البحرين – “داعش”: قصة علاقة

كانت الحكومة البحرينية تعمل بجهد إضافي لسحق الناشطين المؤيدين للديموقراطية. ولكن ماذا عن أتباع ومؤيدي تنظيم “الدولة الإسلامية” الذين يعيشون في أراضيها ومن بينهم أفراد في القوى الأمنية؟

المنامة – باسم رحّال

الملك حمد بن عيسى آل خليفة: الديموقراطية طريقه إلى الإستقرار
الملك حمد بن عيسى آل خليفة: الديموقراطية طريقه إلى الإستقرار

أمام خلفية من المناظر الطبيعية الخضراء الجميلة على طول نهر الفرات، سار أربعة شبان يحملون بنادق هجومية على تل في حركة بطيئة، حاملين العلم المميَّز لتنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً بداعش). ثم ما لبث أن إنطلق صوتٌ يُخبرنا بأن هؤلاء “المحاربين المؤمنين بالعقيدة” ينفّذون “مهمة نبيلة” هدفها “تنقية وتطهير” العراق. مُتحدِّثين الى الكاميرا، بعث الأربعة برسائل صوتية إلى “عائلاتهم السنية” في البحرين. وبصرف النظر عن المناشدات المتوقَّعة للإنضمام إلى جهادهم، فإن الغرض الأساسي من “الفيديو” كان لتشجيع أفراد قوات الأمن في وطنهم للإنضمام إلى “الدولة الإسلامية”. كما حثّوا مواطنيهم البحرينيين على مقاطعة الإنتخابات البرلمانية في تشرين الثاني (نوفمبر).
إن هذا “الفيديو”، من دون أدنى شك، هو دليل حيّ على أن مملكة آل خليفة لديها مشكلة مزدهرة مع التطرف السلفي.
وتفيد المعلومات المتوفّرة من مصادر مطّلعة إلى أن دعم الجماعات المتطرفة إنتعش في البحرين حتى فيما كانت الدولة تضيِّق الخناق على المعارضة السلمية غير العنيفة المؤيدة للديموقراطية. إن إستجابة النظام وردّ فعله على “الفيديو”، والذي شاهده أكثر من 100،000 شخص منذ أن تمّ تحميله على “الإنترنت” في شهر أيلول (سبتمبر)، كانا الصمت، رغم أن المسؤولين يعترفون بأن لا يقل عن 100 من البحرينيين قد إنضموا إلى “الدولة الإسلامية” وأن عدداً منهم قد قُتل. إن هذا العدد صغير لكنه مهم. ليس فقط بأن هناك صلة مباشرة بين هذا التنظيم السلفي المتطرف والأجهزة الأمنية في المنامة (كما يوحي “الفيديو”)، لكن “الفوج” البحريني في “الدولة الإسلامية” يشمل الشيخ تركي البنعلي، أحد الدعاة المتشدّدين الأكثر نفوذاً في التنظيم.
الواقع أن الموقف العام في البحرين بالنسبة إلى الحرب ضد “داعش” يتناقض بحدة مع ما تحاول الدولة أن تدّعيه. لقد عملت المملكة على تقديم نفسها كرائدة في دول مجلس التعاون الخليجي بالنسبة إلى الجهود المضادة ل”الدولة الإسلامية”. في بداية الحملة الجوية التي شنّتها الولايات المتحدة ومجموعة مختارة من الحلفاء في أيلول (سبتمبر) الفائت ضد التنظيم السلفي المتشدّد، ظهر وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، في وسائل الإعلام الغربية، بما فيها “بي بي سي” و”سي أن أن”، للإعلان عن عضوية البحرين في التحالف العسكري الأميركي. حتى أن خليفة تحدث عن الحاجة إلى تخليص المنطقة من هذه “الجماعة المنحرفة”.
مع ذلك، قد يكون بعض البحرينيين تساءل عن النقطة التي يُنظر فيها إلى هذه المجموعة بأنها قد “إنحرفت”. في شهر حزيران (يونيو) الفائت، غرّدت وزيرة الإعلام سميرة رجب على تويتر” بتعاطف حول التقدّم الذي كان يحرزه تنظيم “الدولة الإسلامية” في ذلك الحين، حيث أشارت إليه على أنه قد يمثّل “ثورة ضد الظلم والقهر اللذين خيّما على العراق لأكثر من 10 أعوام” – وجهة نظر ردّدتها شخصيات بارزة كثيرة في البحرين.
من جهتها لم تعطِ سلطات المنامة أي إنطباع بأنها تعالج التهديد الداخلي الآتي من تجنيد “الدولة الإسلامية” لمواطنيها بشيء من الجدية مثل تلك التي تُطبَّق على “إجتثاث الخونة” – في إشارة إلى الناشطين المؤيدين للديموقراطية الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاح منذ العام 2011. حتى الآن، فقد تم التعرف على واحد فقط من أولئك الموجودين في “فيديو” “داعش”- وهو ضابط سابق في الشرطة البحرينية يدعى محمد عيسى البنعلي – على الرغم من أنه من الصعب التصديق بأن إكتشاف هويات الثلاثة الآخرين أمر صعب جداً في بلد يبلغ عدد سكانه الأصليين أقل من 600 ألف مواطن.
وعلى النقيض من الخطاب الكبير المُستخدَم ضد المعارضين السياسيين، تميل السلطات إلى رفض القول بأن التطرف هو سبب “تشدّد” الشباب الذين “ضُلِّلوا”. كما ليس هناك إعتراف بأن الكتب المطبوعة والتي يوزّعها الجيش البحريني نفسه عزّزت الفكر التكفيري الذي يدعم “الدولة الإسلامية” والجماعات المتطرفة الأخرى. عادل جاسم فليفل، وهو عقيد سابق في جهاز أمن الدولة الذي كان متَّهماً بإرتكاب التعذيب والتبشير علناً بخطاب الكراهية الطائفية، إِعتُقل أخيراً، حيث أدين بتهمة واحدة فقط أقل خطورة تتمثّل بمخالفات مالية. وقبل إعتقاله هذا الصيف كان قد أمضى ثلاث سنوات بالوعظ علناً عن وجهات نظر متطرفة في المحرق، ثالث أكبر مدينة في البحرين.
حتى الآن لا يبدو أنه قد تم توثيق أي محاكمة لأي شخص في المملكة الخليجية بتهمة النشاط الإرهابي المتعلق بتنظيم “الدولة الإسلامية”- على الرغم من أن الحكومة تعهّدت بمتابعة ورصد أنشطته. وقد عرضت الحكومة عفواً لمدة أسبوعين للجهاديين السابقين في آذار (مارس) من هذا العام. (رد بحريني مقاتل بتمزيق جواز سفره البحريني على موقع يوتيوب). مع ذلك، يتباهى المعلّقون على المواقع البحرينية التي تدعم “داعش” بالحرية التي يتمتعون بها في المملكة مقارنة مع دول خليجية أخرى مثل الإمارات العربية المتحدة.
على النقيض من ذلك، فإن الحكومة قد قمعت بعنف الحركة السلمية إلى حد كبير وغير الطائفية – التي قادها نشطاء مثل نبيل رجب، رئيس مركز البحرين لحقوق الإنسان المحظور – التي تواصل النضال من أجل المساواة والحرية وحقوق الإنسان. وقد إعتقل رجب في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) لتغريده على “تويتر” أن “الكثير من الرجال في البحرين الذين إنضموا إلى الإرهاب و”داعش” جاؤوا من المؤسسات الأمنية وهذه المؤسسات كانت أول حاضنة للإيديولوجية السلفية المتشددة”. وُجِّهت إليه تهمة “إهانة المؤسسات الوطنية”، وهي جريمة يُعاقَب عليها بالسجن لفترة تصل إلى ثلاث سنوات. في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، أمرت محكمة بحرينية بالإفراج عن نبيل رجب، وتأجيل محاكمته حتى 20 كانون الثاني (يناير) 2015، مع فرض حظر على سفره خارج البلاد. وكان رجب سُجن بالفعل لعامين بتهم شملت إنتقاد رئيس الوزراء، وأُفرِج عنه في أيار (مايو) الفائت.
على مدى ثلاث سنوات، دمَّر النظام المساجد الشيعية، مُنفِّذاً نمطاً طائفياً، و”وطَهّر” مؤسّسات الدولة في حملة تم خلالها إعتقال ما يصل إلى 15،000 شخص؛ حوالي 3000 منهم ظلوا في السجن. إن السرد الحكومي الطائفي – بأن النظام السني والموالين له مهدَّدون من قبل الشيعة، الذين يشكّلون ثلثي السكان – هو النموذج الذي تمّ إستخدامه لتأطير الإنتفاضة المؤيدة للديموقراطية البحرينية منذ البداية. وتشمل المعارضة الشيعة، الذين يشعرون حقاً بالظلم جرّاء عقود من الإقصاء، إضافة إلى العديد من الآخرين الذين يطالبون منذ وقت طويل بمملكة دستورية وإحترام حقوق الإنسان والمواطن.
في الشهر الفائت، كَشَفَت منظمة غير حكومية، “مرصاد البحرين”، قائمة ل77 شخصاً مستهدفين من قبل وكالات الإستخبارات البحرينية بإستخدام تكنولوجيا المراقبة البريطانية. هذه الأسماء التي وردت تتألف بالكامل تقريباً من المحامين والنشطاء والصحافيين الذين يدعمون الإصلاح السياسي. إن الإدّعاء بأن المعارضة السلمية هي أكثر تهديداً من الجريمة والإرهاب بالنسبة إلى “الأمن القومي” يجسّد نظرة دولية مشوّهة للنظام البحريني.
مع ذلك، إن أكبر مساهمة بحرينية ل”الدولة الإسلامية” لم تكن فقط في شكل مقاتلين وتمويل، فقد كانت من خلال تقديم الدعم الفكري والأخلاقي، وخصوصاً من رجل الدين البحريني الشيخ تركي البنعلي، المنظّر الروحي حالياً ل”داعش” في الموصل، الذي وضعت كتاباته الأسس ل”أبو بكر البغدادي” التي أهّلته لكي يكون الخليفة الصالح الذي على جميع المسلمين إطاعته والولاء له. ويمكن العثور على جميع خطبه في البحرين وليبيا وتونس على موقع “يوتيوب”، وكان يسافر ويعظ بحرية حتى على الأقل نهاية العام 2013، إن لم يكن حتى وقت لاحق. في العام الفائت، قاد مظاهرة خارج السفارة الأميركية في المنامة مع غياب قنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والحشد، التي عادة ما تُستخدم أثناء التجمّعات المؤيدة للديموقراطية، على الرغم من أن المتظاهرين كانوا يلوّحون بأعلام تنظيم “القاعدة” وصور أسامة بن لادن.
لسنوات، عمل الشيخ تركي البنعلي على توسيع نفوذه في البحرين وتجنيد الشباب لقضيته مع قليل من تدخل، أو من عدم تدخل، السلطات. إن المجتمع البحريني صغير ومترابط، وهذا ما قد يفسِّر سبب تمتّعه بالحرية والإفلات من العقاب لفترة طويلة. إن قبيلة البنعلي هي من القبائل المهمة في البلاد بسبب علاقاتها الوثيقة التاريخية والقبلية مع نظام آل خليفة. (يرتبط تركي البنعلي أيضاً بمحمد البنعلي، مسؤول الشرطة المنشق).
بالطبع، بعض الدعم الشعبي ل”الدولة الإسلامية” كان دافعه في البداية مشاعر حقيقية للتضامن مع الأشقاء العرب السنة الذين يعانون من إضطهاد النظام السوري كما بسبب الإيديولوجية السلفية. لكن الحكومة البحرينية من جهتها كانت تقوم أيضاً برعاية وتغذية الجماعات المتطرفة وإيديولوجيتها الطائفية لمواجهة ما يسمّى ب “التهديد الشيعي” الذي تشكّله الإنتفاضة المؤيدة للديموقراطية. على مدى عقود، قامت الحكومة بإستثناء الشيعة وإبعادهم من المناصب الحساسة، وهي سياسة إقصاء شملت ملء التوظيف والتجنيد في قوات الأمن بواسطة مرتزقة من اليمن وسوريا والعراق وباكستان وبلوشستان. وقد مُنحت بسرعة لغالبية هؤلاء “البحرينيين الجدد” الجنسية وحق المواطنة. إن شعبية إيديولوجية “الدولة الإسلامية” وتزايد دعمها ضمن أجهزة الأمن البحرينية تُظهر بوضوح كيف أن هذه السياسة كانت لها نتائج عكسية.
مع ذلك، بعيداً من إظهار الإمتنان لهذا الدعم والتأييد، شجب تنظيم “الدولة الإسلامية” عائلة آل خليفة الحاكمة ووصف أفرادها ب”الزنادقة” لأنهم أتاحوا الفرصة للأميركيين لإطلاق الضربات الجوية ضد الجهاديين في سوريا والعراق من القاعدة البحرية الأميركية في البحرين. ويهاجم التنظيم التكفيري أفراد العائلة المالكة أيضاً لسماحهم بيع الكحول و”وضع أنفسهم على أنهم آلهة إلى جانب الله”.
وفي الوقت عينه، فإن المفاوضات بين النظام و “جمعية الوفاق الوطني الإسلامية”، وهي حزب المعارضة الرئيسي، قد انهارت، وقررت “الوفاق” مقاطعة الإنتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في تشرين الثاني (نوفمبر ) الحالي. وقد عرض الملك تنازلات، لكنها كانت ضئيلة، غامضة، وغير كافية لإقناع “الوفاق” بالمشاركة. (ومن بين مطالب الجمعية: المساواة في نظام التصويت، حكومة منتخبة، وقضاء نزيه ومستقل). إن الحصول على بيانات الإقتراع المحايدة في البحرين أمر مستحيل عملياً، ولكن توحي المشاعر على وسائل الإعلام الإجتماعية أن المقاطعة تتمتع بتأييد واسع. رداً على ذلك، قضت المحكمة الإدارية في المنامة في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) بتوقيف أنشطة حزب “الوفاق” بعد الدعوة التي قدمتها وزارة العدل في البلاد ضده لمدة ثلاثة أشهر. هذه الخطوة الخطيرة لحظر ومنع كل نشاط سياسي سيدفع الحركة الديموقراطية إلى العمل تحت الأرض، وسوف يقودها نحو إستخدام العنف.
بما أن البحرين حالياً “في حالة حرب”، فقد تم وضع الحديث عن الإصلاح والمصالحة في المقعد الخلفي. إن حلفاء النظام الملكي الغربيين هم أيضاً أكثر قلقاً إزاء تنامي الوضع الشاذ في حضن العالم العربي بدلاً من معالجة البيئة التي ولّدته ويتغذى منها.
ولكن هذا خطأ. السؤال الأكبر الذي يحتاج إلى معالجة في منطقة الخليج يكمن في كيفية محاربة سبب التحوّل إلى التطرف المتشدّد الذي كان بمثابة الحاضن المادي والإيديولوجي لتنظيم “الدولة الإسلامية”. لا يكفي مواجهة العدو بالوسائل العسكرية من دون معالجة الأسباب الجذرية للطائفية والبيئات والثقافات المحدّدة التي نشأ وينمو فيها. يحتاج النظام البحريني أولا إلى تفكيك النظام الذي يشجّع التطرف، ويعزز الطائفية، ويفرض سياسات إقصائية، والذي يعيش على سياسة القمع.
قد يعتبر حكام البحرين أن دور البلاد في الإئتلاف هو ضروري للحفاظ على أنفسهم. ولكن، إذا فقدوا حلفاءهم الغربيين، وإذا إنضمت أو مالت قاعدة صغيرة من الموالين السنة إلى المتطرفين، فإن موضوع الشرعية السيادية، الذي صار عارياً إلى حد ما، قد لا يكون قوياً بما فيه الكفاية للحفاظ على سلالة آل خليفة في السلطة. إن النظام يأمل أنه يمكنه أن يقلّل من الضغوط الخارجية من أجل التغيير الديموقراطي من خلال تعزيز تحالفه مع الغرب. لكن الدول الحليفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، ينبغي ألّا تسمح بأن تٌستَخدم مشاركة النظام في الهجوم العسكري على “داعش” بمثابة مقايضة لتجنّب الديموقراطية الحقيقية.
الواقع هو أن البحرين، على غرار العديد من الدول العربية الأخرى، هي في حاجة ماسة إلى الوحدة الوطنية التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال صياغة عقد إجتماعي جديد حول دساتير ديموقراطية تمثّل إرادة الشعب. الديموقراطية هي المنارة الوحيدة للأمل بالنسبة إلى منطقة تغرق في بالوعة التطرف والإستبداد.
حتى الآن، مع ذلك، فإن النخب الحاكمة في أنحاء المنطقة لا تعرف سوى كيفية الرد بالقوة، بمساعدة من الوقود الاقتصادي الذي تقدمه دول الخليج الغنية. ويعتقد الكثيرون أن المستقبل يكمن في صفقة إقليمية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران ولكن ليس من الواضح لأحد إذا كانت الديموقراطية هي القضية الأساس في هذه الصفقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى