يمكن للبنان أن يكون نموذجاً للمشرق العربي

بيروت – رئيف عمرو

هناك “كليشيه” عن لبنان تقول بأن قوته تكمن في ضعفه. بالنسبة إلى اللبنانيين الذين يعيشون بإستمرار في بلد غير مستقر، يبدو مثل هذا البيان باطلاً. ومع ذلك، فإنه يحدث أيضاً أن يكون صحيحاً.
لفترة طويلة، بدا لكثير من الناس في العالم العربي أن ضعف لبنان يكمن في نظامه السياسي الطائفي. إن الطائفية التي تضمن مجتمعاً منقسماً، قد قوّضت فكرة وجود دولة موحّدة، وتركت البلاد تحت رحمة السياسيين الطائفيين. وهذا، تتابع الحجِّة، كان قديماً ورجعياً، لذلك بدا من الطبيعي في العام 1975 أن لبنان يجب أن يدخل في حرب أهلية.
في الواقع، إنّ ما لم يره النقاد أبداً هو أن لبنان قد خرج من حربه بلداً واحداً – وليس إثنين أو ثلاثة أو أربعة. ويرجع ذلك جزئياً إلى حقيقة أن سوريا فرضت هيمنتها في أثناء الصراع، ومنعت بالتالي تفكّكه. ولكن كان هناك أكثر من ذلك: كانت لدى البلاد ردود فعل لإدارة الخلافات الطائفية ومأسسة التعددية. لذا عندما إنهارت الدولة، كانت هناك آليات لمتابعة المصالحة.
ما رأيناه في العالم العربي – وخصوصاً في سوريا والعراق، وهما البلدان ذات “الماكياج” الطائفي المماثل للبنان – هو شيء مختلف. في ظل أنظمة حافظ الأسد، وبعده نجله بشار، وصدام حسين، دُفنت الطائفية تحت القشرة القومية العربية لحزب البعث.
لذلك كانت الميثولوجيا القومية هي السائدة حيث أن قلة من الناس في أي بلد كانت تجرؤ على مناقشة الطائفية. قبل سنوات عدة، سافرتُ إلى دمشق لمقابلة بعض الناس للحصول على تقرير كنت أكتبه عن العلاقات اللبنانية – السورية. وكان جميع من تحاورتُ معهم حريصين على الإبتعاد من أي نقاش طائفي في سوريا، مكتفين بالقول أن هذا كان لعنة لبنان.
الأنظمة القومية العربية المزعومة في سوريا والعراق، مع ذلك، كانت تهيمن عليها الأقليات – العلويون في سوريا والسنّة في العراق – التي حكمت بواسطة أجهزة قمعية.
الترحيل القسري للنظام القديم في العراق وسوريا، سواء من طريق التدخل العسكري الأجنبي أو الثورة الداخلية، قوّضت أدوات القمع. مع ذلك، لم تكن هناك مؤسسات رسمية أو غير رسمية لملء الفراغ وتساعد على تنظيم العلاقات الطائفية أو العرقية بعد ذلك. هذا هو السبب أن التفكك في كلا البلدين كان سريعاً وواسعاً جداً وكارثياً.
الواقع أن لبنان هو أبعد ما يكون قد خرج من “الغابة”، فيما الإنتفاضات الطائفية تدمّر وتجرف الشرق الأوسط. ومع ذلك، لصالحها، فإن لدى البلاد مؤسسات للتخفيف من حدة التوترات الطائفية. وهذا قد لا يكون كافياً لإحتواء إرتفاع العداء بين السنّة والشيعة في البلاد، ولكن يمكن لهذه المؤسسات تأخير الأسوأ، مما يسمح بإيجاد الحلول لنزع فتيل الأزمات.
إن من يدفع ثمناً باهظاً اليوم هم الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة. إن الطوائف المسيحية في سوريا والعراق ليس من المرجح أن تعيد بناء أنفسها مرة أخرى. النظام الذي يهيمن عليه العلويون في سوريا في طريقه إلى الإنهيار. وبمجرد أن يحدث ذلك فإن العلويين، أيضاً، سوف يختفون ببطء من سوريا، خصوصاً بعد الجرائم التي إرتكبوها هناك.
من جهتهم فإن الشيعة سوف يصمدون، حتى لو أنهم خسروا، ولكن بأي ثمن من حيث الموت والدمار؟ في العراق، إن الإعتماد على تضامن الشيعة، كما نصح الإيرانيون، سوف لن يفعل إلّا زيادة الطين بلّة. إن المطلوب هو عقد إجتماعي جديد مع السنّة للتوصل الى حل وسط بشأن تقاسم السلطة يحترمه الجميع.
أظهر اللبنانيون تبصّراً في تبني نظام سياسي على أسس طائفية منذ الإستقلال. وكانت فرنسا، الدولة المنتدبة في لبنان بعد الحرب العالمية الأولى، هي التي ساعدتهم على القيام بذلك. فقد بنوا على مؤسسات وتقاليد طائفية كانت سائدة بالفعل في وقت الحكم العثماني، والتي كان قد دفعها جزئياً العثمانيون وجزئياً القوى الأوروبية.
مع ذلك، فإن الأنظمة السياسية الطائفية تميل إلى فرض آليات متقنة التي، إذا أُهملت، تتفاقم العلاقات الطائفية. السبب في ذلك هو أن التفاعلات بين الطوائف تميل إلى الإحتكاك ضد الحساسيات الوجودية. عندما لا تعترف طائفة واحدة بالقواعد، فإن الطوائف الأخرى تشعر بسرعة جداً بأن هذا الأمر قد يشكّل خطراً محتملاً على وجودها.
في لبنان، تجاهل “حزب الله” بشكل منهجي قواعد التسوية الطائفية في العقد الفائت. إن هجمات الحزب ضد الطائفة السنية والشخصيات السياسية السنية في السنوات بين 2005 و2008، إلى جانب إنضمامه الى الحرب الأهلية السورية لصالح نظام الأسد وإيران، أغضب كثيراً السنّة في لبنان، الأمر الذي أقنع البعض منهم لحمل السلاح.
اليوم، يجب على “حزب الله” أن يعتمد قواعد تسوية طائفية بسرعة، لأن التوتر مع السنّة في البلاد وصل إلى مستويات مقلقة. وعلى العموم إن أهل السنة في لبنان هم معتدلون، ولكن الواقع هو أنه في أوقات النزاع، فإن المتطرفين هم الذين يكسبون ويقضون على النهج البديل.
لو لم يكن في لبنان مؤسسات قائمة للحدّ من التوتر – تفضيل حكومات وحدة وطنية، وتوزيع المناصب الثلاثة في الدولة بين أعضاء الطوائف الرئيسية الثلاث، السنة والشيعة والمسيحيين الموارنة، وكذلك الميل إلى إتخاذ القرارات الوطنية على أساس توافق الآراء – ربما كان الأمر أعمق في الحرب الأهلية مما هو عليه اليوم.
وعلى المنوال عينه، فمن الصعب أن نتصور التطبيع في سوريا والعراق من دون إدخال نوع من النظام الذي يغرس وسطاً طائفياً وعرقياً في الحياة السياسية. قد لايكون هذا النظام الأكثر كفاءة، ولكنه سيكون نظاماً فريداً حيث يمكن أن ينجح فيه التعايش الطائفي.
لبنان يكاد يكون نموذجاً مثالياً لمنطقة الشرق الأوسط. ولكن في منطقة حيث لم تحيَّد الطائفية أبداً، حيث كانت فقط مخبأة بعيداً تحت طبقات من الترهيب، فإنه نموذج أكثر ملاءمة من أي نموذج آخر. البلاد قد تكون ما زالت فريسة لصراع طائفي، ولكنها لم تفعل ذلك حتى الآن وهذا وحده يجعل الأمر جديراً بالذكر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى