“تُخمة” في أسواق الغاز الطبيعي تفوح في الأفق تهدّد الأسعار ومشاريع ضخمة عالمية

تتسابق دول كثيرة في جميع أنحاء العالم من أوستراليا وكندا إلى أميركا وتنزانيا … على البدء بتصدير الغاز الطبيعي المسال. ولكن من الذي سيشتري كل هذه الكميات؟

لندن – هاني مكارم

مشاريع أميركا الغازية: ما هو مصيرها؟
مشاريع أميركا الغازية: ما هو مصيرها؟

تتدافع شركات عدة في جميع أنحاء العالم على إنفاق المليارات من الدولارات بهدف البدء بتصدير كميات أكبر من أي وقت مضى من الغاز الطبيعي مع آمال بتغذية وتلبية الشهية النهمة على ما يبدو لحرق الوقود النظيف. لكن هناك مشكلة واحدة مهمة، والتي قد تؤثر في الجميع من “نيو أورليانز” في أميركا إلى “نيو ساوث ويلز” في أوستراليا: قد يكون لدى العالم حالياً أكثر مما يحتاج إليه من إمدادات الغاز.
الواقع أن هناك الكثير من القدرة التصديرية للغاز الطبيعي قد دخل فعلياً على الخط – وهناك أكثر بكثير سيأتي قريباً – الأمر الذي يهدد بإغراق الأسواق بأكثر من حاجتها. ركبت قطر وأوستراليا والولايات المتحدة وكندا على متن “عربة” الغاز الطبيعي المسال أو قفزت إليها، ولكن من غير الواضح تماماُ من هو الذي سوف يشتري كل هذه الكميات الضخمة التي تنتجها هذه البلدان وغيرها وبأي ثمن. وهذا ما دفع بشركات مثل “إيكسون” و”وودسايد بتروليوم” في أوستراليا إلى إعادة النظر في خططهما الطموحة بتصدير الغاز ودول مثل موزامبيق وكندا إلى العمل لصياغة حوافز لطمأنة المستثمرين المتردّدين والخجولين بشكل متزايد للإستثمار في قطاع الغاز الطبيعي.
“إن كمية العرض التي لدينا فعلياً على خط التصدير في السنوات الخمس المقبلة يتجاوز الإفتراضات المعقولة بالنسبة إلى النمو في الطلب”، قال جيسون بوردوف، مدير مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا.
الخوف من تخمة في أسواق الغاز، الذي حدث فقط بعدما بدأ العالم يندفع جاهداً للإستفادة مما دعته وكالة الطاقة الدولية “العصر الذهبي للغاز”، يؤكد على الطبيعة الدورية للأعمال التي تعتمد على إستثمارات ضخمة مُقدَّماَ وفترات زمنية طويلة. وهذا يولِّد مخاطر لدورة إزدهار وكساد حيث تندفع الشركات لتلبية الطلب المتوقَّع، ثم يدبّ الذعر بعدما يفعل الجميع الشيء عينه. وقد أعلن “غولدمان ساكس” في وقت سابق من الشهر الفائت، أن زيادة المعروض قد وضعت عدداً من مشاريع الغاز الطبيعي المسال الضخمة المخطط لها حالياً في خطر.
“الغاز هو وقود أحفوري إكتئابي” قال جيمس جنسن، رئيس المؤسسة الإستشارية للغاز الطبيعي “جنسن وشركاه”. “عندما تسوء الأمور، فإنها لا يمكن أن تكون أسوأ، وعندما تسير على ما يرام، فإنها لا يمكن أن تكون أفضل”، أضاف معلّقاً.
وقال جنسن بأن هذا يؤدي إلى فائض في العرض والطلب لأن “الوضع سوف يصل إلى حالة حيث تكون فيها السوق ضعيفة، والجميع يخاف أن يُقدِم على الإستثمار في مشاريع سوف تنتهي في أربع أو خمس سنوات، وبعد ذلك تصبح السوق قوية ويندفع الجميع إلى الإستثمار في المزيد من المشاريع”.
وهذا يبدو أنه ما يحدث الآن. لدى العالم فعلياً حالياً قدرة كبيرة على تداول الغاز الطبيعي المسال الذي يحتاج إليه: كان هناك حوالي 286 مليون طن سنوياً من الغاز الطبيعي المسال من القدرة التصديرية على مستوى العالم في العام 2013، في حين بلغت تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية 237 مليون طن فقط.
هذا في جزء منه يشكّل إنعكاساً لتوسع الإنتاج بشكل كبير في قطر، المصدّر الرائد في العالم في مجال الغاز الطبيعي المسال. بين عامي 2008 و2011، بنت الدوحة سلسلة من المشاريع الجديدة حبث صار لديها 77 مليون طن سنوياً من القدرة التصديرية للغاز الطبيعي المسال.
الآن، تتدافع بلدان أخرى منتجة للغاز لإضافة كميات أكثر من ذلك. لدى أوستراليا ثلاثة مشاريع كبيرة للغاز الطبيعي المسال عاملة وسبعة أخرى من شأنها أن تأتي على الخط في السنوات القليلة المقبلة. اذا سارت الامور كما هو مخطط لها، فإن ذلك من شأنه أن يدفع القدرة التصديرية الإجمالية في أوستراليا إلى 83 مليون طن سنوياً بحلول العام 2017، الأمر الذي سيسمح للبلاد بأن تتجاوز قطر كأكبر مصدر للغاز المسال في العالم. كما أن هناك المزيد من مشاريع التصدير التي هي قيد المناقشة هناك حالياً.
في الوقت عينه، تتجه الولايات المتحدة بدورها للإستفادة من طفرة إنتاج الغاز الطبيعي الخاص بها لتتحول من مستورد للغاز إلى مصدر له. وقد وافقت وزارة الطاقة الأميركية بشروط على ثمانية مشاريع تصدير للغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة، تبلغ قدرتها الإجمالية أكثر من 80 مليون طن في السنة؛ ويتوقع المحللون أن يُبنى خمسة على الأقل من تلك المشاريع، مع قدرة تصدير تصل إلى ما يقرب من 70 مليون طن. وتأمل كندا أيضاً شحن الغاز الطبيعي إلى آسيا.
وكأن ذلك ليس كافياً، هناك دول جديدة ستنضم إلى طفرة الطاقة العالمية، بما في ذلك بلدان في شرق أفريقيا وشرق البحر المتوسط، تتطلع أيضاً إلى صادرات الغاز الطبيعي المسال بإعتبارها وسيلة لدعم تنميتها الإقتصادية.
المشكلة تكمن في معرفة حجم الطلب الحقيقي الذي سيكون لكل ذلك الغاز. آسيا، وخصوصاً الصين، من المتوقع أن تكون المحرّك الرئيسي، وهو ما يمثّل الجانب الأعظم من الطلب على الغاز الطبيعي في السنوات المقبلة، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.
ولكن هناك العديد من علامات الإستفهام الكبيرة التي يمكن أن تؤثر جذرياً في تلك التوقعات. لقد إرتفعت واردات اليابان من الغاز الطبيعي المسال منذ العام 2011، عندما أغلقت جميع محطات الطاقة النووية في أعقاب حادث فوكوشيما. إن شراء الكثير من الغاز المُكلِف ليس خياراً على المدى الطويل بالنسبة إلى اليابان – لقد أدّت واردات الوقود بالبلاد إلى الوقوع بأول عجز تجاري تعرفه منذ أكثر من ثلاثة عقود. السؤال لحكومة “شينزو آبي” هو ليس ما إذا كان، ولكن متى ستعود البلاد إلى تشغيل جزء على الأقل من مفاعلاتها النووية، والتي ستحدّ بشدة من الطلب الياباني على الغاز الطبيعي المسال.
علامات الإستفهام الكبيرة الأخرى هي في الصين. من الناحية النظرية، فيما بكين تسعى إلى تنظيف إقتصادها وبيئتها، سوف تحتاج إلى المزيد من الغاز الطبيعي. ولكن ليس من الواضح كم هو حجم الإمدادات الذي تريده – أو ما إذا كانت قد أمّنت بالفعل الكثير مما سوف تحتاج إليه.
لقد وقّعت بكين فعلياً على صفقة ضخمة للغاز الطبيعي مع روسيا تبلغ قيمتها 400 مليار دولار للحصول على كميات كبيرة من الغاز عبر خط أنابيب سيبيريا. ويفيد بعض التقارير بأن البلدين يٌجريان محادثات بشأن صفقة غاز أخرى من شأنها أن تمنح الصين مزيداً من الغاز الروسي، مما يخفّض طلب بكين على الغاز الطبيعي المسال المُكلِف المستورد. وتحاول بلاد ماوتسي تونغ أيضاً، على الرغم من النتائج المخيِّبة للآمال حتى الآن، الإستفادة من إحتياطات الصخر الزيتي الوافرة في أراضيها لزيادة الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي، والتي، في حال نجاحها، ستقلّل حاجة البلاد إلى الغاز الطبيعي المسال حتى أكثر من ذلك.
وتحاول الصين أيضاً إلى إعادة تنظيم إقتصادها لجعله أكثر نظافة وأقل إعتماداً على الصناعات الثقيلة الكثيفة في إستخدام الطاقة. إن تحويل الإقتصاد نحو المزيد من الخدمات سيكبح الحاجة في المستقبل إلى الحصول على الطاقة: مصانع الفولاذ، ومصانع الإسمنت، ومصاهر الألومنيوم تحرق الكثير من الطاقة، في حين أن الخدمات مثل التمويل، والتسوّق، والرعاية الصحية لا تفعل ذلك. ولكن حتى الآن، هناك دلائل محدودة تشير إلى أن الصين تمكّنت من تنفيذ ذلك وإعادة التوازن إلى إقتصادها.
تنظيف الصين – حيث أصبح الضباب الدخاني من تلوث الفحم يشكّل تهديداً صحياً خطيراً ومسؤولية سياسية – من المرجح أن يؤدي إلى زيادة في إستخدام الغاز الطبيعي. ولكن الفحم لا يزال أرخص. وهذا يعني أن الصراع الدائر بين الضرورات البيئية والإقتصادية سوف يشكّل ويحدّد حجم طلب الصين على الغاز في المستقبل.
“الصين غامضة في هذا المجال، لأن الطلب أساساً لديها غير مؤكد جداً”، قال جنسن.
الواقع أن الآثار المحتملة يمكن أن تكون مضطربة ومقلقة بالنسبة إلى مشاريع التصدير في أوستراليا، وكندا، والولايات المتحدة، ناهيك عن القادمين الجدد الموعودين مثل موزامبيق وتنزانيا.
إن تكاليف محطات الغاز الطبيعي المًسّال في أوستراليا، لا سيما في غربها، هي أعلى بكثير من أي مكان آخر، نظراً إلى تضخم تكاليف البناء والمشاريع المعقّدة التي تهدف بشكل كبير للإستفادة من البحر، حيث ودائع الغاز في المياه العميقة موجودة في أماكن صعبة الوصول.
مشروع “إتشذيس” (ICHTHYS) البحري في غرب أوستراليا، على سبيل المثال، يتطلب بناء خط أنابيب تحت البحر بطول 550 ميلاً من حقل الغاز في بحر تيمور إلى منشأة برية للغاز الطبيعي المسال. وقد إرتفعت التكاليف 30 في المئة منذ بداية العمل فيه، من نحو 34 مليار دولار إلى حوالي 44 مليار دولار حتى الآن. ومشروع “غورغون” التي تديره “شيفرون” هو أكثر “كابوسية”، مع تكاليفه التي زادت بنحو 50 في المئة، إلى 54 مليار دولار.
هذا يعني أن “التُخمة” في المعروض التي تلوح في الأفق قد تضرب الجولة التالية المقرَّرة من المشاريع الأوسترالية خصوصاً الصعبة منها. وهذا سيكون أنباء سيئة بالنسبة إلى أوستراليا، يفيد معهد أكسفورد لدراسات الطاقة. إن مشاريع الغاز الطبيعي المسال حالياً تمثِّل ثلث جميع الإستثمارات التجارية في البلاد، وتعوِّل أوستراليا على صادرات الغاز الطبيعي للتعويض عن الركود والتباطؤ في صادرات الفحم والحديد.
“إن التكاليف هناك مذهلة حقاً”، قال بوردوف. “جنباً إلى جنب مع إمكانية زيادة العرض، أعتقد أن الكثير من المشاريع الجديدة في أوستراليا ستواجه تحدياً”، مضيفاً.
الصورة المتغيّرة للعرض وضع أيضاً كندا في مأزق. المسؤولون الحكوميون، الواثقون بأن البلاد ستكون في وضع جيد لتلبية إحتياجات الطاقة الآسيوية، حافظوا على نهج تنظيمي ومالي صعب بالنسبة إلى مشاريع جديدة. وهذا أحبط عزيمة بعض الشركات؛ شركة “بتروناس” الماليزية، على سبيل المثال، حذّرت في وقت سابق من الشهر الفائت بأنها قد تضطر الى وقف العمل في حقل الغاز الطبيعي المسال البالغة تكاليفه 32 مليار دولار في كولومبيا البريطانية.
الآن، يبدو أن الحكومة المحلية تتفاعل. في 21 تشرين الأول (أكتوبر)، خفّفت الحكومة الإقليمية الشروط الضرائبية بهدف جذب هذا النوع من الإستثمار الضخم في الطاقة.
من جهة أخرى، كثيرون من صناع السياسة الأميركيين أيضاً قلقون من أن يؤدي بطء وتيرة موافقة الحكومة على مشاريع الغاز الطبيعي المسال الأميركية إلى المخاطرة بعدم اللحاق بالقطار. السيناتورة ليزا موركوفسكي (عن ولاية ألاسكا)، العضوة البارزة في لجنة الطاقة في مجلس الشيوخ، حذّرت منذ فترة طويلة بأن تلكؤ الحكومة يمكن أن يجعل مشاريع الولايات المتحدة تتأخر عن “حفلة الغاز الطبيعي”. بما أن عليها الإنتظار فترة طويلة للحصول على موافقة الجهات التنظيمية، فإن مشاريع أميركا يجب أن تنتظر بعد ذلك في صفوف بإنتظار التمويل ومن ثم بدء البناء، الأمر الذي سيؤدي إلى تأخير بدء صادرات الغاز إلى الوقت الذي تصبح السوق أكثر إزدحاماً.
وفي الوقت الذي ينبغي لإنخفاض تكلفة محطات وتصدير الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة أن تعطي البلاد دفعاً في المنافسة مع سيل من الموردين الجدد الآخرين، فإن التوقعات القاتمة والمتشائمة تعني أنه لا يزال هناك الكثير من المخاطر التي تواجه المشاريع التي تنتظر قراراً بشأن إستثمارات بمليارات الدولارات. إن “نافذة الغاز الطبيعي المسال الأميركي محدودة”، خلص بنك “غولدمان ساكس”، وفقاً ل”بلومبيرغ”.
مع ذلك، ليس كل شيء قاتماً ومتشائماً. هناك إتجاه صعودي محتمل كبير لسوق الغاز الطبيعي: أوروبا.
لدى القارة القديمة الكثير من القدرة على إستيراد الغاز الطبيعي المسال للإستخدام. رخيص نسبياً، فإن الغاز الواصل عبر الأنابيب من روسيا منذ فترة طويلة كان أكثر جاذبية. لكن موسكو قد تهدّد أوكرانيا، وبقية أوروبا، مع إنقطاع في واردات الطاقة على مدار السنة.
على عكس الحالات السابقة حيث قطعت روسيا الإمدادات، يبدو أن أوروبا مصابة بالفزع حقاً هذه المرة، وتحاول إيجاد بدائل من إمدادات الطاقة الروسية المتقلّبة. لقد إستنتجت المفوضية الأوروبية أخيراً أن الغاز الطبيعي المسال المتوافر حول العالم حالياً سيكون أفضل طريقة لأوروبا للتعامل مع أي نقص إمدادات مفاجئ هذا الشتاء. في المستقبل، إن الاستفادة من إمدادات الغاز الطبيعي المسال الأكثر وفرة، إذا كان الثمن مقبولاً قد يكون البديل في أوروبا من إبتزاز الطاقة الروسية.
“إذا كانت هناك عدوانية في محاولة تقليل إعتماد أوروبا على روسيا، فإن هذا سيكون له تأثير قوي في أسواق الغاز الطبيعي المسال”، قال جنسن.
يبقى القول بأن أسعار الغاز الطبيعي المسال في العالم سوق تتهاوى ولو إلى حين، ولكن هل سيستفيد من ذلك المستهلكون؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى