لا تقل وداعاً … بل إلى اللقاء

بقلم إيلي صليبي*
إفترض أنك تموت بعد ساعة …
فأي شعور يخالجك؟ وماذا عساك تفعل؟ وكيف تمضي الدقائق الأخيرة من عمرك؟
ترتعد فرائصك حتى الإنحلال.
يزحف الصقيع من أخمص قدميك صعوداً حتى سقف رأسك.
تصطكّ أسنانك من هلع، ويرتجف بدنك من جزع.
تحاول إستئخار أجلك بثرثرات وهلوسات في نخاغك الشوكي.
أما لسانك فيبدأ بالانسحاب تراجعاً إلى نفق بلعومك.
وتتمتم شفتاك ما يشبه الصلاة المبعثرة الكلمات.
وتملأ منخاريك رائحة عفنك المٌنتظر، وتقف فوق أرنبتهما حمامة بيضاء هاربة من صقر.
أما خداك فيتكوّران إلى داخل طقم أضراسك إلتصاقاً وتراصفاً.
تتنبه أذناك إلى طبلتين تقرعان نشيد الموت، وإلى بعيد الأصوات المستحبة المختلطة بمكروهها.
تبحث يداك عن مجذافين ضائعين في فضاء تحسبه محيطاً يبتلع قاربك.
وتجحظ عيناك تبحثان بحركة رقاص ساعة، ذات اليمين عن طبيب وذات اليسار عن كاهن.
وتعزف أصابعك على أصابعك، وعلى وقع دبيب نمل فيهما، لحناً جنائزياً لطالما تمنيته لسواك.
وتتلقّف رئتاك الأنفاس وتلفظها بسرعة قياسية، وتبلغك منها شكوى الإختناق.
وتخور أمعاؤك من جوع وتخمة معاً، وتنقبض وتنفتح كأنها ستارة تلعب بها ريح خريفية.
أما رجلاك فمصابتان بعطل طارئ، وكأنهما محركا طائرة هبطت قسرياً في صحراء.
الموت يدنو .. وأنت تحتضر.
صرت على مشارف عالمٍ آخر.
عالقٌ أنت بين ما يشدّ بك الى الهاوية وبين ما تحسبه يمدّ لك حبلاً لتسلّق جبل بيد من خشب. ونقطة أنت في نهاية سطر يختم به الكاتب قصته.
هنا تنتصف ساعتك الأخيرة قبل الموت …
فيا من كنت قبل ساعة … تضيق بك الدنيا، ولا تتسع لأحلامك وأوهامك الأرض والسماء وما بينهما، ها أنت تواجه المحتوم وتصارع المجهول.
ويا من ملأت سلالك ماء …
وحفرت قبوراً لسواك، وتجاهلت المسكن الأبدي لجسدك …
ها أنت تُحمل بعد دقائق الى مثواك جثة باردة، كدمك البارد أيام عزّك، و”مرحوماً” لم يرحم .. فماذا تأخذ معك الى التراب غير ترابك؟
تطلب المغفرة، وما غفرت …
تسأل التأجيل، وما أجّلت بل إستعجلت ..
تستجدي نفساً أخيراً، وقد كتمت ما كتمت من الأنفاس والأنفس ..
تمرّ صورك في خاطرة محتضرة، من طفولتك الى شبابك وعزّ مجدك الزائف الى لحظة “الحق المكروه”، وتتمنى لو تعدل في مسار سيرتك علّك تستفيد من الآخرة ما إستفدت وإستنفدت من الأولى.
دقيقة واحدة قبل الموت .. تساوي عمراً، وتعادل دهراً.
عِشها بثوانيها، متأسفاً على كل لحظة كنت فيها ملء الحياة، وبدّدتها على بيادر الموت.
ماذا زرعت على الصخر؟
ماذا جنيت لنفسك وعليها؟
لطالما تساءلت عن الوجود وتمرّدت على صفات واجده ..
ولطالما فكّرت في ما بعد الحياة، ولم تتحسّب له، معتبراً أن كل مكروه يلحق بغيرك وينحرف عنك.
ولطالما مشيت في الجنائز، وقدّمت التعزية في المجالس، وأدرت ظهرك لمحاسن موتاك، وإستخفّيت بالقدر وغدر الزمان.
فما حيلتك الآن يا ابن آدم لتبعد منك الكأس المر؟
سر إلى الراحة الأبدية غير مرتاح وبلا مواكب حماية، وأوصِ من سيبكيك أن يبكي نفسه فوق جثمانك، وينتظر في الصف الطويل دوره ليقدّم أوراق إعتماده لملك الحياة والموت.
لا تقل وداعاً ..
بل قل إلى اللقاء.
• كاتب وأديب وصحافي لبناني، والمدير العام السابق للأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال (أل بي سي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى