موت الشاعر!

بقلم جوزف قرداحي

ما أتعس الشاعر حين يصبح خبراً في جريدة، وعنواناً عابراً في نشرة أخبار، ومرثية زجلية يتبارى عليها زجالو الفايسبوك والمواقع الإلكترونية والصفحات الثقافية. ¬ما أتعسه، وهو كان حتى الأمس القريب، مَنهلاً لكل مسرح وتلفزيون وإذاعة وجريدة، ووحياً لكل موسيقي أو ملحّن، ومصدر شهرة لكل مطرب أو مغنٍّ، ومادة دسمة لكل مسرح وتلفزيون وإذاعة.
بالأمس غاب الشاعر والأديب الساخر جورج جرداق، فتكرَّم تابوته الخشبي بأوسمة الدولة التي غاب عن بالها أنه كان حيّاً يُرزق يعاني في العشرين سنة الأخيرة الجحود والإهمال والفقر والعوز، ويعيش على أمجاد شعرٍ وأدبٍ وموسوعات أغنت المكتبات الأدبية، ولم تدخّر له مُونة العمر الباقي، أو ما يفي ثمن شراء أدوية وطبابة.
هل هو قدر الشعراء وأهل الكلمة أن يعيشوا في حرمان ودون خط الفقر؟! لا ليس هذا قدرهم، ولكنه بالتأكيد قدر شعراء العرب ومفكريهم وأدبائهم. أما قدر شعراء الغرب وأدبائهم ولو تبلّل بالدموع أحياناً وبالحزن والوجع أحياناً أخرى، إلا أنه قدر ولو بدأ تعيساً حزيناً، إلا أنه سرعان ما يبتسم لهم في خضم معاركهم الأدبية، ويقلب أيامهم السوداء ليالي بيضاء مملوءة بالعسل مع أول نتاج لهم سواء كان نتاجاً في سوق الكتب والنشر أو في سوق الشعر الغنائي والملحمي. فمجد الكلمة في الغرب لا ينفصل عن مجد الموسيقى، وحقوق الشاعر ومردوده من نجاح أغنية هي تماماً مثل حقوق ومردود الملحّن والمغني. ذلك أنه من المعيب أن يصعد نجم أحد المغنين وتمتلىء خزنته وينتشر إسمه وتصبح أغانيه على كل شفة ولسان ضاربة الرقم القياسي في المبيعات، من دون أن ينسحب ذلك أيضاً على مؤلف الأغنية وناظم كلماتها، لتمتلىء خزنته وإن لم تذهب شهرته آفاق شهرة المغني، الذي عادة ما يتكّىء على “كاريزماتيته” وحضوره إلى جانب صوته وقيمة أغانية الفنية.
إذا عقدنا مقارنة ما بين شاعر من طراز جرداق أو نزار قباني أو أحمد فؤاد نجم مع فارق أسلوب ونهج كل من الشعراء الثلاثة، مع أيٍّ من شعراء الغرب أو أدبائه المعاصرين، لإكتشفنا أنه لو أن أي أغنية غربية عرفت الرواج والإنتشار الذي عرفته قصيدة من طراز “هذه ليلتي” أو “قارئة الفنجان” أو “رسالة من تحت الماء”، ما زالت تُعزف وتُغنّى منذ ولادتها في مخيّلة الشاعر حتى اليوم، وتنتقل من جيل إلى جيل ومن حنجرة مطرب إلى حنجرة مطرب آخر منذ أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، إلى جورج وسوف وكاظم الساهر وصولاً الى نانسي عجرم ونوال الزغبي وإليسا، لو فقط ثمة أغنية غربية عرفت ما عرفته “هذه ليلتي” من إنتشار وشهرة ونجاح، لنام ناظمها على ثروة طائلة أمّنت له ولعائلته ولورثته الكفاية المادية والطمأنينة والإزدهار حتى مئة جيل آتٍ من بعده.
من سخرية القدر، أن يموت جورج جرداق فقيراً، وهو من قام بتأليف موسوعة من ستة مجلدات عن الإمام علي بن أبي طالب، تجاوز رقم مبيعاتها الخمسة ملايين نسخة، في وقت لم يحصل على أي مردود مادي من تلك الموسوعة التى توالت على إصدارها ثلاث دور نشر، وتمت ترجمتها إلى الفارسية والأوردية والإسبانية والفرنسية. لا بل إضطر إلى شراء نسخة منها من جيبه الخاص حين إحتاج أن يحتفظ بالطبعة الجديدة في مكتبته.
قبل جرداق، مات نزار قباني تاركاً قصائد صنعت نجوماً أضحوا من أصحاب الملايين، في وقت نجد فيه أن ورثته يعانون الأمرّين من أجل تحصيل بعض عائدات وحقوق كتبه وأعماله التي تجاوزت المئة كتاب ما بين دواوين شعرية ومسرحية وقصائد سياسية، ومجموعة مقالات كان قد كتبها في سنواته الأخيرة التي كان قد عاشها في مدينة الضباب لندن.
إنه قدر الشاعر في بلاد العرب، أن يحيا على قصائده مطربون يطاولون المجد ويجنون الثروات، فيما هو يجني الخيبات والجحود وقلة الوفاء.
ما أتعس الصحافي والأديب والشاعر في بلاد العرب، ينتهي مقطوعاً من شجرة، ومقطوعاً من المعاش، ومقطوعاً من كل أبواب الرزق ومن السعادة… وحده تابوت الشاعر يُكرّم بالأوسمة… وحده الشاعر يبكي ويتألم ويرحل وحيداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى