأسعار “سوف يكون له تأثير كبير في الوضع السياسي في الشرق الأوسط. ستجد إيران نفسها تحت ضغط إقتصادي ومالي لم يسبق له مثيل فيما هي تحاول الحفاظ على إقتصادها الذي يعاني من العقوبات الدولية”. في الوقت عينه تقريباً، كان السعوديون من دون أدنى شك مسرورين برؤية أسعار الخبز ترتفع بنسبة 30 في المئة في طهران. (الخبز هو عنصر رئيسي في النظام الغذائي الإيراني، وأسعاره هي مؤشّر إلى وضع الإقتصاد).
في 10 كانون الأول (ديسمبر) الفائت، قال وزير البترول والثروة المعدنية السعودي علي بن إبراهيم النعيمي أن بلاده ستحافظ على ضخ 9.7 ملايين برميل يومياً في الأسواق العالمية بغض النظر عن الطلب. من جانبهم، أظهر الإيرانيون قلقاً، إن لم يكن ذعراً. ومن دون تسمية أحد – حيث لم يكن لديه سبب لذلك لأن المقصود معروف- شجب الرئيس حسن روحاني الإجراءات “الغادرة” لمنتج رئيسي للنفط الذي كانت خلف سلوكه “دوافع سياسية” والتي تشكّل دليلاً على “وجود مؤامرة ضد مصالح المنطقة … وسوف لن تنسى إيران وشعوب المنطقة هذه المؤامرات”. وكان نائب الرئيس إسحق جهانجيري في اليوم السابق قد وصف الغرق السريع لأسعار النفط بأنه “مؤامرة سياسية … وليس نتيجة العرض والطلب”.
إن أمل الرياض الحقيقي، إذا كان التاريخ هو أي مؤشر، بأن يؤدي تصاعد إنتاج النفط إلى إجبار حكومة روحاني على تنفيذ موازنة تقشّف التي من شأنها أن تؤجّج الإضطرابات الإجتماعية في نهاية المطاف، وتدفع الناس مرة أخرى الى الشوارع. إذا حدث هذا، فإنه قد لا يؤدي إلى حدث كبير مثل فقدان الشاه للسلطة – لكنه سيكون تعزيزاً لإيمان السعوديين في النفط كسلاح فعّال في المعركة للهيمنة والنفوذ في الشرق الأوسط. في المقابل من المرجّح أن تستمر فيضانات النفط في صخبها الدوري والخطير في كلٍّ من الأسواق والمنطقة على حد سواء.

• محلل وخبير في شؤؤن الطاقة ومؤلف كتاب “ملوك النفط: كيف غيّرت الولايات المتحده وإيران والسعودية ميزان القوى في الشرق الاوسط”.
• كُتب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى