الوضع الإقتصادي في الجزائر: أسوأ مما نعتقد

في ظل الإنخفاض الأخير لأسعار النفط، طُرحت تساؤلات عدة حول قدرة الدول المنتجة للنفط على التعايش والتكيّف مع تلك الأسعار المتدنية من دون حصول ردات فعل داخلية تطيح الأنظمة التي تستمدّ شرعيتها من العائدات الهيدروكربونية السهلة والسخيّة. بعض تلك الدول يبدو أكثر قدرةً على التعايش مع هذه التغيّرات كالمملكة العربية السعودية، وبعضها إستطاع تنويع الإقتصاد لتلافي المرض الهولندي كالإمارات العربية المتحدة. بلدانٌ أخرى كروسيا وإيران وفنزويلا تبدو الأكثر تضرراً بسبب عدم تنوّع إقتصاداتها وتزامن إنخفاض الأسعار مع عقوبات إقتصادية قاسية عليها. كُتِب الكثير عن مدى قدرة تلك الدول على الصمود ومدى تأثّر دول الخليج على المديين المتوسط و البعيد، في حين بقيت الجزائر بعيدةً بشكلٍ ما من الضجيج الإعلامي. نسعى في هذا المقال أن نسلّط الضوء على تداعيات إنخفاض الأسعار على الإقتصاد الجزائري ومدى إمكانية أن يدخل بلد المليون شهيد في مخاض سياسي من عدم الإستقرار.
فشلت الجزائر على مدى العقد الأخير في تنويع إقتصادها. ذلك البلد ذو القدرات الجغرافية، والديموغرافية، و”الثرواتية” الكبيرة، يعتمد ٦٠٪ من موازنته على المصادر الهيدروكربونية والتي تشكل أكثر من ٩٧٪ من مصادر العملات الصعبة للإقتصاد. بالمعنى الإقتصادي يعني ذلك أن الجزائر لا تصدّر سوى النفط و الغاز. فهي لا تصنع ولا تزرع ولا هي دولة خدمات أيضاً. إنها دولة ريعية بإمتياز، حيث تتمتع بقطاع خاص ضعيف يساهم بأقل من ٤٠٪ من التوظيف في حين توظف الدولة أكثر من ٦٠٪ من اليد العاملة، علماً أن عدداً كبيراً من هذه العمالة هي عمالة مقنعة تهدف إلى إرضاء الشعب تلافياً للمظاهرات و الإحتجاجات و المشاكل السياسية. أما الجانب الأخطر من هذا النظام الريعي فهو إعتماده على سياسات دعم سخية في معظم القطاعات ولا سيما السكن، التعليم، الصحة، بالإضافة إلى الغذاء والكهرباء والمشتقات النفطية. ويشكّل هذا الدعم ما يفوق ال٢١٪ من الناتج المحلي، إحدى النسب الأعلى عالمياً. و مع دخول دول عربية مجاورة في حالةً من الفوضى في العام ٢٠١١، زادت الجزائر من سياسة الدعم تلافياً للمخاض ذاته، فرفعت الرواتب و دعمت السكن. و لعلّه يمكن القول أن تلك السياسة نجحت لدرجةٍ كبيرة خصوصاً أن السكن كان من الأسباب الإقتصادية الأبرز لنشوء الثورات العربية كما أشرنا في في إحدى ابحاثنا السابقة. كل هذا الدعم كان لا يمكن أن يكون لولا عائدات النفط.
ومع إنخفاض أسعار النفط يبرز التساؤل عن مدى قدرة الدولة على الإستمرار في النهج الحالي الذي يعتمد بشكلٍ كبير على شراء الإستقرار بالنفط بدلاً من تعزيز القطاع الخاص و محاربة الفساد من أجل النهوض بإقتصادٍ منتج عصري ذي قيمة مضافة عالية. لا يبدو أن الجزائر قادرة على مواجهة تلك العواقب كما يزعم رجال النظام. صحيح أن الدولة تمتلك إحتياطاً نقدياً يقارب ال٢٠٠ مليار دولار، والذي يشكّل دعامة أساسية في الفترة المقبلة، كما أكّد وزير المالية أخيراً على أن إنخفاض أسعار النفط لن يؤثّر في سياسات الدعم و المشاريع القائمة. كما تشير السلطات الجزائرية إلى أنها لن تتأثر بسبب إعتمادها على سعر ال٣٥ دولاراً لبرميل النفط الواحد في موازناتها. لكن هذا المبلغ (أي ال٢٠٠ مليار دولار) لا يمكنه شراء أكثر من سنتين من الإستقرار. فسياسات الدعم تحتاج إلى ما يقارب ال٤٢ مليار دولار سنوياً (على أساس الناتج المحلي للعام ٢٠١٣ و الذي بلغ ٢١٠ مليارات دولار). بناءً عليه فقد أعلنت السلطات عن تجميد التوظيف في العام ٢٠١٥ وإيقاف العديد من مشاريع البنى التحتية في العاصمة الجزائر. فكل تراجع بقيمة دولار واحد في أسعار النفط يؤدي إلى تراجع بما يقارب ال٥٦٠ مليون دولار سنوياً من العائدات النفطية التي تقدر ب٥٥ مليار دولار. من هذا المنطلق، فإن التراجع في أسعار النفط و أخيراً في أسعار الغاز، قد يؤدي فعلاً إلى مشاكل في هذا البلد الذي يعاني من نسب مرتفعة في الفساد (المرتبة ١٠٠ بين ١٧٥ دولة في مؤشر الشفافية) ومن مستويات متدنية جداً في الجو الإستثماري (الأسوأ بعد مالي)، ويعاني من تراجع كبير في الثقة بين المواطن و النظام خصوصاً مع إتهام شكيب خليل، أحد المقربين من الرئيس الحالي في قضايا فساد من قبل المحاكم الإيطالية.
صحيح أن الشعب الجزائري لا يريد الفوضى أو الرجوع إلى الأيام السوداء التي مرّت بها الجزائر في تسعينات القرن الفائت، إلّا أنه لا يُخفى على أحد تزايد الحركات الإحتجاجية ذات الطابع المطلبي في العديد من المناطق والتي كان آخرها في مدينة حاسي مسعود التي طالبت الحكومة بتأمين السكن و الوظائف. فشبح إنخفاض أسعار النفط في العام ١٩٨٦ وما تبعه من إحتجاجات وفوضى وحتى دستور ال١٩٨٨ مروراً بسنوات القتل و الذبح التي تلاها يبقى في مخيلة الكثير من الجزائريين الذين عاصروا تلك الحقبة، مما يطرح تساؤلاً مهماً عن مدى قابلية الشباب الجزائري اليوم، إن تردّت الأوضاع الإقتصادية، من إستعمال العنف للحصول على حقوقهم. الوضع في الجزائر كما هو في الأنظمة الأوتوقراطية الأخرى: تبدو متماسكة و قوية، لكنها هشة جداً خلال الأزمات.

بقلم الدكتور عبد الله ناصر الدين*
• خبير إقتصادي وأستاذ الإقتصاد في كلية إدارة الأعمال في جامعة بيروت العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى