هل ينعطف اليمن إلى هلال النفوذ الشيعي؟

السقوط المفاجئ لصنعاء في أيدي الحوثيين الشيعة المتمرّدين في أيلول (سبتمبر) قد غيّر ميزان القوى في اليمن، وحوّل التوازن السياسي الذي نشأ بعد الإنتفاضة التي بدأت في العام 2011، ويهدّد مستقبل البلاد.

صنعاء – وليد المصروعي

الرئيس السابق علي عبدالله صالح: ساهم في دعم الحوثيين سراً؟
الرئيس السابق علي عبدالله صالح: ساهم في دعم الحوثيين سراً؟

عندما بدأت المرحلة الرابعة للصراع الدموي في صعدة في العام 2007، مع مواجهة الرئيس اليمني آنذاك علي عبد الله صالح أفراد الأقلية الشيعية الزيدية، فإن القليل قد توقّع أن يمضي زعيم المتمرّدين عبد الملك الحوثي قُدماً ليصبح القوة الرائدة في السياسة اليمنية الحالية. آنذاك، كان ببساطة الرئيس الجديد لحركة الحوثيين المسلّحة، التي تحمل إسم عائلته، وكانت آنذاك ناشطة في منطقة صعدة شمال غرب اليمن. وقد ولد الحوثي في أوائل ثمانينات القرن الفائت، وخلف شقيقه الأكبر (الذي قتل في العام 2004) ووالدهما المريض.
التأكيد الحوثي على الهوية الزيدية لم يكن ذا أهمية في بلد حيث لم ترَ المعارضة الشيعية الزيدية (حوالي ثلث السكان) والغالبية السنية الشافعية أن ذلك أساسي. من خلال تقارب تدريجي للإنتماءات الدينية، تخلّت غالبية النخب اليمنية (بما في ذلك الرئيس صالح) ونسبة كبيرة من السكان -على الرغم من أصولهم الزيدية– عن هذا الإنتماء لصالح هوية إسلامية أكثر عالمية.
منذ العام 2004 وضع الحوثيون أنفسهم أكثر من أي وقت مضى صراحة في سياق رمزي شيعي. أقاموا علاقات وثيقة مع إيران و”حزب الله”، ودعموا نظام الأسد في سوريا، وردّدوا شعارات معادية للولايات المتحدة ومعادية لإسرائيل تذكّر بطهران في العام 1979. كما طالبوا أيضاً بإقامة مهرجانات وممارسة عادات وتقاليد شيعية مثل “عاشوراء”.
بعد الإنتفاضة السلمية في اليمن في العام 2011، بدا أن رحيل صالح قد ترك الملعب لجماعة المعارضة الرئيسية، “حزب التجمع اليمني للإصلاح”، وهو تحالف بين “الإخوان المسلمين” والنخب القبلية المحافظة. وفي ذروة الإنتفاضة، منح الدعم البشري واللوجستي والخبرة لهذا التحالف بلا شك الحركة الثورية الجمهور الحرج الذي تحتاجه.
إن حكومة الوحدة الوطنية التي تشكّلت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 لكي تُشرف على العملية الإنتقالية السياسية بعد إستقالة الرئيس صالح ضمّت بين أعضائها العديد من أعضاء “حزب التجمع اليمني للإصلاح”. وبدأت بعدها شرائح جهاز الأمن تدريجاً تقع تحت سيطرة أعضاء من هذا الحزب، كما ظهر قادته كحلفاء رئيسيين للرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي، حيث أداروا جنباً إلى جنب العملية الإنتقالية، بينما في الوقت عينه نشروا إدعاءات عن شرعية ثورية. بعد ذلك، عندما بدا أن تقدّم حزب التجمع اليمني للإصلاح وسيطرته على السلطة أكثر من محتملة، وقعت سلسلة من الإنتكاسات التي تعرّض لها “الإخوان المسلمون” على نطاق واسع في المنطقة العربية وأجهضت كل الأحلام. وقد فُسِّر إستيلاء الحوثيين على صنعاء من فبل أعدائهم في “حزب التجمع اليمني للإصلاح” بسرعة في ضوء هذه الإنتكاسات ومن تداعياتها.

المحافظة على عدم البروز

بعدما تعلموا الدرس من إطاحة الجيش الرئيس المصري الإسلامي محمد مرسي في تموز (يوليو) 2013، بالكاد بعد عام على إنتخابه، قرّر قادة حزب التجمع اليمني للإصلاح أن يكونوا حذرين والبقاء بعيداً من خط المواجهة وتجنّب إعطاء الإنطباع بأنهم سيطروا على العملية الثورية. لكن حلفاءهم القبليين والعسكريين، الذين قد لعبوا تاريخياً دوراً حاسماً في إندماجهم في المجتمع اليمني، ساهموا في سقوطهم. على جماعة “الإخوان المسلمين” في اليمن الآن إعادة النظر في طموحاتها وتنظيمها.
كان الهدف الرئيسي لهجوم الحوثيين على صنعاء اللواء الركن علي محسن صالح الأحمر، الذي كان سابقاً من أقرب المقرّبين من صالح، وقد قاد الفرقة المدرعة الأولى في الحرب السابقة ضد الحوثيين. وقد ساهم إنشقاقه في آذار (مارس) 2011 الى سقوط صالح. الواقع إن السيطرة على قاعدة محسن وهروبه إلى السعودية في 21 أيلول (سبتمبر) من هذا العام تدل على رغبة الحوثيين في الإنتقام. وقد لوحظ أيضاً على نطاق واسع أن الرئيس السابق صالح قد يكون دعم المتمرّدين بهدوء من طريق إعطاء تعليمات إلى الموالين له في الجيش بعدم القتال. على الرغم من انه قال القليل في اليوم الذي سقطت فيه صنعاء، فقد نشر صورة له مبتسماً على صفحته الخاصة على “الفايسبوك”.
من جهة أخرى، إن الأبناء العشرة للراحل عبد الله الأحمر، الزعيم القبلي الكبير الذي أسّس حزب التجمع اليمني للإصلاح، واجهوا أيضاً ضغوطاً من الحوثيين المتمركزين في العاصمة. في حربها ضد التمرد الحوثي، فقد فقدت عشيرة آل الأحمر تدريجاً دعم القبائل في المنطقة الواقعة شمال العاصمة، وهذا دليل على إعادة تشكيل كبرى في المشهد القبلي. السادة الجدد في صنعاء أغلقوا بسرعة جامعة الإيمان الدينية، التي كان رئيسها عبد المجيد الزنداني، وهو شخصية مثيرة للجدل في حزب التجمع اليمني للإصلاح وشريك سابق لأسامة بن لادن. كما خرّب الحوثيون منزلَي توكّل كرمان، المرأة اليمنية الشابة التي أصبحت ناشطة ليبرالية في الحزب الإسلامي، والفائزة بجائزة نوبل للسلام في العام 2011، ومحمد قحطان، وهو زعيم في حزب التجمع للإصلاح لعب دوراً رئيسياً في التقارب مع الإشتراكيين وبعض الأحزاب الزيدية في أوائل العقد الفائت. وقد أعطت هذه الإجراءات لحملة الحوثيين إنطباعاً بأنهم يقومون بممارسة عقابية ضد الإخوان، الأمر الذي هدّد بتأجيج التوترات الطائفية بين أنصار عودة الزيديين الشيعة والإسلاميين السنة.
وأكد الحوثيون والمتحدث بإسمهم علي البخيتي، جانباً شاملاً أكثر لهجومهم: حماية ثورة 2011 . والواقع أن الإعلان في شهر تموز (يوليو) عن نهاية الدعم الحكومي لمنتجات النفط هو الذي أثارهم ودفعهم إلى مهاجمة صنعاء: إحتجّ الحوثيون على تضاعف أسعار الوقود وإنخفاض القوة الشرائية، وطالبوا بإقالة الحكومة التي تُعتبر فاسدة. كما طالبوا بتنفيذ التوصيات التي نتجت من مؤتمر الحوار الوطني – التي لم يدعموها عندما أُعلنت في كانون الثاني (يناير) – التي تطالب بمكافحة الفساد، والمشاركة الديموقراطية الشعبية، وتقاسم السلطة.
وقد أدّت هذه المطالب إلى فوز الحوثيين بالدعم الإجتماعي والسياسي الذي تجاوز المجتمع الزيدي، وهذا ما يفسّر ضعف المقاومة ضد تقدمهم نحو صنعاء حيث، بسبب الهجرة الداخلية، أن نسبة كبيرة من سكانها ليسوا من أصول زيدية. إن عدم التدخل من أنصار الرئيس السابق، والسلبية النسبية لمؤيدي الرئيس هادي، وعدم تدخل المجتمع الدولي، هي دليل على العداء ل”الإخوان المسلمين” كما رغبة في التوافق وتجنب التشرذم الوطني وتصاعد العنف. في هذا الصدد، فإن إشراك الأمم المتحدة وممثلها الخاص المغربي جمال بنعمر، كان بالغ الأهمية لتوقيع إتفاق بين الحوثيين والسلطات اليمنية في 21 أيلول (سبتمبر).

درجة من التطبيع

بعد فشل المرشح الأول أحمد بن مبارك، فإن التعيين الشاق لخالد محفوظ بحاح لتشكيل حكومة تكنوقراط ستسمح للحوثيين بالإندماج السياسي المتكامل وإعادة تأسيس نوع من الحياة الطبيعية. على الرغم من أن ميليشياتهم المسلحة لا تزال تحتل المباني العامة، فإنها لم تعد تمثل تمرداً من الهوامش الإجتماعية والجغرافية، ولكنها أضحت عنصراً مركزياً في السلطة.
من أجل تجاوز حقيقة البعد الطائفي، ينبغي على الحوثيين إثبات أنفسهم. وهذا يشكّل مهمة رئيسية، إذ أن التوترات مع القوى السنية المتشددة تبدو قوية بشكل خاص. بعد بضعة أيام على سقوط صنعاء، أطلق متطرفون من تنظيم “القاعدة في شبه الجزيرة العربية” تهديدات، ومن ثم نفّذوها. فقد قام جهادي بتفجير نفسه في وسط صنعاء في 9 تشرين الأول (أكتوبر)، مما أسفر عن مقتل 47 شخصاً، وهجوم ثان في جنوب البلاد قتل خلاله 20 آخرين. في الوقت عينه، كان الشيخ يحيى الحجوري، المدير السابق للمعهد السلفي في دماج (شمال غرب اليمن)، ينظّم مؤتمرات في عدن وتعز – حصرياً في المناطق السنية – داعياً إلى التعبئة ضد الشيعة، حيث أشار إليهم ووصفهم ب “الروافض” و”الكفّار”.
إن تحليل الدوافع السياسية والإجتماعية والإستراتيجية لسكان صنعاء لدعمهم الحوثيين يسمح بتفسير أكثر دقة من الطائفية البسيطة. ولكن مثل هذا التحليل، فيما هو قيِّم، لا يُبطل تماماً المنطق الطائفي للصراعات. وهذا تبيّن أيضاً أنه من الإرث المباشر لنظام صالح، والذي، منذ إندلاع الصراع في صعدة في العام 2004، أجبر بإستمرار الحوثيين على العودة الى جذورهم الزيدية وصلاتهم (التي كانت وهمية في البداية) مع إيران، بينما في الوقت عينه كان يعمل على الإستفادة من الإسلاميين السنة.
من ناحية أخرى، إن القوة الإقليمية، المملكة العربية السعودية، التي ترك تدخّلها بصماته على تاريخ اليمن، تلعب دوراً أكثر تعقيداً مما قد يبدو. يرى التفسير السائد في العالم العربي في أن السعودية تتبع سياسة “إنتظر وترقّب” بالنسبة إلى العدوان الحوثي نتيجة عدائها ل”الإخوان المسلمين” والتقارب الإستراتيجي مع إيران. الواقع إن هذا التفسير غير كامل. إن تجريم جماعة “الإخوان المسلمين”، التي صنّفها النظام السعودي كمنظمة إرهابية، تنبع في الحقيقة من سياسة المملكة العربية السعودية المحلية، والتنافس مع قطر، ودعمها لنظام عبد الفتاح السيسي في مصر. لكن ديبلوماسيين سعوديين صرحوا مراراً بأن هذه السياسة لا تنطبق على جماعة “الإخوان المسلمين” في اليمن.
بدلا من التلاعب السعودي – مثل إقامة تحالف خلفي مع الحوثيين ضد الإخوان (الذي من شأنه أن يذهب كثيراً ضد التيار) – فإن موقف الرياض المتمثل ب”دعه يعمل” وعدم التدخل قد يأتي في الواقع من الضعف الهيكلي. تتميز الديبلوماسية السعودية في اليمن بعدم القدرة على التصرف أو صياغة السياسات والأهداف. عدم القدرة هذه ليست وقفاً فقط على السعوديين: الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، واللذان مع دول الخليج، يدعمان التحول السياسي والرئيس هادي، هما أيضاً توقفت مساراتهما من خلال عمق الأزمات التي يعاني منها اليمن. لم تستطع هذه الدول جميعها إيجاد إطار سياسي واضح بين الإستخدام المكثف للطائرات من دون طيار ضد “القاعدة في جزيرة العرب”، ودعم الدولة المركزية، وفرض قيود على الهجرة.
الحقيقة هي أن أزمة وكلاء السعودية التقليديين في اليمن (وخصوصاً عشيرة آل الأحمر)، وتنامي قوة “القاعدة في جزيرة العرب” والحركة الإنفصالية في الجنوب، قد قلصت إلى حد كبير قدرة الرياض على قراءة الوضع وإتخاذ إجراءات فعّالة. وعلاوة على ذلك، إن مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين شاركوا في الديبلوماسية السعودية – من وزراء وأمراء وشخصيات دينية، وهيئات شبه حكومية – غالباً ما كانوا يتنافسون مع بعضهم البعض ويعرقلون السياسات المتخذة. مثل هذا التنوع يجعل إحتمال التقارب مع إيران أكثر أو أقل وهمية، لأن مختلف الأطراف الفاعلة في الديبلوماسية السعودية راكمت منذ سنوات فكرة وجود تهديد شيعي ووصمته بمصطلحات دينية وإستراتيجية على حدّ سواء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى